|
زهرة الأنوناكي
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7477 - 2022 / 12 / 29 - 10:03
المحور:
الادب والفن
" 1 " ـــــــــــــــــــ على عادتها صباح كلّ يوم ، ما إن أفاقت الملكة " شبعاد " ، وفتحت عينيها الذابلتين المتعبتين ، وهي في فراشها ، حتى التفتت إلى كبيرة الوصيفات ، التي تقف على مقربة منها ، وقالت : أرجو أن يكون ابني الأمير قد أفاق من النوم . ومالت كبيرة الوصيفات عليها ، وردت قائلة بلهجة هادئة مطمئنة : نعم ، يا مولاتي ، لقد أفاق سيدي الأمير ، وتناول طعام فطوره . وأبعدت الملكة عينيها عنها ، وقالت بصوتها المتعب : آمل أن فطوره كان طيباً ومفيداً . ومالت كبيرة الوصيفات عليها ثانية ، وقالت : كلّ ما أمرت به ، وما يحبه سيدي الأمير ، كان أمامه على المائدة ، وقد أشرفت على ذلك بنفسي . وتناهى وقع أقدام نشطة من خارج جناح الملكة ، فاعتدلت كبيرة الوصيفات ، وقالت باشة : مولاتي ، ها هو سيدي الأمير قادم . فاعتدلت الملكة " شبعاد " في فراشها ، وقالت لكبيرة الوصيفات : دعينا وحدنا إذن . وتراجعت كبيرة الوصيفات ، وهي تقول بصوت هادىء : إنني أقف بالباب ، يا مولاتي . ودخل الأمير مبتسماً باشاً ، يزهو بعمره الذي لم يتجاوز العشرين ، وقال ، وعيناه لا تبصران غير أمه الملكة : مليكتي العزيزة .. وقاطعته الملكة مبتسمة : أنا أمك ، أيها الأمير . وأضاف بصوته المليء بالحيوية والشباب : ومليكتي .. وقاطعته الملكة ثانية : أنا ملكة أور كلها إلا إنت ، فأنا أمك ، أمك فقط . ومال عليها الأمير ، وقبلها ، ثم قال : آه ربيع ، ربيع سومر ، بل ربيع العالم كله . وتراجعت ابتسامة الملكة " شبعاد " ، وقالت : لا يا بنيّ ، قل خريف سومر ، فالربيع هو أنت . وجلس الأمير على طرف الفراش ، وأمسك يديها بكلتا يديه ، وقال : أنت الربيع الدائم ، وفي الخارج يضج الربيع ، تعالي معي ، وليتعانق الربيعان . وسحبت الملكة يديها برفق من بين يديه ، وقالت بصوتها الواهن : إنني متعبة بعض الشيء ، لم أنم جيداً ليلتي هذه ، وكذلك الليالي الأخيرة .. وصمتت لحظة ، ثم قالت بصوت منكسر : يبدو أن الآلهة العظيمة ، التي تحبك كثيراً ، تريدك أنت بالذات ، أن تجلس على عرش مدينتها المقدسة أور . وتطلع الأمير إليها بعينيه المحبتين ، وقال متأثراً : عرش أور العظيمة ، لا يليق إلا بملكة واحدة ، هي أنت ، يا مليكتي وأمي . وحاولت الملكة " شبعاد " أن تبتسم ، وهي تتطلع إليه بعينيها الذابلتين المتعبتين ، وقالت : ربيع سومر في الخارج ، وأنت الربيع ، يا بني ، فاذهب ، ولتتعانقا ، وهذا ما يفرحني كثيراً . ولاذ الأمير بالصمت ، فتمددت الملكة في فراشها متنهدة ، وقالت بصوت واهن متعب : اذهب ، يا عزيزي ، لكن لا تتأخر في الخارج ، أريد أن تتناول الغداء هنا ، لعلي أتناول معك بعض الطعام . وقبل أن يخرج الأمير من الغرفة ، قالت له الملكة : بعد ظهر اليوم ، ستزورنا الأميرة " اشوميا " ، وأريد أن تجلسا معاً .
" 2 " ــــــــــــــــــــ نزل الأمير من القصر ، وراح يتجول في الحدائق المحيطة به ، التي يتفجر فيها الربيع أزهاراً متضوعة ، وأغاريد تعزف من كل مكان . وعلى مسافة منه ، يقف حارسه الشاب اليقظ ، المسلح بسيف ورمح وخنجر ذي مقبض عاجي ، أهدته له الملكة " شبعاد " لشجاعته ووفائه للأمير . وفجأة ، ووسط أشجار أزهرها الربيع ، ظهرت امرأة عجوز نضرة ، تقف مبتسمة ، وهي تتطلع إلى الأمير ، بعينيها السوداوين الذكيتين . وعلى الفور ، أسرع الحارس الشاب نحوها ، ويداه تشدان على رمحه ، وقال لها بصوت حازم : أيتها المرأة العجوز ، اخرجي من هنا . لم تتحرك المرأة العجوز من مكانها ، ولم ترفع عينيها عن الأمير ، وكأنها لم تسمع الحارس الشاب أو تراه ، وقالت مخاطبة الأمير : أيها الأمير ، تعال . وحاول الحارس الشاب إبعادها ، موجهاً رمحه حولها ، وهو يقول : قلت لك ، اخرجي . ومرة أخرى ، لم تلتفت العجوز إليه ، وخاطبه الأمير قائلاً : أيها الحارس ، دعها . والتفت الحارس الشاب إلى الأمير ، وقال : مولاي ، دعني أبعدها ، إنها عجوز ساحرة . واقترب الأمير من المرأة العجوز ، وقال للحارس الشاب : ابتعد أنتَ . وتراجع الحارس الشاب متردداً ، وهو يتمتم : سيدي ، أرجوك ، لا تقترب منها ، إنها .. وأشار الأمير للحارس الشاب أن يسكت ويبتعد ، فلاذ الحارس بالصمت ، ومضى مبتعداً ، لكنه سرعان ما توقف ، وعيناه الحذرتان تتنقلان بين الأمير والمرأة العجوز ، التي قال إنها ساحرة . وتوقف الأمير أمام المرأة العجوز ، وحدق فيها ملياً ، ثم قال : لا أعرف كيف وصلتِ إلى هنا ، لكن يبدو أن لديك شيئاً تودين أن تقوليه لي . وابتسمت المرأة العجوز ، وقالت : نعم ، لديّ فعلاً ما أقوله لك ، أيها الأمير الشاب . وابتسم الأمير بدوره ، وقال : هذا ما خمنته ، تفضلي ، إنني أصغي