|
رواية للفتيان الحداد
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7470 - 2022 / 12 / 22 - 20:46
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
الحداد
طلال حسن
شخصيات الرواية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ الملك
2 ـ الأميرة امورشا
3 ـ الحداد ساكيل
4 ـ ابن الحداد ايلي
5 ـ الكاهن العجوز
6 ـ الكاهن الأعظم
7 ـ قائد الجيش
8 ـ الحارس
9 ـ الوصيفة
"1 " ـــــــــــــــ من بعيد ، والشمس تميل للغروب ، رآه يتسلق الجبل ، بخطوات ثقيلة متعبة ، متجهاً نحو الكهف ، حيث كان يقف ، مستنداً إلى عكازه . وحين انتهى إليه ، توقف لاهثاً ، فرحب به قائلاً : أهلاً ومرحباً ، أعانتك الآلهة الرحيمة . فردّ الرجل قائلاً بصوت لاهث : وأعانتك أيها الكاهن ، فنحن جميعاً بحاجة إلى عونها . وتمعن الكاهن العجوز فيه ملياً ، ثم قال : يبدو أنك تعرفني . وحاول الرجل أن يلتقط أنفاسه اللاهثة ، وقال : ولهذا قصدتك ، يا سيدي . وقال الكاهن العجوز ، وهو يتقدمه إلى داخل الكهف : ، متوكئاً على عكازه ، تعال إلى الداخل ، وارتح قليلاً ، فلابد أنك متعب وجائع . ودخل الرجل الكهف ، متحاملاً على نفسه ، فأشار الكاهن إلى فراش متواضع على الأرض ، وقال : تمدد هنا ، ريثما أعد وجبة طعان نأكلها . وتمدد الرجل ، وأغمض عينيه ، ولا يدري كيف أغفى ، واستغرق في نوم عميق ، وحين أفاق وجد الكاهن العجوز يجلس قبالته ، وأمامه سفرة من الطعام . واعتدل الرجل بشيء من الصعوبة ، فنظر الكاهن العجوز إليه ، وقال : لم أشأ أن أوقظك ، فأنت على ما يبدو ، قد جئت من مكان بعيد . وقال الرجل بصوت ينضح بالتعب : نعم أ أنا جئت من مدينة نينوى . فقال الكاهن العجوز : أنت الحداد ساكيل . ونظر الحداد إليه مندهشاً ، فقال الكاهن العجوز : عرفتك منذ البداية ، وهذا ما أثار دهشتي ، فما الذي يأتي بحداد مثلك إلى هنا . ونظر الحداد ساكيل إليه ، وقال : ربما كان السبب ، هو ما أتى بك ، يا سيدي . وقال الكاهن العجوز : أنت متعب وجائع ، كل الآن ، وسنتبادل الحديث فيما بعد . ومدّ الكاهن العجوز يده ، وبدأ يأكل ببطء ، وكأنما أراد أن يترك الفرصة للحداد ساكيل أن يأكل حتى يشبع ، وراح الحداد ساكيل يأكل ، مغالباً رغبته في التهام الطعام التهاماً ، رغم أن السفرة كانت متواضعة حد الفقر ، فلم يكن فيها سوى حليب ، وفاكهة ، وما يشبه الخبز ، وابتسم الكاهن العجوز ، وقال : عفواً ، هذا ما لدي من طعام ، وهذا ما آكله عادة كلّ يوم ، فأنا لا آكل لحوم أي حيّ من الأحياء . ووضع الحداد ساكيل لقمة أخرى في فمه ، وقال : لكن الآلهة ، كما تعرف ، أحلت لنا أكل اللحوم . ونظر الكاهن العجوز إليه ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقال الحداد : هذا ما يقوله الكاهن الأعظم . فقال الكاهن العجوز : أنا أيضاً ، وقبله ، كنت الكاهن الأعظم ، ولم أسمع إلهاً يقول ذلك . وصمت الكاهن العجوز لحظة ، ثم قال : الكائنات الحية جميعها ، بما فيه الإنسان ، لها أرواحها وحياتها ، وليس من حق أحد ، تحت أي ذريعة ، أن يسلبها حياتها ، ويحرمها من فرصتها في الحياة . وتوقف الحداد عن تناول الطعام ، فقال الكاهن العجوز : كل ، يا صديقي ، أنت لم تأكل شيئاً يذكر . فقال الحداد : أشكرك ، لقد شبعت . ونهض الكاهن العجوز ، ورفع بقية الطعام ، ووضعه جانباً ، ثم نظر إلى مدخل الكهف ، وقال : الليلة دافئة ومقمرة ، سأجلس قليلاً بباب الكهف . وصمت لحظة ، ثم قال : نم أنت إذا أردت . ونهض الحداد ساكيل ، وقال : لا ، لقد نمت ما فيه الكفاية ، أريد أن أجلس معك بباب الكهف . وسار الكاهن العجوز ، متوكئاً على عكازه ، وقال : هذا أفضل ، تعال يا ساكيل . وجلسا صامتين بباب الكهف ، يحف بهما الليل والقمر والأيام الماضية ، والتفت الحداد إلى الكاهن العجوز ، وإذا به يتطلع إليه ، وكأنه ينتظر منه أن يحدثه عما جعله يترك المدينة ، ويختار المجيء إلى هذا المكان البعيد المنقطع ، فقال ساكيل : تعرف أنني أحد أشهر حدادي مدينة نينوى ، وكان عملي الأساس هو صناعة المحاريث ، لكن حدث جفاف كبير ، جعل التربة صلبة ، حتى إن سكاكين المحاريث ونصالها بدأت تتكسر ، وذات يوم أرسل الملك في طلبي ، ومن هنا بدأت الحكاية ..
