المثنى الشيخ عطية
شاعر وروائي
(Almothanna Alchekh Atiah)
الحوار المتمدن-العدد: 7485 - 2023 / 1 / 8 - 19:36
المحور:
الادب والفن
الغرائبية، كما تفصح قصائد ما بعد السوريالية في الشعر، لم تعد غريبةً، في نور وظلال ما يَفتح العلم الآن من خوافٍ تتكشّف لتتخفّى في ذات الوقت بين أبعاد الزمان والمكان، وبين المتاهات الجديدة التي تنفتح أمام الإنسان في بحثه عن وجوده؛ ليس فقط بالتساؤل التقليدي من أين جاء وإلى أين يمضي، وإنما بالتساؤلات المرعبة المربكة إن لم يكن موجوداً في أكوانٍ متوازيةٍ تنفتح على بعضها بأنفاق دودية، تُمكّنه من السفر عبر الزمن، أو ما هو أغرب وأرهب، إن لم يكن موجوداً في خوارزمية أو مصفوفة يمكن له أو لا يمكن إحداث انزياحات كهرومغناطيسية فيها، تفتح وجوداته الزمنية على بعضها لتثير ارتباكه أكثر حول قدره ومصيره، وربما لتلقيه داخل مسلسل "دارك ــ Dark"، أو داخل إحدى مجموعات شعر الغرائبية التي لم تعد غريبة، لكنها انفتحت على غرابات مدهشة أرحب، مثل مجموعة الشاعر السعودي أحمد الملّا: "يوشك أن يحدث" التي تُحدِث انزياحاً يلقي بقارئها في متعة التفاعل مع أحلامه وكوابيسه واستيهامات أحلام يقظته التي تعبّر عن تساؤلاته, وتعكس جرأته على ارتياد المجهول، ومخاوفه، في ظلّ ما يتكشّف ليلبس في ذات البرق ثوب الغموض، عدا عمّا ظهرَ من تطوراتٍ تُبلور شعر قصيدة النثر المعاصرة في أيام جوالاتنا الشعرية التي يمكن لصورتنا في المرآة التقاطنا منها:
"جئتُ من هناك/ من مشهدٍ تتخيّلُهُ/ ولم يحدث بعد،/ جئتُ من حيث لا تدري أنّكَ هناك أيضاً./ جئتُ من زمنٍ موازٍ/ لن تلاقيه/ ولن ينكشفَ إلا خطْفاً/ مثلما الآن؛/ عند انتحارِ الراوي./ جئتُ لأقولَ جملةً مسروقة/ لك أن تؤوّلَها كما تشتهي./ جئتُ برسالةٍ قصيرة/ لو فتحتَها لن تسمعَ منها شيئاً/ ولن تجدَ غيرَ احتمالاتٍ/ متشابهةٍ ومربكةٍ./ بسرعة تنغلقُ الكوّة ثانيةً/ أعودُ خائبًا من حيث جئت/ دونَ قدرةٍ على إفشاءِ المغزى:/ لا تتردّدْ/ أبدًا/ مزّقْها/ ليس من رسالة/ واهربْ ولا تصل.".
"يوشك أن يحدث"، ويليه "مرآة النائم"، كتاب يتضمن مجموعتين من القصائد، الأولى الأكبر تضم تسعاً وأربعين قصيدة نثر مصاغة بأسلوب السطر، وتتنوع بين القصيرة ومتوسطة الطول والطويلة، بعناوين موحية وتعكس بصورة مباشرة ولا مباشرة طبائع القصائد. ويضم الثاني أربع عشرة قصيدة، صاغ الملا ستاً منها بأسلوب قصيدة القطعة التي تتضمّن الحكاية، وستاً بأسلوب السطر، وجرب اختلاط القطعة مع السطر في اثنتين منها. وتخلّل المجموعتين رسومات مستوحاة من القصائد ومعبّرة عنها للرسامة ريم سليم البيّات.