إليكِ . وحدقت المرأة العجوز ، في عيني الأمير الشابتين المتلهفتين ، وقالت : إنني أرى جيداً ، ما رأيته أنتَ في المنام ، خلال اليومين الأخيرين . ولاذ الأمير بالصمت لحظة ، ثم قال : هذا مستحيل ، فما رأيته في المنام ، خلال الليلتين السابقتين ، لم يكن شيئاً عادياً ، كما إنني لم أحكه لأحد . وابتسمت المرأة العجوز ، وقالت : رأيت زهرة جميلة ، غريبة ، من أزهار الانوناكي . وهزّ الأمير رأسه ، وقل : لا ، لم أرَ زهرة ، وإنما رأيت فتاة ، فتاة جميلة ، غريبة الشكل . واتسعت ابتسامة المرأة العجوز ، وقالت : رأيتها في المنام ، خلال ليلتين متتاليتين .. وردّ الأمير قائلاً : نعم . وتابعت المرأة العجوز قائلة ، وهي مازالت تبتسم : فتاة بيضاء البشرة ، شعرها مثل الذهب ، وعيناها مثل سماء أور في فصل الصيف ، رأيتها تقف قرب شجرة ضخمة ، تطل على نبع ماء كالمرآة . وبدت الدهشة على الأمير ، لكنه قال : نعم ، رأيت هذه الفتاة فعلاً قرب النبع . واستدارت المرأة العجوز ، ومضت مبتعدة ، وهي تقول : هذا ما رأيته أنا أيضاً . وناداها الأمير قائلاً : أيتها المرأة ، توقفي . لكن المرأة العجوز لم تتوقف ، وواصلت سيرها ، وهي تقول : ستراها في نفس المكان ، الذي رأيتها فيه في المنام ، إنها .. زهرة الانوناكي . وحاول الأمير أن يلحق بها ، لكنها وكما ظهرت فجأة ، اختفت فجأة ، وتوقف الأمير مذهولا ، حائراً ، لا يعرف ما الذي عليه أن يفعل .
" 3 " ــــــــــــــــــــ قبل أن تتناول " نيبيرو " طعام الفطور ، تفقدت كالعادة خشفها ، الذي اصطادته لها أمها قبل أشهر قليلة ، وبحثت عنه قرب الشجرة ، حيث تجده كلّ صباح ، كأنه على موعد معها ، ليقوما بجولتهما المعتادة ، في الأطراف القريبة من الغابة . ونادته بلغته المحببة : خشوفي .. لكن خشوفي لم يردّ عليها ، فنادته ثانية بصوت أعلى : خشوفي .. خشوفي . وهذه المرة أيضاً ، لم يردّ عليها ، وبدل الخشف سمعت أمها تناديها من باب الكوخ : نيبيرو ، الفطور جاهز ، تعالي نأكل . وتلفتت نيبيرو حولها حائرة قلقة ، وقالت : ماما ، بحثت عن خشفي ، في كلّ مكان ، ولم أجده . ونظرت أمها إليها ، وقالت : لا تقلقي ، يا بنيتي ، إنه خشف صغير ، ولابد أنه يرعى في الجوار . وخيل لنيبيرو ، أنها تسمع مأمأة خشفها ، تصدر من مكان ليس ببعيد ، فاتجهت نحو مصدر المأمأة ، وهي تقول لأمها : أسمع مأمأته ، يا ماما ، سأذهب إليه ، وآتي به ، أخشى أن يبتعد ، فيأكله الذئب . وضحكت الأم ، وقالت : تعالي ، يا بنيتي ، لا يوجد هنا ذئب ، وسيعود خشفك إليك ، بعد أن يشبع . لكن نيبيرو لم تلتفت إلى أمها ، ومضت تلاحق ما توهمت أنه مأمأة خشفها ، وفي أجمة قريبة ، ملتفة الأشجار ، تفاجأت بظهور امرأة عجوز ، لم يسبق لها أن رأتها في الجوار ، فتوقفت مترددة ، خائفة . وأشارت لها المرة العجوز ، وقالت بصوت هادىء : تعالي ، أيتها الجميلة . واقتربت نيبيرو منها ، دون أن تتفوه بكلمة ، فحدقت المرأة العجوز فيها بعينيها النافذتان ، وقالت : آه يا للجمال النادر ، بشرة بيضاء ، وشعر ذهبي ، وعينان بلون سماء أور . وصمتت لحظة ، ثم قالت : أعرف عما تبحثين .. ونظرت نيبيرو إليها صامتة ، فقالت : أنت تبحثين عن خشفك . واقتربت نيبيرو من المرأة العجوز بلهفة ، وقالت : نعم ، دليني عليه ، إذا كنتِ قد رأيته ، أيتها الجدة . وتطلعت المرأة العجوز إليها مبتسمة ، وقالت : رأيته ، وسترينه أنتِ أيضاً ، بل ربما سترين معه .. غزال العمر ، الذي تحلم به كلّ فتاة في عمرك . وحدقت نيبيرو فيها ملياً ، وفكرت فيما تعنيه هذه المرأة العجوز ، التي تبدو داهية ، ثم قالت : من فضلك ، دليني على مكان الخشف ، فأنا أخاف عليه من الذئب . وابتسمت المرأة العجوز ثانية ، وقالت بصوت موحي : لا تخافي ، يا جميلتي ، لن يجرؤ ذئب على التعرض لخشفك ، أو الاقتراب منكِ .. وصمتت لحظة ، ثم تابعت قائلة : خشفك المحبوب بين يدين أمينتين قويتين ، نابعتين من أرض سومر السمراء الخصبة الطيبة . وتطلعت نيبيرو إليها حائرة ، وقالت : عفواً ، لا أفهم ما تقصدين ، أيتها الجدة . وردت المرأة العجوز قائلة : ستفهمين ما أقصده ، اليوم اليوم وليس غداً ، ستفهمين عندما تلقين خشفك . وتساءلت نيبيرو بصوت متلهف : وأين سأجده ؟ هذا الخشف الطائش . وأشارت المرأة العجوز إلى طريق يتوغل إلى وسط الغابة ، وقالت : سيري على هذا الطريق ، وستجدينه قرب شجرة ضخمة ، تطل على النبع . ونظرت نيبيرو بعينيها القلقتين إلى حيث أشارت المرأة العجوز ، ثم عادت بعينيها لتنظر إليها ، لتشكرها ، لكنها لم تجدها ، ولم تجد لها أي أثر . ووقفت نيبيرو خائفة ، وهمّت أن تسرع عائدة إلى الكوخ ، لكن تناهت إليها من أعماق الغابة مأمأة خشفها ، كأنها يناديها أن تعالي ، فتناست خوفها ، واندفعت بهمة نحو خشفها ، ملبية مأمأته الساحرة .
