محمد بن زكري
الحوار المتمدن-العدد: 7475 - 2022 / 12 / 27 - 00:32
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
ليس الاحتفال بعيد الميلاد في المسيحية ، و ما يصاحبه من طقوس دينية ، و تقاليد اجتماعية احتفالية متوارثة ، تأخذ طابعا ذا بُعد دينيّ ، بما في ذلك طقس شجرة الكريسماس ؛ سوى امتداد استنساخي لشعائر عبادة نجمية قديمة ، تعود أصولها إلى حضارات شعوب الشرق القديمة ، و هي عبادة الشمس ؛ حيث يتزامن الاحتفال بعيد الميلاد مع الانقلاب الشتوي ، عندما تبدأ الشمس بالتحول نحو الشمال ابتداء من يوم 25 ديسمبر (كما ستأتي الإشارة إليه لاحقا) ، و كان المصريون القدماء يحتفلون بحلول يوم 21 ديسمبر ، عند تعامد الشمس - صباحا - على قدس أقداس معبد الإله آمون رع في معابد الكرنك بالأقصر .
و قد عُبد إله الشمس في مصر باسم رع ، و في بابل و آشور باسم شمش و أوتو (و كان البابليون يحتفلون بعيد انتصار إله الشمس في 25 ديسمبر) ، كما عُبد لدى الكنعانيين و الفينيقيين باسم بعل ، و عند الإغريق باسم أبولو ، و عند الرومان باسم جوبتر . على أنه في كثير من ديانات الشرق القديمة ، توحدت عبادة الشمس بعبادة الإله الإبن ، كما في عبادة حورس بمصر ، و ميثرا في بلاد فارس ، و كريشنا بالهند ، و أدونيس عند الإغريق (استعاروه من الفينيقيين ، و من أسمائه عند الفينيقيين و الكنعانيين أيضا النعمان و بعل) . و من الملفت أن للشجرة - كرمز للحياة و الخصوبة - حضورا دائما في الطقوس التعبدية لكل تلك الديانات الزراعية (انظر كتاب لغز عشتار لفراس السواح) ، و تخبرنا أسطورة أدونيس أنه مولود من شجرة . و من الملفت أكثر - و بصورة بالغة الدلالة - أن جميع الآلهة الأبناء ، يشتركون في تاريخ ميلاد واحد ، هو 25 ديسمبر ، كما سيرد لاحقا .
و استطرادا .. بمناسبة أعياد الكريسماس (Christmas) ؛ كان البابا فرانسيس (بابا الفاتيكان) قد انتقد - في إحدى عظاته بالمناسبة - مظاهر الاحتفال الباذخة بعيد الميلاد ، واصفا أياها بـ (الضلال) ، و اعتبر أن لا أساس في الإنجيل لشجرة الكريسماس و بابانويل ، و أنها عادات دخيلة على المسيحية ، انتقلت إليها من الديانات الوثنية القديمة .
و جدير بالذكر أن تحديد يوم 25 ديسمبر كتاريخ لميلاد المسيح ، قد تم في عهد الإمبراطور الروماني قنسطنطين سنة 325 م ، بقرار اتخذته الكنيسة في مجمع نيقيا ، في ما يبدو استمالةً و احتواءً مسيحيا لأتباع المانوية ، الذين كانوا يحتفلون بميلاد الإله الشمس في مهرجان سنوي يوم 25 ديسمبر .
و عودة إلى موضوع عبادة الشمس و صلته بأعياد الميلاد ؛ فإن الإنسان قد أدرك منذ آلاف السنين - بل منذ ما قبل التاريخ - أنه لولا الشمس لما كانت حياة ، فتوجه إلى قرص الشمس بالعبادة ، و نسج حولها أساطيره الدينية (النجمية) .
و من تلك الأساطير : أسطورة الولادة من أم عذراء ، و أسطورة القيامة من الموت . و فيما يلي إضاءة تعتمد أساسا على دراسة للأميركية دوروثي ميردوخ (D.M. Murdock - Acharya S) ، بعنوان : Christ in Egypt : The Horus- Jesus Connection ، تتناول بعضا من تلك الأساطير ، في صلتها الوثيقة بالشمس ..
منذ زمنٍ يعود لنحو عشرة آلاف سنة مضت ، حفلت صفحات التاريخ بكتابات و أحافير ، تعكس احترام الشعوب و إعجابها بالشمس . و السبب هو ان الشمس تشرق كل صباح ، محضرةً معها الرؤية و الأمان و الدفء ، منقذةً الإنسان من براثن الليل البارد المظلم المسكون بخطر الحيوانات المتوحشة . فاستحق قرص الشمس أن يعبد كإله عليّ ، و أن يكون أبا للآلهة و الملوك المقدسين عند الشعوب القديمة .
لكن ما هي علاقة الشمس بالأساطير الدينية لتلك الشعوب ؟ ذلك هو ما سيتبين من الأسطر التالية ..
* في مصر : وُلد الإله حورس يوم 25 ديسمبر ، من أم عذراء هي إيزيس ، و ذلك بعد أن لقحها الشبح القدسيّ نِيف ، و ترافقت ولادته بظهور نجمة في الشرق ، و سافر معه 12 حواريا ، و صنع المعجزات مثل شفاء المرضى و المشي فوق الماء ، و قد خانه تيفون .. فصُلب ثم قام بعد ثلاثة أيام من بين الأموات .