في مجموعة "يوشك أن يحدث"، باقتطاف ما يتّسع المقال له من أشجار حديقتها الواسعة، يركّز الملّا، ويلمس القارئ الشغوف بالعلم ذلك، على صياغة قصائدها وفق مفاهيم فلسفة فيزياء الكوانتوم، إنْ على صعيد المعاني التي تتفتّح داخل القارئ بشاشات الاحتمالات، ويتداخل فيها الماضي والمستقبل آخذيْن مكان بعضهما على مصطبة الحاضر، أو صعيد تركيب الجملة الشعرية التي تتداخل فيها المعاني بمتضادات مدهشة تجعل منها تجربة تستحق المتابعة. ويعيش القارئ إلى جانب دهشته بتركيب جمل القصيدة، وقفلات القصائد غير المتوقَّعة، متعة التفكّر في حياته الماضية وتحدّيات التوق إلى تغييرها، داخل مصاهر الصّدفة والاختيار، مثلما يوشك أن يحدث في قصيدة "أدفع حياتي نحو الماء"، حيث: "يوجِعُني مرآها تتمرّغُ/ وتنفُخُ في الوحل/ وكلّما همَّتْ بالعودةِ مع الموج/ حفرَتْ حتْفَها بكلماتٍ/ أغصُّ بها وتلفظُني؛/ مشفِقًا أحملُها وأعلّقُها على جدارِ البيت/. لهذا أتفادَى الوقوفَ أمامَ البحر/ ومشاهدةَ حياةٍ ماضيةٍ في الغرق،/ أفكّرُ في كتابةِ حياتي/ وهي مقبِلةٌ؛/ ما يجري/ بكلِّ صُدفةٍ تغيّر مسارها". ومثلما يوشك أن يحدث داخل القارئ في قصيدة "ديفاجو"، التي تتفاعل مع نظرية الأكوان المتوازية؛ وفي قصيدة "خاتم" التي تعالج دائرة البداية هي النهاية والنهاية هي البداية؛ وفي القصيدة التي تعالج التشابك الكمومي "هو الشعر": "أكتبُهُ لسببٍ هشّ؛/ أن أكونَ في أكثر من مكانٍ في وقتٍ واحد/ أن أكونَ في أوقاتٍ متعدّدة/ في مكانٍ لا أعتادُه/. ويكفي أن أكونَهُ/ لأبتسمَ مُخفياً نقيصتي/ ضاحكاً بكلتا قبضتَيَّ/ كلما قرأني أحدٌ محرّفاً كلماتي/ أو مخفّفاً شتيمةَ هذا العالم.".
وحيث أن المجاز هو مركبة فضاء قصيدة النثر المفضّلة لدى شعرائها، يَدخل الملّا ليستلم دفّة مركبته باقتدارٍ وخصوصيّةٍ، سواءً على صعيد الجملة الشعرية، مثلما يوشك أن يحدث داخل قصيدة "دراجة هوائية" حيث: "تنقسمُ الجملة إلى نصفين،/ ترفع قدماً بعد أخرى/ وتدفعها؛/ كلمةً في أثر أختها،/ كأن تصعد تلاً/ لتهبطَ منحدرَ الجهةِ الأخرى/ بجناحين. دراجة هوائية؛/ ليس من دونها/ تلفّ الأرض؛/ دائخةً حول نفسها/ بلا علّة ولا معنى./ بقولك: / دراجة هوائية؛/ تضخّ الدم في الكون،/ ويسقط عن كتفيك؛/ المشي والوقوف،/ الكلمات والمعنى،/ السماء والأرض،/ الزمن والمكان،/ الغاية والطريق.".
أو على صعيد تركيب القصيدة الكلّي، وإدهاش القارئ في القفلة بأن ما قرأ هو مجازُ ما قرأ، مثلما يوشك أن يحدث في قصيدة "أرداني بسهمِه"، التي تثير دهشة ومتعة القارئ فيها مقاربة ومماثلة قوس الصيد بقوس عازف الكمان. وقصيدة "أفكارٌ يتيمة"، التي يتجلّى فيها إلى جانب قوة المجاز، استخدام الملّا للأمثال والأحاديث، من مثل "كل بيمينك، وكل مما يليك"، واستخدام الكتب والكتّاب في تخليل القصائد، كما في قصيدة "استغاثة"، حيث: "أفتحُ النافذةَ اذا اختنقَ طائري في "شرق المتوسط"/ أشعلُ المدفأة عند ثلجِ باموق،/ أضعُ إناءَ ماءٍ لو عبرَ تضاريسَ الثبيتي/ أطلقُ الموسيقى على "يمشي مخفورًا بالوعول"/ وأتركُ المصباحَ مضاءً/ أمامَ روايةِ الأعمى./ كتابٌ واحدٌ خبّأتُهُ عنه،/ أعودُ فزِعًا وقتَ ينقطعُ الصفير،/ كتابٌ خفتُهُ./ من دخلَ بين كلماتِهِ/ يضيع.".
إضافة إلى هذا، يعالج الملّا مفهوم التعامل مع الزمن والحياة وعيشهما، كما في قصيدة "العام الفائت" من خلال أعياد رأس السنة، وتقبّل الحياة كما جاءت بامتنانٍ ورضا عن النفس، ولكنْ أيضاً بكشف بعض انزياحاتها، كما في قصيدة "روايتي" حيث: "ما كنتُ متطلِّباً/ ولم أشترط يوماً على ما يحدث/ أخذتُ مما يليني من الصحن/ ما يجيءُ كما هو/ أخذتُ ما يدلُّ علي/ وقلّبتُه بين يدَي/ كأعطيةٍ ثمينة.".