" 4 " ـــــــــــــــــــ سارت نيبيرو على الطريق ، الذي تحف به الأشجار ، وبدا وكأنه طريق مهد من أجلها ، في هذا الطرف المنعزل من الغابة . وخيل لها ، لسبب لا تدريه ، أن الطريق قد يطول ، لكننها لن تضل فيه ، وستصل النبع ، الذي حدثتها عنه المرأة العجوز . وفوجئت بالطريق ينفتح فجأة ، عن فسحة ساحرة الجمال ، تغمرها أشعة الشمس ، وقد توسطتها شجرة ضخمة ، وارفة الظلال ، تطل على نبع متدفق ، بدا ماؤه وكأنه مرآة صافية . وخفق قلبها فرحاً ، إذ لمحت خشفها ، يقف تحت الشجرة الضخمة ، لكنه لم يكن وحده ، فقد كان إلى جانبه ، يقف شاب غريب حسن المظهر . وتوقفت نيبيرو ، ونادت خشفها باسم التدليل ، وبصوت رقيق : خشوفي .. وتطلع الخشف إليها ، بعينيه الواسعتين السوداوين الجميلتين ، لكنه ظل في مكانه قرب الشاب الغريب ، لا يريم ، فأشارت نيبيرو له أن تعال ، وهي تقول له بنفس الصوت الرقيق : تعال ، يع عزيزي خشوفي ، تعال ، أنا حبيبتك نيبيرو . وهذه المرة أيضاً ، ظل الخشف في مكانه ، رغم أن الشاب الغريب لم يمنعه من تلبية ندائها له ، وتحيرت نيبيرو ، ماذا تفعل ، ورفعت عينيا الزرقاوين إلى الشاب ، ورأته يتطلع إليها صامتاً . ومأمأ الخشف ، فنادت نيبيرو قائلة : تعال .. تعال . ولم يتحرك الخشف من مكانه ، فقال الشاب الغريب : تعالي ، وخذيه ، إذا كان خشفكِ . وبصورة لا إرادية ، سارت نيبيرو نحوالشاب الغريب ، وعيناها الزرقاوان تغوصان في عينيه السوداوين ، وهي تقول بصوت رقيق : نعم ، إنه خشفي ، وعادة ما يستجسب لندائي ، عندما أناديه . وسكتت نيبيرو ، وعيناها الزرقاوان مازالتا تغوصان في عينيه السوداوين ، فقال الشاب : ربما يريد هذا الخشف ، أن أتعرف بك ، بعد أن تعرف هو بي . وتوقفت نيبيرو أمامه ، فتأملها ملياً ، ثم قال : يا للعجب ، لم يسبق لي أن رأيتك ، في هذه الغابة . وقالت نيبيرو : أنا أيضاً لم يسبق لي أن رأيتك هنا ، أو في أي مكان . وقال الشاب الغريب ، وهو مازال يتأملها : أنت لا تشبهين أحداً ، ممن أعرفه ، لا في أور ، ولا في أية مدينة أخرى من مدن سومر . ولاذت نيبيرو بالصمت لحظة ، ثم قالت : ربما هذا لأني لست سمراء مثلك ، أو مثل أمي . وهزّ الشاب الغريب رأسه ، وهو مازال يتأملها ، وقال : ليس هذا فقط ، لكن .. وسكت برهة ، ثم قال : أنت فتاة جميلة جداً . وبدل أن تتراجع نيبيرو ، أو تبدو محرجة ، ابتسمت فرحة ، وقالت : أشكرك . ونظرت نيبيرو إليه ، وعادت تغوص في عينيه السوداوين العميقتين ، وقالت : أنت أيضاً جميل ، وبالأخص عيناك . ولاذ الشاب الغريب بالصمت ، وراح أحدهما يتأمل الآخر ، يغمرهما شعور دافىء محبب ، وأفاقت نيبيرو ، حين سمعت خشفها يمأمأ ، فأخذته بين ذراعيها ، وقالت : ماما تنتظرنا الآن ، فلنذهب بسرعة إليها . واستدارت نيبيرو ، ومضت مسرعة على الطريق ، والخشف بين يديها ، فهتف بها الشاب الغريب : أيتها الجميلة ، أريد أن أراك ثانية . وردت نيبيرو ، دون أن تلتفت إليه : غداً . وتساءل الشاب الغريب : أين ؟ فقالت نيبيرو : هنا ، قرب النبع .
