|
أم الخير
علي فضيل العربي
الحوار المتمدن-العدد: 7490 - 2023 / 1 / 13 - 10:20
المحور:
الادب والفن
صقلتها الليالي الطوال بالصبر و الثبات . أم الخير اسم على مسمى . امرأة جذورها عميقة ، ثابتة في قلب العزة ، و فرعها ضارب بجذوره في أعنان الشموخ . لم تلن لها قناة ، و ما انكسر لها رمح و لا سيف في وهج المعركة . ما استكانت لحظة بعدما أدركت أنّ الحياة الكريمة تُؤخذ غلابا ، و لا تُوهَب . شهد لها رفاق السلاح بالشجاعة . حملت بندقية الجهاد . لم يتزحزح لها بال حتى رأت بعينيها المحتل الغاصب يجر أذيال الهزيمة و الخسران نحو بلاده . هي امرأة لا تعرف المستحيل . قيل لها : - الجبال و الوديان و القمم و الفجاج للرجال . قالت بكل تحد و عزيمة : - الجهاد لم يشرّع للرجال دون النساء . انتفضت في وجه المتخاذل و المحتل . صارت بطولتها حكايات ترويها ألسنة الجدات و الأمهات . قالت أم الخير : - كنا في زمن الثورة قلبا واحدا ، و يدا واحدة . اقتسمنا الحزن و الجوع و المرض و كل ألوان العذاب . لكن يدا شيطانية تسللت في غفلة بيننا . و مازالت أم الخير على عهدها مع الأرض لا تبرحها إلا مكرهة . لقد نيّفت على الثمانين و لمّا تزل تصارع نوائب الدهر . تسرح ببقراتها ومعزاتها ، و تتفقد أشجار التين و الزيتون و تحث الأبناء و الأحفاد على خدمة الأرض شبرا شبرا . تذكرهم بتضحيات الأبطال من الرجال و النساء الذين صدقوا الله وعده في بذل الأموال و النفوس بسخاء لا مثيل له . و في ليلة ليلاء اقتحموا عليها بيتها المتواضع . كانوا أربعة أنفار مدججين بالسلاح . اقتادوا ابنها و واسطة عقد ها إلى وجهة مجهولة . حاولت منعهم بكل ما تملك من قوة و رجاء و توسل و حيلة . لكن قواها انهارت أمام جدار الصمت و الإصرار . قالت لهم متوسلة : - أنا امرأة مجاهدة ، ارحموا كبدي . وكان الردّ الصمت و الرفس و الدفع بأعقاب الرشاشات . لم تصدق ما رأت . عاد بها المشهد إلى الزمن الماضي الأسود . تساءلت مبهوتة القلب و اللسان : - أين أنا . أهذا حلم أم حقيقة . ألم نطرد المحتل الغاصب من أرضنا لنعيش في عزة و كرامة ؟ أم أن الاستدمار عاد و نحن في غفلة من أمرنا ؟ وها هو يمر العام الثالث عشر . سنة تجر سنة . و فصل يدفع فصلا . لم تر لطارق ظلا منذ تلك الليلة المشؤومة . كأن الأرض ابتلعته . طرقت كل الأبواب ، و ملأت خطواتها الواهنة جلّ السبل . وما وهنت عزيمتها لحظة لمعرفة مصير ابنها طارق . ترحل كل أربعاء لتنضم إلى مثيلاتها ممن فقدن فلذات أكبادهن في العشرية السوداء . هناك في ساحة الشهداء بقلب العاصمة تحاصرها العمارات و ضجيج السيارات و عيون المارة و كتائب الذكريات . ينفتح كراس الذاكرة . تتأوه. بالأمس كان المحتل الغاصب يطاردها ، يحاصرها ، يدفعها بفظاظة ، ينعتها بأقبح الأوصاف . لكنها لم تكن تخشاه . الحياة و الموت سيّان عندها . و اليوم يفعل ابن البلد مثل ذلك . لكنها تخشى أن يزهق روحها متهوّر ، لم يُسق من منبع أول نوفمبر . أو ربما كان أبوه حركيّا ابن حركيّ . تلك إذن هي الطامة الكبرى . تردد في سرّها : - كفانا فرقة و اقتتالا . ارموا السلاح جانبا و تعانقوا .