* في فيريجيا (الإغريق و الرومان) : وُلد آتيس من الأم العذراء نانا ، وكانت ولادته في 25 ديسمبر، ثم صُلب و دُفن و قام من الأموات بعد ثلاثة أيام .
* في الهند : وُلد كريشنا من الأم العذراء ديفاكي ، يوم 25 ديسمبر ، مع ظهور نجمة في الشرق تعلن ولادته ، قام بالمعجزات ، و بعد موته قام من الموتى .
*في اليونان : وُلد ديونيسوس من أم عذراء ، في 25 ديسمبر ، و كان مُعلما رحالا ، صنع المعجزات مثل تحويل الماء نبيذا ، و بعد موته قام من الموتى .
* في فارس : وُلد ميثرا من أم عذراء في 25 ديسمبر ، كان لديه 12 حواريا ، صنع المعجزات ، و بعد موته بثلاثة أيام قام من الموتى .
و السؤال الآن هو : لماذا الولادة من أم عذراء في 25 ديسمبر ؟ و لماذا 12 حواريا ؟ .
و حتى نعرف الإجابة ، ينبغي أن ننظر في أمر آخر المخلّصين الشمسيين (يسوع المسيح) .
وُلد يسوع من العذراء ماري (مريم) في 25 ديسمبر ، مع ظهور نجمة في الشرق ، و ارتحل مع 12 حواريا ، و صنع المعجزات مثل شفاء المرضى و المشي فوق الماء و إحياء الأموات ، خانه يهوذا فصلب و دفن ، و بعد ثلاثة أيام قام من بين الأموات و صعد إلى السماء .
فحادثة الولادة - في الأساطير سالفة الإشارة - تتصل بظهور النجمة الشرقية (sirios) أشع نجمة في الليل ، حيث إنها في 24 ديسمبر تصطف مع النجوم المشعة الثلاثة (كوكبة الكلب الأكبر) ؛ فالنجوم الثلاثة و النجمة الأشع سيريوس (الشِّعرى اليمانية) . كلها تشير إلى الشروق في يوم 25 ديسمبر من كل عام .
و ثمة ظاهرة تحدث في 25 ديسمبر من كل عام ؛ حيث تبدو الشمس خلال ثلاثة أيام 22 و 23 و 24 من ديسمبر .. وكأنها قد توقفت عن الحركة ، ثم إنها تتحرك يوم 25 درجةً واحدة باتجاه الشمال ، مبشرةً بطول النهار و قدوم الربيع و الدفء . و هكذا فالشمس (تموت) لثلاثة أيام .. ثم تعود للحياة (تولد) يوم 25 ديسمبر . و في خلال أيام الموت الثلاثة (22 و 23 و 24 ديسمبر) ، تكون الشمس واقعة قرب التشكيلة الفلكية (صليبية) الشكل (crux) ، ولهذا السبب يقال : ماتت الشمس على الصليب .
أما أكبر رمز فلكي وضوحا ، في أساطير كلٍّ من حورس و ميثرا و يسوع ، فهو المتعلق بالحواريين الإثني عشر (12 حواريا) ، فهم بكل بساطة الأبراج الإثنا عشر (12 برجا فلكيا) في دائرة الأبراج الفلكية ، حيث إن يسوع - كما حورس و ميثرا - يمثل الشمس في تنقلها مع تلك الأبراج .
و عودة إلى التشكيلة النجمية الصليبية ، فإن الصليب ليس في الواقع (أصلا) رمزا خاصا بيسوع المسيح ، بل كان دائما رمزا روحيا مقترنا بالقداسة الربوبية ، يتصل بـ (موت الشمس على الصليب) و من ثم عودتها للحركة (قيامتها) عند تموضعها قرب التشكيلة النجميّة الصليبيّة .
و ختاما ، أضيفُ أن الرمز المقدس للإلهة الليبية (تانيت) ، هو علامة الصليب ، التي تشكل حرف (ت / +) في الأبجدية الأمازيغية ، و هو الحرف الذي يختصر اسم تانيت ، علما بأن الربة تانيت هي أول ربة عُرفت في مايثولوجيا الشعوب القديمة حتى الآن (فيما أعلم و حسب هيرودوتس) .
هامش : أرجح أن الاسم الصحيح للإله المصري حورس هو (هور) ، و ذلك لأن اللغة المصرية - وهي شقيقة اللغة الليبية - تخلو من الحرف الحلقي (حاء) ، أما حرف السين (s) فهو لاحقة تفيد العَلَميّة في اللغة اليونانية التي ترجمت إليها أسطورة (حورس) ، و كلمة (هور) في اللغة الليبية القديمة تعني (الحامي القوي) و كذلك الأمر بالنسبة لاسم الربة الفرعونية إيزيس .. فأرى أن الاسم الصحيح ربما يكون (ئيزا / إيزا) ، بعد حذف حرف العَلمية اليوناني (s) ، و لعله أن يكون هو أصل الاسم الليبي (يزّا) للإناث ، الذي توارى من الاستعمال في العقود الأخيرة .
#محمد_بن_زكري (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