" 5 " ـــــــــــــــــــ عند منتصف النهار ، اعتدلت الملكة في فراشها ، فأسرعت إليها كبيرة الوصيفات ، ومالت عليها ، وقالت بصوت خافت : مولاتي . ومن غير أن تنظر إليها ، قالت الملكة بصوتها المتعب الواهن : يبدو أن الأمير ، لم يأتِ بعد . وردت كبيرة الوصيفات ، بنفس الصوت الخافت : سيأتي سيدي الأمير قريباً ، فهذا هو وقت عودته إلى القصر ، يا مولاتي . وصمتت كبيرة الوصيفات لحظة ، ثم ابتسمت قائلة : مولاتي ، إنه الربيع ، وسيدي .. ربيع . وتنهدت الملكة ، وقالت : آه ربيع سومر . ونظرت الملكة إلى كبيرة الوصيفات ، وقالت : أتمنى أن يأتي الأمير ، قبل أن تأتي الأميرة ، فقد اقترب موعد زيارتها لي . وقالت كبيرة الوصيفات بصوت مطمئن : سيأتي ، يا مولاتي ، سيأتي سيدي في الوقت المناسب ، وسيلتقي بسيدتي الأميرة . وتنهدت الملكة ثانية ، وهي تضع رأسها المتعب على المخدة ، وقالت وكأنما تحدث نفسها : آه .. رأيته في المنام .. هذه الليلة . ولأن كبيرة الوصيفات ، تعرف عادة الملكة ، فإنها لاذت بالصمت ، فتابعت الملكة قائلة : نعم ، رأيته ، زوجي الملك .. اباركي . وصمتت ثانية ، ثم قالت : بدا لي ، كما في الماضي ، في أوج قوته ، وجلاله ، وجماله .. ونظرت الملكة إلى كبيرة الوصيفات ، وأضافت قائلة : قال لي ، شبعاد ، إنني مشتاق إليك ، وقد آن الأوان ، تعالي إليّ ، تعالي ، تعالي . ومالت كبيرة الوصيفات على الملكة ، وقالت بصوت هادىء ، حاولت أن لا يكون حزيناً : مولاتي .. وفتحت الملكة عينيها ، وكأنها فوجئت بوجود كبيرة الوصيفات ، وقالت بصوت ازداد وهناً : لعل اباركي .. على حق .. فأنا متعبة جداً . وقالت كبيرة الوصيفات ، وهي تحبس دموعها : أنت بخير ، يا مولاتي ، وستتعافين قريباً بعون الآلهة ، فأور بحاجة إليك . ولاذت الملكة بالصمت برهة ، ثم نظرت إلى كبيرة الوصيفات ، وقالت : ستأتي الأميرة بعد قليل ، وسأكون منشغلة معها . وتمتمت كبيرة الوصيفات : أهلاً بسيدتي الأميرة . وقالت الملكة مخاطبة كبيرة الوصيفات : ابقي معي هذه الليلة ، أريد أن أتحدث إليكِ . وردت كبيرة الوصيفات قائلة : أمر مولاتي . وأغمضت الملكة عينيها الذابلتين المتعبتين ، فتراجعت كبيرة الوصيفات بهدوء ، ثم خرجت من الغرفة ، وبهدوء شديد أغلقت الباب .
" 6 " ــــــــــــــــــــ دخل الأمير إلى القصر ، ولمح في طرف الحديقة حارسين ، في ثياب يغلب عليها اللون الأسود ، فعرف أن الأميرة " " موجودة عند أمه الملكة ، وخمن أنها لابد وأن تكون متوترة لغيابه ، دون أن يظهر على وجهها الجامد أي شيء . وما إن دخل القصر ، واتجه إلى جناح الملكة ، حتى أسرعت إليه وصيفة شابة ، كانت واقفة على مقربة من باب الجناح ، وقالت له بصوت خافت : سيدي ، جلالة الملكة تسأل عنك ، وتريدك في جناحها . وواصل الأمير سيره ، دون أن يلتفت إلى الوصيفة الشابة ، فتوقفت الوصيفة الشابة ، ثم تراجعت ، وعادت بهدوء إلى مكانها . وفتح الأمير باب جناح الملكة ، ومضى إلى الداخل مسرعاً ، ونظرت الملكة إليه ، والأميرة بوجهها الجامد تجلس على كرسيّ إلى جانبها ، وقالت بنبرة عتاب : تأخرت ، يا بنيّ الأمير . وردّ الأمير قائلاً : عفواً ، يا أمي . ثم التفت إلى الأميرة ، ورمق وجهها الجامد بنظرة سريعة ، وقال : عمتِ صباحاً ، أيتها الأميرة . ونظرت الأميرة إليه ، وقالت : عمت صباحاً ، يا سيدي الأمير . وصمتت لحظة ، ثم قالت : أخبرتني جلالة الملك ، أنك خارج القصر ، منذ الصباح . ورمقها الأمير بنظرة خاطفة ، ثم قال : نعم ، كنت أتجول وحدي في الغابة . ونظرت الملكة إليه ، وقالت : ليتك أخذت الأميرة معك ، فأجواء الغابة رائعة ، في مثل هذه الأيام . وقال الأمير ، دون أن ينظر إلى الأميرة : في المرة القادمة ، سآخذها معي ، يا مولاتي . ونهضت الأميرة ، ووجهها الجامد ، باقٍ على جموده ، وانحنت للملكة ، وقالت : مولاتي ، اسمحي لي ، لقد أطلت زيارتي ، وجلالتك متعبة . ونظرت الملكة إليها ، وقالت : لا تنسي ، أريد في أقرب فرصة أن تذهبي مع الأمير ، وتتجولي معه في الغابة ، فالجو الآن ربيع . وتراجعت الأميرة قليلاً ، ووجهها باق على جموده ، وقالت : ما تشائينه ، يا مولاتي . ونظرت الملكة إلى الأمير ، وقالت : بني ، اذهب مع الأميرة ، حتى باب القصر . وردّ الأمر قائلاً : نعم ، أمي . وخرجت الأميرة من جناح الملكة ، وخرج الأمير معها ، وسارا معاً صامتين في أبهاء القصر ، وما إن خرجا إلى الحديقة ، حتى أسرع الحارسان ، بثيابهما التي يغلب عليها اللون الأسود ، وسارا خلف الأميرة . وعند باب القصر ، توقفت الأميرة ، والتفتت إلى الأمير ، وقالت : توقعت أن أراك في القصر ، فقد أخبرت جلالة الملكة بموعد زيارتي لها هذا اليوم . وردّ الأمير قائلاً : عرفت بأنك ستأتين ، لكني لم أعرف أنك ستأتين في هذا الموعد بالذات . ولاذت الأميرة بالصمت لحظة ، ثم قالت : أبي يسأل عنك ، فأنت لم تزره منذ فترة . فقال الأمير : تحياتي إلى أبيك ، قائد الجيش ، سأزوره في وقت قريب . والتفتت الأميرة إلى الحارسين ، وقالت بصوت جاف : هيا ، فلنذهب . وذهبت الأميرة ، والحارسان بثيابهما ، التي يغلب عليها اللون الأسود ، يتبعانها كظلها ، وظل الأمير برهة في مكانه ، ثم استدار عائداً إلى داخل القصر .