ازرعوا الحياة أملا و حبا . حملته وهنا على وهن . سمته (طارق ) تيمنا بفاتح الأندلس ابن زياد . انتظرته بعد سبع سنوات من زواجها . عاشت فيها ويلات العذاب . لولا الصبر و الأمل ، لقضت نحبها من وخز النظرات و الهمسات و النمائم و مكائد النسوة . ولما استوى الساق و أينع ، و نضج الحلم ، و برأ الجرح . هبت على وطن الشهداء عاصفة الشؤم ، و غرق في لجج الدماء . لكنها دماء الإخوة ، أجج نيرانها الجهل و الحقد و الطمع و الأنانية . خرج طارق ولم يعد ، كأنه قطعة ثلج باغتتها شمس حامية . - نحتاج ابنك لعشر دقائق ثم يعود . اعتقدت أنهم رجال عاديون . لكنها أوجست خيفة بعد طول انتظار . تناسلت الدقائق إلى ساعات . و الساعات إلى أيام . و الأيام إلى شهور . و الشهور إلى سنين . قيل لها : - سيعود ابنك . - لكن ، متى ؟ و ينفتح أمام عينيها بصيص أمل . - ملف المفقودين تحت الدراسة . - إلى متى يا بن الحلال ؟ - إنّه ملف شائك . لابد من الصبر . - طال بنا الضر و الانتظار . و مرة تلو المرة تبوح بأوجاعها . تتسلل منها الكلمات عنوة . ـ أخذوه من البيت فجرا . لم يكن ابني من أولئك الخارجين عن القانون . لم يحمل خنجرا . لم يفجّر قنبلة . لم يكره أحدا . لم تكن له لحية . كان وطنيا . حفظ النشيد ( قسما ) منذ الصغر. بحّ صوتها من الشكوى . لم تدع مكانا إلا و قصدته ، و لسان حالها يردد : - يا رب ، يا خالق الجنّ و الإنس ، فرّج كربتي . تغمرها أمواج من الشوق . تتفحص أشياءه بعناية فائقة . تحتضنها كما كانت تحتضنه قبل الفطام . كتبه ، كراريسه ، صوره منفردا ، ومع أصدقاء الكلية ، بطاقات معايدة من زملائه و زميلاته ، رسائل ، ربطة عنق ، ساعته التي فقدت يد صاحبها ، فأضربت عقاربها عن الدوران ، كأنّها ملّت الوحدة و الانتظار . و مازالت أم الخير - كعادتها – تفتح نافذة غرفته لتصب الشمس في قلبها دفئا ، و تعبقها نسائم الفجر بعطرها . ومازالت أم الخير واقفة في محطة الانتظار . تمني نفسها المكتويّة بنار الفراق بعودة طارق سالم الروح و البدن . يومها ستولم بشاة أو شاتين ، و توزع الطعام على الجيران وذوي القربى ، و الفقراء و المساكين و الأيتام . و تدعو (الطلبة ) ليقرأوا القرآن حتى الفجر ، و تصنع لهم الشاي و ( الرفيس ) . ستشرق الشمس على الربوع التي طالما حجبتها الغيوم السوداء . طال حبل الانتظار ، و أم الخير معتصمة به . لا تستطيع التفريط فيه . هي مؤمنة إيمان العجائز بأنّ ابنها طارق سيعود إليها راجلا أو محمولا في نعش . لا بد أن يعود . لقد ألهمها الله روحا تسع الجميع . قيل لها : - لو كان ابنك عندنا لأطلقنا سراحه ؟ - أنا متأكدة بأنّه عندكم . - لكن كل سجلات المعتقلين خالية من اسمه ولقبه . - هل أعلمت الجهات المكلفة بملف المفقودين ؟ - أجل . لقد أعلموني بأنّ الحكومة ستدفع تعويضات لضحايا المأساة . - هذا أحسن حل لطيّ هذا الملف نهائيا . - أنا أريد ابني فقط . لا أريد تعويضا. - العني الشيطان . نحن نريد أن نطفيء هذه النار إلى الأبد . لا جدوى من النفخ في الرماد . لقد احترق أهل البلد جميعا . لم ينج أحد من لهيبها . انظري إلى الأشقاء في بلاد الشام و اليمن و العراق و السودان و ليبيا . لقد جرفتهم الفتنة ، ورحلت من ربوعهم حمائم السلام و الحب .. تحوّل ربيعهم المزعوم إلى فصل دمويّ أسود لا قرار له . أطرقت أم الخير هنيهة مطبقة الشفنين ، كأنّ رؤيا عنّت لها فجأة ، فغرقت في لجتها . طفقت تحدّث نفسها قائلة: - إن كان الأمر كما تقول يا بنيّ ، فإنّني أحتسب ابني طارق شهيدا لأجل هذا الوطن المفدّى . ثم قالت بصوت جهوريّ : - هي هكذا إذن . لم أكن أعلم بأنّ الشياطين يريدون حرق البلد باسم الربيع المزعوم . فليتركوننا و شأننا . شتاؤنا ، صيفنا ، خريفنا ، أجمل من ربيع بلا زهور ، بلا أطفال يلعبون بكرات الثلج . آه ما أحلى منظر الثلج على رؤوس جبالنا . كأنّ أم الخير استفاقت من كابوس مجهول المنتهى . إن كان ابنها طارق على قيد الحياة ، فإنّه عائد لا محالة . فهو يعرف طريق العودة . و إن كان قد لقيّ ربّه فإنّ لكل كتاب أجل . الموت و الحياة بيد الله . هو يحيي ويميت و يحيي . لا أحد يقتل الآخر إلاّ إذا أقبل الأجل . أدركت أم الخير حجم المؤامرة التي تُحبك في دهاليز أعداء الوطن ، من خونة الخبز و الملح و الملة ، و الحالمين بالعودة ، و الذين مازالوا يعظون على أناملهم منذ بصقهم وطن الشهداء مطأطئي الرؤوس . قالت لها إحداهنّ : - نرفع قضيتنا لمنظمة حقوق الإنسان العالمية . رمقتها باستغراب ، ثم قالت : - ومن هؤلاء كي ينصفونك ؟ - يقولون : أنّهم يعطون لكل ذي حق حقه. - و أين حقوقنا التي أخذوها منّا قهرا . أكلوا قمحنا و شعيرنا ، و سلخوا جلودنا ، وسلبوا أرضنا الطيبة ، واغتصبوا حريتنا و كرامتنا ، وأحرقونا في المغارات و الكهوف و الدشور . أعدموا من شعبنا الطيّب ، البريء الملايين .. آه يا غافلة ، إنّك كمن يحتمي بلهيب النار من حرّ الشمس ... - لكن حكومتنا لم تسمع لنا . - ولكن ، لا ننشر غسيلنا في ساحة الأعداء . متى كانوا يحبون لنا الخير ؟ - لكن ... - بدون لكن ، فوّضي أمرك لله . إن كان فقيدك حيّا سيعود يوما . و إن كان قد قضى نحبه ، فإن الأعمار بيد الله . هو الذي يفعل ما يريد. و سيظهر الحق مهما طال الزمن . ومازالت أم الخير تكثر من الدعاء في صلواتها . تفتح نافذة الأمل على مصراعيها ، لعلها تسترق وقع خطوات ابنها طارق .
( تمت )
#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 8 )
-
ربيع إيكوزيوميّ *
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 7 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 6 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 5 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 4 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 3 )
-
يوميّات معلّم في مدرسة ريفيّة ( 2 )
-
يوميّات معلم في مدرسة ريفيّة ( 1 )
-
فلسفة الوقت في حياتنا
-
أكتب لكم من الجنوب ( 10 )
-
التعليم قبل الديمقراطيّة .
-
أكتب لكم من الجنوب ( 9 )
-
بين المونديال الكروي في الجنوب و المونديال الحربي في الشمال
-
أكتب لكم من الجنوب ( 8 )
-
أكتب لكم من الجنوب ( 7 )
-
قمّة المناخ في شرم الشيخ وما تنتظره البشريّة منها .
-
أكتب لكم من الجنوب ( 6 )
-
أكتب لكم من الجنوب ( 5 )
-
أكتب لكم من الجنوب ( 4 )
المزيد.....
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
-
بعد جماهير بايرن ميونخ.. هجوم جديد على الخليفي بـ-اللغة العر
...
-
دراسة: الأطفال يتعلمون اللغة في وقت أبكر مما كنا نعتقد
-
-الخرطوم-..فيلم وثائقي يرصد معاناة الحرب في السودان
-
-الشارقة للفنون- تعلن الفائزين بمنحة إنتاج الأفلام القصيرة
-
فيلم -الحائط الرابع-: القوة السامية للفن في زمن الحرب
-
أول ناد غنائي للرجال فقط في تونس يعالج الضغوط بالموسيقى
-
إصدارات جديدة للكاتب العراقي مجيد الكفائي
-
الكاتبة ريم مراد تطرح رواية -إليك أنتمي- في معرض الكتاب الدو
...
-
-ما هنالك-.. الأديب إبراهيم المويلحي راويا لآخر أيام العثمان
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|