" 2 " ـــــــــــــــــــ منذ شروق الشمس ، وحتى غروبها ، يعمل الحداد في دكانه ، يساعده ابنه الشاب ايلي ، وجلّ عملهما كان صناعة المناجل ومحاريث الزراعة . وظل الإقبال على مناجله ومحاريثه كبيراً ، وكان يجيئه الفلاحون ، من كلّ مكان ، لجودة صناعته ، ومعاملته الطيبة . حتى بدأ الجفاف ، وتصلبت الأرض وصارت كالصخر ، مما جعل المحاريث تتكسر ، وكأنها مصنوعة من الزجاج ، وليس من المعدن . وبدأ الفلاحون يتذمرون ، ويعرضون عن شراء المحاريث منه ومن الحدادين الآخرين داخل المدينة ، ولاح في الأفق شبح مجاعة مريعة ، لم تشهدها المملكة منذ أجيال عديدة . ورغم أن الحداد ، ظلّ على نشاطه ، في صنع المحاريث والمناجل ، إلا أن ابنه الشاب ايلي بدأ يتململ ، وقالها صراحة أكثر من مرة : أبي ، لنتوقف بعض الوقت ، فالمحاريث تتكدس في دكاننا ، دون أن تجد من يشتريها ، لا من داخل المدينة ولا من خارجها .. وكان الحداد ساكيل يجيبه دائماً : هذه حالة مؤقتة ، يا بنيّ ، وقد يهطل المطر في أية لحظة ، ويعود الفلاحون إلى نشاطهم ، ولا يبقى عندنا محراث واحد . لكن المطر لم يهطل ، وظلت المحاريث مكدسة في مكانها ، وقلما أقبل فلاح ، وطلب شراء محراث واحد ، من المحاريث المكدسة . وقبيل مساء أحد الأيام ، وقبل أن يغلق الحداد ساكيل دكانه ، ويعود إلى البيت ، يرافقه ابنه ايلي ، جاءه حارس من حرس الملك ، وقال له : أيها الحداد . ونظر الشاب إليه ، ليرى ما يريده ، فقال الحداد : نعم . وقال الحارس : احضر أمام الملك غداً صباحاً . لم يتمالك الشاب نفسه ، فقال متسائلاً : ما الأمر ؟ وقال الحارس ، دون أن يلتفت إلى الشاب : لا تتأخر ، يا سايكل ، أنت ستقابل الملك . وقبل أن ينطق الشاب بشيء ، قال الحداد : حاضر ، سأكون غداً صباحاً أمام القصر . وأمام القصر ، كان الحداد ، قبل شروق شمس اليوم التالي ، لكن الملك لم يدعه حتى الضحى ، وحين مثل بين يديه ، انحنى له ، وقال : مولاي ، إنني الحداد ساكيل وأنا ، رهن إشارتك . ونظر الملك إليه ، وقال : أنت ترى ، يا ساكيل ، ما تواجهه المملكة من جفاف ، وتصلب في التربة ، نحن نواجه مجاعة غير مسبوقة . وهز الحداد رأسه ، وقال : نعم ، يا مولاي ، وهذا ما يحز في نفسي . وتابع الملك قائلاً : وكما تعرف ، لم تعد المحاريث ، التي تصنعونها ذات جدوى ، في مواجهة التربة ، فهي تتكسر مثل الزجاج . ولاذ الحداد ساكيل بالصمت ، منتظراً ما هو مطلوب منه ، فتابع الملك ثانية : وقد أرسلت في طلب أبرز الحدادين في المدينة ، لعل أحدهم يتوصل إلى صناعة محراث جديد ، من معدن جديد ، يحرث هذه الأرض المتصلبة ، ولا ينكسر كالزجاج . وقال الحداد : هذا ما يتمناه كلّ حداد ، يا مولاي . وحدق الملك فيه ، وقال : وهذا ما أريده منك . وردّ الحداد محرجاً : لا أستطيع أن أعدك بشيء ، يا مولاي . وقال الملك : لقد أشاد بك جميع الحدادين ، الذين دعوتهم إلى القصر ، وقالوا إن هذا المحراث إن لم يصنعه الحداد ساكيل ، فلن يقوى أحد في العالم على صنعه . ونظر الحداد ساكيل إلى الملك ، وقال : سأبذل قصارى