" 7 " ــــــــــــــــــ رغم تأخر نيبيرو ، التي خرجت للبحث عن خشفها ، ورغم انتصاف النهار ، إلا أن الأم لم تتناول لقمة واحدة من الطعام ، الذي أعدته للفطور . وجاءت نيبيرو أخيراً ، بعد منتصف النهار ، وما إن رأتها الأم مقبلة ، والخشف يهرول أمامها ، حتى أسرعت إليها متهللة ، وهي تقول : أقلقتني ، يا حبيبتي ، وخشيت أن يكون الذئب قد .. وضحكت نيبيرو ، وقالت : لكنك قلت لي ، يا ماما ، ليس في غابتنا ذئب . ومدت الأم يديها ، وعانقت نيبيرو بشدة ، وقالت : بعض الناس ، أسوأ من الذئاب ، وأخطر منهم . وتملصت نيبيرو من بين يديها ، وهي تقول : قوليها صراحة ، يا ماما ، إنك تخشين الناس ، لسبب لا أعرفه ، ولذا تختبىئين بي هنا ، في هذا الطرف من هذه الغابة الواسعة الموحشة . ودفعتها الأم برفق ، وقالت : أجعتني ، يا غزالتي ، ولم أتناول لقمة واحدة حتى الآن ، هيا سأسخن الطعام ثانية ، ونفطر ونتغدى في نفس الوقت . وفي الكوخ ، سخنت الأم الطعام ، الذي أعدته للفطور ، ووضعته على السفرة ، وجلست قبالة نيبيرو ، وقد لاحظت صمتها وسهومها غير العاديين ، وقالت : هيا يا حبيبتي ، وإلا برد الطعام ثانية . وتناولت نيبيرو بضعة لقيمات من الطعام ، وهي مازالت صامتة ساهمة ، ثم رفعت عينيا إلى الأم ، وقال بصوت غريب على الأم : ماما .. ولم ترتح الأم لصوت نيبيرو ، لكنها نظرت إليها ، وقالت : نعم حبيبتي . وقالت نيبيرو : أريد أن تصدقيني . وتوقفت يد الأم بلقمة الطعام ، قبل أن تصل بها إلى فمها ، وحدقت في نيبيرو ملياً ، ثم قالت : نحن ، أنا وأنت ، كما ترين ، يا حبيبتي ، نعيش هنا هادئتين آمنتين ، لا ينقصنا أي شيء . وتغاضت نيبيرو عما قالته الأم ، وتساءلت بصوت غريب : أصدقيني ، من أنا ؟ وفوجئت الأم بما قالته نيبيرو ، لكنها كتمت عواطفها ، وقالت : أنت ! أنتِ ابنتي . وحدقت نيبيرو فيها ، وقالت : ما أعرفه أن الفتاة تشبه عادة أمها .. ولاذت الأم بالصمت ، فقالت نيبيرو بنفس الصوت الغريب : عندما أنظر إلى ماء البركة الصافية ، وأحدق في وجهي ، بشرة بيضاء ، وشعر أصفر ، وعينان زرقاوان ، و .. لا أرى أي شبه بيني وبينكِ . ووضعت الأم لقمة الطعام جانباً ، وقالت : هذا يحدث أحياناً ، يا نيبيرو ، إنها إرادة الآلهة . وقالت نيبيرو ، كأنها لم تكن تصغي إلى الأم : أقول ، ربما كنت أشبه أبي ، الذي لم أره . ولاذت الأم بالصمت ثانية ، وكأنما أثار قول نيبيرو مواجعها الماضية ، ثم قالت : زوجي ، ذهب إلى الحرب ، ولم يعد مطلقاً .. ونظرت إلى نيبيرو ، ثم قالت : أردت الحقيقة ، وسأصارحك بالحقيقة كاملة ، يا نيبيرو . وقالت نيبيرو : هذا ما أرجوه . وتابعت الأم قائلة : ولدت طفلة ، بعد ذهابه إلى الحرب ، بأشهر قليلة .. وتساءلت نيبيرو : أنا ! لم تجبها الأم ، وإنما نهضت من مكانها ، وتوقفت عند الباب ، فنهضت نيبيرو ، ووقفت إلى جانبها ، وقالت : أكملي ، يا ماما . وقالت الأم بصوت تبلله الدموع : لكن الطفلة ماتت بعد أشهر ، وكانت مثلي سمراء .. وصمتت الأم ، ونظرت إلى نيبيرو ، وقالت : ذات ليلة مقمرة ، وكنت جالسة وحدي ، تحت شجرة أما الكوخ ، أقبل رجل غريب ، يشبهك تماماً ، لا أدري من أين جاء ، ووضع بين يديّ طفلة كالقمر .. وتساءلت نيبيرو ثانية : أنا ! وردت الأم قائلة : نعم ، أنتِ يا نيبيرو . وصمتت لحظة ، ثم تابعت قائلة : قال لي الرجل ، هذه طفلتي ، أبقيها عندك ، فأنا هارب من كوكب نيبيرو ، وقد أعود ذات يوم وآخذها معي . وصمتت الأم ، وقد غرقت عيناها بالدموع ، ثم مدت يديها ، وأخذت نيبيرو إلى صدرها ، وقالت : أنتِ ابنتي ، ربما أن ذلك الرجل الغريب ، كان مبعوثاً من الآلهة ، ليقدمك لي ، بدل ابنتي الصغيرة الراحلة .