كما يعالج الملّا بمنطق ولا منطق التشابك الكمومي فلسفة الذكرى بمجاز اللحظة التي مضت، في القصيدة الطويلة "أمكنة تتوارى"، ويعيش معه القارئ علاقة نجمنا الأصل، الشمس، وجوهر تداخلها بالأرض وكائناتها، في قصيدة: "حارس النبع"، حيث: "رفعتُ الشجرةَ/ إلى الشمس/ وحدّثتُها كي لا تخاف/ ولا تنطفئ: /ستكون أيامُكِ خضراءَ/ ها هي أختُكِ إلى جانبِك/ النافذة أقصدُ /سترافقُكِ نهارًا/ وتسهرُ الليل/ تحقّق أمانيك.".
وفي ختام أو لا ختام معالجاته، يُدخل الملّا القصيدة التي استقاهاً عنواناً لمجموعته: "يوشك أن يحدث" كما لو أنها لحظة نهاية الحياة، أو لحظة القيامة، بقدْر ما هي نازلةٌ فردية تحدث، وفقاً لترابط الكون وظواهره: "أبوابٌ ونوافذُ تُغلق على عجلٍ/ أنوارٌ تُطفأ/ صمتٌ واقف على رجْلٍ واحدة/ ريحٌ تصفر/ حذرٌ فالتٌ في الشارع/ صيحاتُ أمّهات/ ظلام. /عينُك ترف/ فراشةٌ حطّت على كتفِك/ نعالُك مقلوبة. /تتلفّت/ كأنما يناديك أحد./ أمرٌ ما/ يوشك أن يحدث. /احذرْ/ حين تعود/ احذرْ/ حين تتراءَى/ ليست الأماكن هي ذاتها ثانية،/ ليس الكائن هو ذاته ثانية".
في مجموعته الثانية: "مرآة النائم"، ينتقل الملا من الخطاب المتنوع بصيغة الأنا، إلى تغليب صيغة الراوي العليم، المتناسب مع أسلوب قصيدة القطعة، وتخليلها بالحكاية، عن استعادة طفولته وشبابه وكهولته، في قصيدة "عدسة مكبرة"؛ عن الأب والأم والجار الذي انتحر مختفياً في مرآته، بقصيدة "مرآة النائم"؛ عن حارسة مكتبته ريم، واستخدامه كتب "مدن الملح"، "مائة عام من العزلة"، والأفلام مثل: "تحدّثْ إليها"، في قصيدة "ننطق بالجملة في صوت واحد"؛ وعن جارته الخرساء التي دفعها أهلها للانتحار حين قيدوا رغباتها وزوّجوها بمن لا يفهمها في قصيدة "الشقحاء"؛ عن أصدقائه الذين يتكرّر حديثه عنهم مثل الأديب الراحل عبدالله باخشوين، عن احترام الحياة والامتنان للأرض وتبادل العطاء مع كائناتها؛ عن بائع تذاكر القطار الموسيقي؛ عن المجازر التي ينقلها التلفزيون كما لو كانت تجري على الشاعر الذي يشاهدها ويريد إيقافها، باحثاً عن الريموت كونترول، وعن السوريين الذين "يجهلون البحر"، ويعانون مأساة التهجير والقتل والاغتصاب والجوع على الدروب، والغرق في البحار التي تبتلعهم، بتعاطف إنساني دافق وصريح:
أرى سوريين يختفون/ بمجرّد صعودهم الماء/ ولا من يسأل: /من أين جاء الضباب؟/ هل بَهُتَ الشجر وتنكّس؟/ أين اختفت يدي عن يدي/ ماذا جرى قبل البحر،/ وما أسماؤهم؟/ أريد أن أكتب/ عن طفلٍ يعرف أن الله يستطيع/ ولا يفعل. /أن أكتب/ عن فتاةٍ خجلى من خيطِ دمٍ دبقٍ يسيل على ساقها. /عن فتى يخبّئُ/ قصاصةً بعنوان منزلٍ في الآخرة. /عن أب يؤجّل بكاءَه بأسنانٍ مكسورة. /عن امرأةٍ حامل تبتسم سراً لجنينها. /عن أم تضمّ صورَة في طرفها الأعلى شريطٌ مائلٌ وأسود. /عن رجالٍ يُضمِرون الضغينة. /عن الله السوري/ عن معنى الصرخة،/ تلك الصرخة/ وهي تسبق اختفاءَهم.".
أحمد الملا: "يوشك أن يحدث"
مسكيلياني للنشر والتوزيع: تونس 2020
220 صفحة
#المثنى_الشيخ_عطية (هاشتاغ)
Almothanna_Alchekh_Atiah#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