" 8 " ــــــــــــــــــــ عند حوالي منتصف الليل ، أفاقت الملكة شبعاد ، كأن أحداً هزها برفق ، وما إن فتحت عينيها ، حتى رأت كبيرة الوصيفات تقف إلى جانب سريرها ، فتمتمت بصوت واهن : أنتِ هنا ! ومالت كبيرة الوصيفات عليها ، وقالت بصوت خافت : مولاتي . وحدقت الملكة فيها ، وقالت : الوقت متأخر ، كان عليكِ أن تكوني في فراشكِ . فقالت كبيرة الوصيفات بصوتها الخافت : مولاتي ، أردتِ أن تتحدثي إليّ ، فكيف أنام ؟ وهزت الملكة رأسها ، وقالت : آه منذ أن فتحت عينيّ ، على هذه الحياة ، قبل أكثر من أربعين سنة ، وأنت إلى جانبي ، لا تفارقينني . فقالت كبيرة الوصيفات : هذا شرف كبير لي ، يا مولاتي ، فأنت تاجي وتاج أور كلها . ولاذت الملكة بالصمت لحظة ، ثم قالت : مادمتِ هنا ، فأريد أن أتحدث إليك ، أصغي إليّ جيداً . وقالت كبيرة الوصيفات بصوت هادىء : كلي آذان صاغية ، يا مولاتي . وتابعت الملكة قائلة : قلتُ لكِ صباح اليوم ، أن مليكي ، ملك أور العظيمة ، اباكي ، يناديني من عالمه ، وعليّ أن ألبي النداء ، وأذهب إليه . وبصوت دامع ، قالت كبيرة الوصيفات : مولاتي .. وتابعت الملكة قائلة ، دون أن تصغي إليها : عندما تحين ساعتي ، وأرحل عن هذا العالم ، أريد أن أدفن إلى جانب زوجي ومليكي الحبيب اباركي .. ولاذت كبيرة الوصيفات بالصمت ، ودموعها تسيل على خديها ، وتابعت الملكة قائلة : أريده ضريحاً ضخماً ، واسعاً ، توضع فيه إلى جانب وصيفاتي وخدمي ، أثاثاً ضرورياً لرحلتي إلي العالم السفلي . وصمتت الملكة مرة أخرى ، ثم قالت بصوت راح يزداد خفوتاً شيئاً فشيئاً : وأريدك أنت نفسك ، أن تلبسيني ردائي المقصب ، وتضعي على جيدي جميع حلي من الذهب والأحجار الكريمة ، وأريد أيضاً قيثارتي الملكية ، التي صنعت خصيصاً لي . وصمتت الملكة شبعاد ، وانسدل جفناها فوق عينيها الذابلتين المتعبتين ، وخفق قلب كبيرة الوصيفات بشدة ، وهي تحدق فيها خائفة ، والدموع تسيل من عينها ، لكن قلبها هدأ قليلاً ، حين رأت الملكة تتنفس بانتظام ، وقد استغرقت في نوم عميق .
" 9 " ـــــــــــــــــــــ عند الضحى ، من اليوم التالي ، اتجهت نيبيرو وخشفها إلى النبع ، على أمل أن تسبق الأمير وتصل قبله ، لكنها حين وصلت فوجئت بالأمير ، يقف تحت الشجرة الضخمة ، المطلة على النبع . وما إن رآها الأمير مقبلة ، حتى أسرع إليها متلهفاً ، وقال : كم خشيتُ .. وقاطعته نيبيرو ضاحكة : خشيت أن يأكلني الذئب ، أنا وخشفي ، في الطريق إليك . وضحك الأمير بدوره ، وقال : بل خشيت أن لا تأتي ، خاصة وأنا لا أعرف بعد أين تسكنين . وتوقفت نيبيرو قبالته ، وعيناها الزرقاوان تتفرسان فيه ، وقالت : أما أنا فلم أخشى ذلك . وحدق الأمير فيها متوجساً ، متسائلاً ، وكأنه ظنّ أنها لا تهتم به ، بالقدر الذي يهتم هو بها ، فقالت : لقد رأيت في عينيك السوداوين ، أنك تريد أن تلتقي بي ، وها أنا أمامك قرب هذا النبع . ومدّ الأمير يده ، وأمسك يدها ، وسحبها برفق نحو الشجرة الضخمة ، وهو يقول : تعالي ، يا نيبيرو ، نجلس هنا ، تحت هذه الشجرة . وجلسا تحت الشجرة الضخمة ، وأحدهما يتمعن في الآخر ، وقال الأمير : آه يبدو لي أنك لستِ فتاة كباقي الفتيات ، وإنما ساحرة . وضحكت نيبيرو ، وقالت : ما دمت قد جئت بك إلى هنا ، فأنا ساحرة فعلاً . وهزّ الأمير رأسه ، وقال : لم أكن أعرف ، قبل أن أراكِ البارحة ، بأني شاعر . وتساءلت نيبيرو مندهشة : شاعر ! فتابع الأمير قائلاً : أصبحت أقول الشعر ، كما يقوله شعراء أور العشاق ، وإن كان ربما ليس في مستوى ما يقولونه ، إلا أنه عندي شعر ، صادق ، اسمعي ، سأقرؤه لكِ ، واحكمي أنتِ بنفسكِ . ووضعت نيبيرو وجهها القمر بين كفيها ، وهي جالسة قربه ، وقالت : تفضل ، إنني أسمع . وتهيأ الأمير لحظات ، ثم بدأ يقرأ بصوت هادىء : عندما يغيب القمر وتنطفىء النجوم أنتِ شمسي أشرقي عليّ وأضيئ لي الطريق إليكِ وسكت الأمير ، وهو ينظر إليها ، فابتسمت نيبيرو ، وقالت : هذا كلام غير عادي . وأضاءت ملامح الأمير فرحة كبيرة ، وقال : نعم ، كلام غير عادي ، إنه شعر . وتساءلت نيبيرو : هذا الشعر عني ! فرد الأمير قائلاً : عنك ولكِ أيضاً ، يا نيبيرو . واقتربت نيبيرو منه ، وقالت : اقرأ لي مزيداً من هذا الشعر ، يا عزيزي . واعتدل الأمير في جلسته ، وهو يحدق في عينيها الزرقاوين ، وقال : حبيبتي أنت في نظري تمثال من الذهب تحفة فنان في معالجة الخشب تحفة فنان في معالجة المعدن بودي أن تبقي أمامي إلى الأبد يا حبيبتي وهنا هبّت نيبيرو من مكانها ، وقالت : آه ما أروع هذا الكلام الشعر ، لكن .. ، فلأسرع ، لابد أن أمي المسكينة قلقة عليّ الآن . ونهض الأمير ، وقال : أنا أيضاً أنتظرك . ومضت نيبيرو مسرعة ، وهي تهتف قائلة : انتظرني غداً .. هنا .. قرب هذا النبع .
" 10 " ـــــــــــــــــــــ استمرت زيارات الأميرة للملكة شبعاد ، في الفترة الأخيرة ، كلّ يوم تقريباً ، وفي أوقات مختلفة ، ربما لأن حالة الملكة الصحية ، راحت تتراجع وتتدهور ، يوماً بعد يوم ، وهذا ما تقوله لأبيها قائد الجيش ، ولكن ربما كان هناك سبب آخر ، لم تصرح به لأحد . واليوم ، عند العصر ، نهضت الأميرة من مقعدها ، القريب من سرير الملكة ، وقالت : مولاتي ، أنت متعبة ، أستودعك الآلهة ، عليّ أن أذهب . وتنهدت الملكة ، وقالت بصوت واهن : للأسف ، تأخر الأمير اليوم أيضاً ، كنت أريده أن يجلس معكِ ، وتتبادلان الحديث معاً . فقالت الأميرة ، ووجهها الجامد لا يفصح عن مشاعرها الحقيقية ، رغم أنها كانت تعاني في داخلها : في يوم آخر ، يا مولاتي ، إن شاءت الآلهة . وفي اليوم التالي ، في نفس الوقت تقريباً ، استأذنت الأميرة للانصراف ، فقالت الملكة وصوتها يزداد وهناً : إنني خائفة على الأمير ، إنه يتأخر هذه الأيام في الغابة ، لسبب لا أدريه . وتوقف الأميرة ، وتطلعت إلى الملكة ، وقالت : لا أظنه يصطاد شيئا إلى هذا الوقت . وردت الملكة قائلة : لم يأتِ بصيد إلى القصر ، ولم يهتم بالصيد في يوم من الأيام . وتراجعت الأميرة إلى الوراء ، وهي تقول : هذا ما خمنته ، عمتِ مساء ، يا مولاتي . وخرجت الأميرة من القصر ، وحارساها اللذان يرتديان ثياباً يغلب عليها اللون الأسود ، يسيران كالعادة وراءها ، وكأنهما ظلان ّ لها . وفي الطريق قالت الأميرة بصوتها الآمر ، دون أن تلتفت إلى حارسيها : الأمير يقضي معظم نهاره في الغابة ، أريد أن أعرف ، ما الذي يفعله هناك طوال الوقت ، أريد هذا بأسرع وقت ممكن . في اليوم التالي ، اقترب الحارسان منها ، وكانت تقف في حديقة القصر ، وقال الأول : مولاتي ، راقبنا الأمير اليوم طول النهار . وحدقت الأميرة فيهما ، وقالت : حسن ، إنني أصغي ، عسى أن تكونا قد عرفتما شيئاً ذا بال . وتقدم الثاني منها ، وقال : إنه يلتقي وسط الغابة ، قرب النبع ، بفتاة غريبة ، تبدو وكأنها ليست من عالمنا هذا ، الذي نعيش فيه نحن البشر . وحدقت فيه مندهشة متسائلة ، فقال الحارس الأول : مولاتي ، إنها فتاة شابة ناصعة البياض ، شعرها أصفر كالذهب ، وعيناها زرقاوان . ولاذت الأميرة بالصمت لحظة ، ثم قالت : هذه الفتاة خطر على الأمير ، وعلى أور كلها ، وأنا لا أريد للأمير ولا لأور ، مثل هذا الخطر . وانحنى الحارسان ، اللذان يرتديان ثياباً يغلب عليها اللون الأسود ، ثم مضيا مبتعدين ، وظلت الأميرة ، جامدة الوجه ، واقفة وسط الحديقة .
" 11 " ــــــــــــــــــــــ قبل أن تشرق شمس هذا اليوم الربيعي الجميل ، مضى الأمير إلى موعده مع نيبيرو ، فعليه هذا اليوم أيضاً ، كما في كلّ الأيام السابقة ، أن يصل قبلها إلى الشجرة الضخمة ، التي تطل على النبع . إنه يريد أن يتأملها ، وهي تقبل راكضة نحوه ، والريح العاشقة تطاير شعرها الذهبي ، وتنقل إليه ضحكتها الفرحة فرحة الربيع في هذه الغابة . وبالفعل وصل الأمير إلى الشجرة الضخمة ، المطلة على النبع ، وشعر بالفرح لأن نيبيرو ، لم تكن قد وصلت بعد ، ها هو يسبقها اليوم أيضاً ، ووقف تحت الشجرة الضخمة ، ينتظر أن تقبل عليه راكضة ، والريح تطاير شعرها الذهبيّ . وفكر أن يمازحها ، ويوهمها بأنها سبقته في الحضور إلى النبع هذا اليوم ، فالتف حول الشجرة الضخمة ، وتوارى وراءها ، وراح ينتظر . ومرّ الوقت بطيئاً ، وارتفعت الشمس فوق الأشجار شيئاً فشيئاً ، وجاء الضحى ، لكن نيبيرو لم تطل ، ولم يرها تقبل راكضة نحوه ، والريح تطاير شعرها الذهبيّ ، ماذا جرى ؟ من يدري . وتطلع الأمير نحو الطريق ، الموصل إلى النبع ، لا بأس ، فالشمس تتدلل أحياناً ، وتحتجب بعض الوقت ، لتزيد الشوق إليها ، والشمس نيبيرو نفسها ، تأخرت بعض الشيء ، لكنها ستطل حتماً ، وستقبل راكضة ، والريح تطاير شعرها الذهبيّ . وارتفعت الشمس حتى بلغت كبد السماء ، لكن نيبيرو لم تطلّ ، وهمّ الأمير أن يخرج من وراء الشجرة ، عندما تناهى إليه ، وقع أقدام الخشف ، ومعها وقع أقدام أخرى ، وخفق قلبه بشدة ، صحيح أن الشمس تأخرت ، ولكن ها هي تطل عليه أخيراً . وأطل الأمير برأسه ، من وراء الشجرة الضخمة ، ورأى الخشف ، متجهاً نحوه على الطريق ، لكنه لم يرَ نيبيرو ، بشعرها الذهبيّ المتطاير ورأى بدلها امرأة وسطاً ، تسير بخطوات تائهة ، وعيناها الخائفتان تدوران فيما حولها ، بحثاً عن عزيز افتقدتاه . وخرج الأمير من وراء الشجرة الضخمة ، وتوقف على مقربة منها ينتظر ، وعيناه لا تفارقان الخشف والمرأة ، التي تسير إلى جانبه . وتوقفت المرأة أمامه ، وقد بدت مثقلة بالهم والحيرة ، وراحا يتبادلان نظرات صامتة متسائلة ، وأخيراً قالت المرأة بصوت أنهكته الدموع : جئت إلى هنا ، أبحث عن فاة بيضاء البشرة ، شعرها ذهبيّ ، وعيناها .. وقاطعها الأمير قائلاً : نيبيرو ! أين هي ؟ وترنحت المرأة ، وكأن أحدهم ضربها على رأسها ، وكادت تهوي إلى الأرض ، فمدّ الأمير يديه ، وأسندها بقوة ، فرفعت عينيها الغارقتين بالدمع إليه ، وقالت : أنت من تلقاه قرب النبع كلّ يوم إذن ؟ وبدل أن يجيبها الأمير ، سألها بحرقة : أين هي ؟ لماذا لم تأتِ ؟ إنني أنتظرها منذ الصباح . وتهاوت المرأة عند أسفل الشجرة ، وقالت بصوت باكٍ : أنا أسألك ، أين هي ؟ وصمتت لحظة ، ثم قالت : لو تعرف كم كانت فرحة بك ، وتركتُها تركض وراء فرحها ، رغم أنني كنتُ قلقة ، خائفة مما يجري بينكما . ومدّ الأمير يديه الشابتين ، وأنهضها واقفة ، وقال لها : حدثيني عن كلّ ما جرى . وتنهدت المرأة المنهارة ، وقالت بصوت باكٍ : ليلة البارحة ، سمعت نيبيرو خشفها يمأمىء خائفاً في الخارج ، فأسرعتْ إليه لتدخله إلى الكوخ ، لكنها تأخرت ، وخرجتُ أبحث عنها ، فرأيت الخشف في مكانه ، ولم أجد أي أثر لعزيزتي .. نيبيرو . وصمتت المرأة برهة طويلة ، ثم قالت وكأنها تحدث نفسها : من يدري ، لعل أباها ، الذي جاء بها من كوكب بعيد ، عاد أخيراً ، وأخذها معه .
" 12 " ـــــــــــــــــــــ بعد منتصف النهار ، وصل الأمير إلى القصر ، ورأى الحارسين اللذين يرتديان ملابس يغلب عليها اللون الأسود ، فعرف أن الأميرة موجودة هذا اليوم أيضاً ، عند أمه الملكة . ولاحظ الأمير ، أن الحارسين الغرابين ما إن رأياه ، حتى أطرقا رأسيهما إلى الأرض ، وهربا بأنظارهما المريبة من عينيه الحزينتين . وفي أعماقه ، كان السؤال لا يهدأ ، أين الشمس نيبيرو ؟ أين اختفت ؟ وأي غمامة سوداء تواريها ؟ وهل انتهى كلّ شيء ؟ وكأن نيبيرو لم تكن . ودخل القصر ، واتجه مباشرة إلى جناح الملكة ، ودخل غرفة نومها ، واعتدلت الملكة ، حين رأت الأمير داخلاً ، ونهضت الأميرة ، ورمقته بنظرة سريعة ، لا تفصح عما في داخلها ، وقالت مرحبة بصوت جامد : مرحباً ، أيها الأمير . وردّ الأمير بصوت مكتوم ، دون أن يلقي ولو نظرة واحدة عليها : مرحباً . ونظرت الملكة إليه ، وقالت بصوت قد استعاد بعض عافيته : حمداً للآلهة ، جئت اليوم مبكراً . لم يردّ الأمير بشيء ، ومع ذلك التفتت الملكة إلى الأميرة ، وقالت لها : هذا يوم جميل ، اخرجا الآن من القصر ، وتجولا في الغابة . وانتظرت الملكة رداً من الأمير ، أو من الأميرة ، لكن أحدهما لم يردّ بكلمة واحدة ، وربنا أرادت الملكة أن تداري الموقف ، فقالت : يبدو أن الأمير متعب اليوم ، فقد جاء تواً من الغابة . ونهضت الأميرة ، وانحنت للملكة ، وقالت : عن إذنك ، مولاتي ، أبي ينتظرني الآن في القصر . ولاذت الملكة بالصمت ، فتراجعت الأميرة ، ووجهها جامد كالعادة ، ثم استدارت ، وغادرت الحجرة ، دون أن توجه للأمير كلمة واحدة . ورفعت الملكة عينيها إلى الأمير ، وقالت بصوت متوجس : بنيّ ، الأميرة خطيبتك ، وعليك أن تبدي بعض الاهتمام بها ، فهي فتاة شابة . ونظر الأمير إلى الملكة ، وأطال النظر إليها ، ثم قال بنبرة قاطعة : إنها ليست خطيبتي . واتسعت عينا الملكة ، ولم تفه بكلمة واحدة ، فاستدار الأمير ، ثم غادر الغرفة . 8 / 1 / 2019
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان الحداد
-
رواية للفتيان من قتل شمر ؟
-
رواية للفتيان طفل من خرق
-
رواية للفتيان البجعة
-
رواية للفتيان جبل الوعول
-
جزيرة كالوبيوك
-
رواية للفتيان هوفاك
-
رواية للفتيان الزرقاء رائية ديدان
-
رواية للفتيان الجاغوار سيلو
-
رواية للفتيان عينا نيال طلال حسن
-
رواية للفتيان البحث عن تيكي تيكيس الناس الصغار
-
رواية للفتيان سراب
-
رواية للفتيان جزيرة الحور
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة شبعاد
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة
...
-
رواية للفتيان عين التنين
-
رواية للفتيان مملكة أعالي الجبال المتجلدة
-
مسرحية من ثلاثة فصول الطريق إلى دلمون
-
مسرحية من فصل واحد الثلوج
-
مسرحية من فصل واحد السعفة
المزيد.....
-
تلاشي الحبر وانكسار القلم.. اندثار الكتابة اليدوية يهدد قدرا
...
-
مسلسل طائر الرفراف الحلقة92 مترجمة للعربية تردد قناة star tv
...
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
-
انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني-
...
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|