جهدي ، يا مولاي . ونهض الملك ، وقال : أريد نتيجة مبشرة ، في أقرب وقت ، فالزمن ليس في صالحنا . ونظر الحداد إلى الملك ، وقال : مولاي . وحدق الملك فيه متوجساً ، وقال : نعم . وقال الحداد متردداً : هناك أمر يقلقني ، يا مولاي ، إذا نجحت في إيجاد مثل هذا المعدن . فقال الملك : لا أرى داع للقلق ، فأنت ستقدم خدمة عظيمة للوطن ، وأبناء الشعب . ومرة أخرى ، قال الحداد في تردد : هذا إذا اكتفينا بصناعة المحاريث . ولاذ الملك بالصمت مفكراً ، فقال الحداد : أنا لا أريد أن يصنع من هذا المعدن .. غير المحاريث . وقال الملك : أيها الحداد ، الناس في وطنك يواجهون مجاعة قاتلة ، اذهب وحاول أن تنقذهم .
" 3 " ــــــــــــــــــــ
خلال السنتين أو الثلاث الماضية ، وكلما تواجد الحداد الشاب ايلي ، حيث تتواجد الأميرة امورشا ، ابنة الملك ، بين صويحباتها من بنات الأمراء وكبار رجال الدولة ، كان ينظر إليها من بعيد . وحين كانت الأميرة امورشا ، تلمحه أحياناً ينظر إليها ، تشعر بدبيب فرح يغزو قلبها ، فرغم أنه حداد ، فإن أياً من الأمراء ، وأبناء كبار رجال الدولة ، الذين تعرفهم ، لم يكن يضاهونه وسامة وجرأة وقوة . وتمنى الحدادة الشاب ايلي ، وإن استبعد هذه الأمنية ، أن تتاح له الفرصة ، لرؤية الأميرة عن قرب ، لعله يتاح له أن يحييها ، ويتحدث إليها . وتحققت هذه الأمنية ، وربما بشكل لم يحلم به ، فقد أرسل الملك أحد حراسه إلى الحداد ، وطلب منه أن يوافيه في اليوم التالي هو وابنه . ولعل عشتار لعبت دورها ، أم هي الصدفة ؟ فقد مرض الحداد ، في ذلك اليوم ، بحيث لم يستطع أن يذهب إلى القصر ، فطلب من ابنه أن يذهب وحده ، ويطمئن الملك على نتيجة جهودهما ، من أجل إيجاد المعدن الجديد ، لصناعة محاريث قوية ، لا تنكسر كالزجاج ، حين تتعامل مع التربة التي صلبها الجفاف . وذهب الحداد الشاب ايلي إلى القصر لمقابلة الملك ، ومن طرف الحديقة لمحته الأميرة امورشا ، فأشارت له أن تعال ، وتوقف الحداد الشاب محرجاً ، فهتفت به بصوت عذب كهديل الحمام : تعال . واقترب الحداد الشاب ايلي منها ، وأحنى رأسه لها قليلاً ، وقال : طاب صباحك ، يا مولاتي . وردت الأميرة مبتسمة : طاب صباحك يا .. ؟ فقال الحداد الشاب : أنا ايلي . وقالت الأميرة : وأنا ... وسكتت الأميرة مبتسمة ، فقال الحداد الشاب ايلي : أنت الأميرة امورشا . وابتسمت الأميرة ، وقالت : آه هذا ما خمنته . ونظر الحداد الشاب ايلي إليها مستفهماً ، فقالت الأميرة : خمنت أنك تعرف اسمي ، ربما ليس لمجرد أني أميرة ، ابنة الملك ، فقد لمحتك مرات تتطلع إليّ . وأطرق الحداد الشاب ايلي ، دون أن يحير جواباً ، فقالت الأميرة : لستُ هنا صدفة ، يا ايلي . ورفع الحداد رأسه ، ونظر إليها مندهشاً ، فقالت الأميرة امورشا : علمت أنك ستأتي ، أنت والدك . وقال الحداد الشاب ايلي : لم يستطع والدي أن يأتي ، إنه مريض ، يا مولاتي . وابتسمت الأميرة ، وقالت : يا للصدفة . وصمت الحداد الشاب لحظة ، ثم قال : عن إذنك ، يا مولاتي ، لا أريد أن أتأخر عن جلالة الملك . فقالت الأميرة : لا عليك ، الملك مشغول الآن مع الكاهن الأعظم ، وقائد الجيش . وأشارت إلى مصطبة ، في ظل شجرة وارفة ، وقالت : تعال نجلس هنا . وسارت نحو المصطبة ، وسار الحداد الشاب إلى جانبها ، وجلست على المصطبة ، وقالت : تفضل ، نجلس ، لقد كلفت من يخبرني ، حالما يفرغ الملك من مقابلة الكاهن الأعظم وقائد الجيش . وجلس الحداد الشاب إلى جانب الأميرة امورشا محرجاً ، فنظرت إليه مبتسمة ، وقالت : حدثني عما ستخبر به أبي الملك ، إن لم يكن هذا سراً . فقال الحداد الشاب : لا يا مولاتي ، إنما سأبشر الملك ، بأننا توصلنا إلى إنتاج معدن جديد ، لا يضاهيه أي معدن معروف بقوته وصلابته . وابتسمت الأميرة ، وقالت : هذا عظيم . وتابع الحداد الشاب قائلاً : وسنصنع منه قريباً محاريث قوية ، لا تتكسر ، مهما كانت الأرض صلبة . وتساءلت الأميرة بنبرة مازحة : ألن تصنعوا منه غير المحاريث الزراعية ؟ فرد الحداد الشاب قائلاً : هذا ما نحاول إيجاد المعدن الجديد من أجله . ونظرت الأميرة إليه ، وقالت : كنت أتمنى أن تصنع لي منه إطارات لعجلات عربتي ، حتى لا تتكسر ، وأتعرض للأذى . فقال الحداد الشاب : هذا ممكن ، يا أميرتي ، وسيسرني أن أصنع هذه الإطارات بنفسي . وقالت الأميرة بلهجة مواربة : أشكرك ، لكن أريد شيئاً آخر ، غير الإطارات . ونظر الحداد الشاب إليها ، دون أن يتفوه بكلمة ، فقالت الأميرة : خنجراً صغيراً ، هذا ما أريده منك . وتساءل الحداد الشاب : خنجراً ! فقالت الأميرة : صغيراً ، لا لأذبح به حمامة أو غزالة ، بل لأقشر به التفاح . ونهض الحداد الشاب ، وقبل أن يرد بكلمة ، اقترب حارس من الأميرة ، وقال : مولاتي . ونهضت الأميرة ، ونظرت إلى الحداد الشاب ، وقالت : الملك يريدك الآن ، اذهب يا ايلي .
" 4 " ـــــــــــــــــــــ
اعتدل الحداد في فراشه ، حين دخل عليه ايلي مشرق الوجه ، عائداً من مقابلة الملك ، وقال : خيراً ، يا بنيّ ، أراك فرحاً . ونظر ايلي إلى أبيه ، بعينين يغشاهما شذا حدائق قصر الملك ، وملامح الأميرة امورشا ، وقال : لقد فرح الملك جداً بما أخبرته . ونظر عبر النافذة ، وقال بصوت حالم : وأنا أيضاً فرحت ، يا أبي . والتفت إلى أبيه ، وتابع قائلاً : قال الملك ، أريد أن تصنعوا من هذا المعدن محراثاً جديداً ، ونريد أن نجربه في أسرع وقت ممكن . وحتى قبل أن يشفى الحداد ساكيل تماماً ، باشر العمل هو وابنه ايلي ، في صناعة المحراث الجديد ، بالمعدن الجديد ، وبمواصفات متطورة جديدة . وذات يوم ، وقبل شروق الشمس ، جربا المحراث الجديد ، فربطاه إلى حصان قوي ، وغرزا مقدمته في الأرض الصلبة ، وصاح الأب بالحصان بصوت آمر مرتفع : حا .. حا .. حا . وانتفض الحصان ، محاولاً جرّ المحراث الجديد ، وضرب الأرض الصلبة بقائمتيه الأماميتين ، لكن دون جدوى ، وصاح الحداد ثانية ، وبأعلى صوته محركاً أعنة الحصان : حا .. حا حا . وقبل أن ينهي الحداد أمره ، اندفع الحصان بقوة ، وفي هذه المرة ، شق المحراث الجديد الأرض المتحجرة عميقاً ، وراحت تتكسر أمام شفراته القوية الحادة ، كما يتكسر الزجاج . وضج الحداد وابنه ايلي من الفرح ، وراحا يتقافزان ويتصايحان كالمجانين ، وصاح ايلي : أبتي ، لقد فتحنا نافذة على المستقبل . فرد الحداد صائحاً : بل باباً ، يا ايلي ، وأي باب . وتوقف الحداد ، ثم أمسك بذراعي ابنه ايلي ، وقال : ايلي ، فلنبلغ الملك بنجاحنا . وقال ايلي : نعم ، يا أبتي ، فلنبلغه . فقال الحداد : هذه مهمتك . ودق قلب ايلي ، فقد تراءت له على الفور الأميرة امورشا ، وقال : نعم ، يا أبتي ، هذه مهمتي ، بل فرصتي ، ولن أضيعها . وقال الحداد : أنت شاب ، ومبدع في عماك ، وأريد أن تكون لك حظوة عند الملك . ونظر ايلي بامتنان إلى أبيه ، وقال : أشكرك ، يا أبتي ، سأذهب غداً إلى القصر ، وأبلغ الملك . وفي صباح اليوم التالي ، ذهب ايلي إلى القصر ، وأخذه الحارس فوراً إلى قاعة العرش ، ودخل الحارس على الملك ، وقال : مولاي ، الحداد ايلي بالباب . ورغم وجود الكاهن الأعظم وقائد الجيش معه في القاعة ، قال الملك متلهفاً : فليدخل حالاً . ودخل ايلي ، وانحنى للملك ، وقال : أبشر ، يا مولاي ، لقد صنعنا المحراث الجديد . وابتسم الملك فرحاً ، وقال : هذا جيد . وقال ايلي : بل وجربناه أيضاً ، يا مولاي ، وكانت النتيجة مذهلة . ونهض الملك ، وقال للكاهن الأعظم وقائد الجيش : فلنتهيأ ، سنجربه غداً . ثم التفت إلى ايلي ، وقال : اذهب ، يا ايلي ، واستعد أنت وأبوك والمحراث الجديد ليوم غد . وعند خروج ايلي من القصر ، لمح الأميرة امورشا في طرف الحديقة ، وبدا وكأنها كانت تنتظره ، إذ لوحت له مبتسمة ، وأشارت له ، أن تعال . وأسرع ايلي إليها ، وقلبه يخفق فرحاً ، وحياها قائلاً : طاب صباحك ، يا مولاتي . وردت الأميرة مبتسمة : وصباحك ، يا حدادي ، لابد أنك جئتنا اليوم بخبر مفرح . فقال ايلي : نعم ، صنعنا المحراث من المعدن الجديد ، وأمر الملك أن نجربه غداً ، بحضوره وحضور الكاهن الأعظم وقائد الجيش . وصمت لحظة ، ثم قال ، وعيناه لا تفارقان عينيها : ستكونين موجودة ، يا مولاتي . فقالت الأميرة امورشا : طبعاً ، فلن أدع مثل هذه التجربة تفوتني ، خاصة وأنها نجاح لك . وسكتت لحظة ، ثم قالت مبتسمة : إذا كان المحراث بهذه الصلابة ، فكيف سيكون خنجري الصغير ؟ وأطرق ايلي رأسه ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة .
" 5 " ـــــــــــــــــــ
عند شروق الشمس ، صباح اليوم التالي ، كان الجميع حاضرين في المكان المعين ، لتجربة المحراث الجديد ، الملك ، والأميرة ، والكاهن الأعظم ، وقائد الجيش ، والحداد ساكيل ، وابنه ايلي ، وسائس الخيل ، وكذلك ، وفي المقدمة .. المحراث الجديد . وأشار الملك ببدء التجربة ، وعلى الفور ربط السائس أربعة جياد قوية إلى المحراث ، ونظر الملك إلى الحداد ، وقال : أرنا قوة المحراث الجديد ، وأرجو أن يكون كم وصفته لنا . وتقدم الحداد ساكيل من الجياد الأربعة ، التي ربط بها المحراث الجديد ، وقال بثقة : هذا ما ستراه بنفسك الآن ، يا مولاي . وأمسك الحداد بمقبض المحراث الجديد بيد ، وباليد الأخرى أمسك أعنة الجياد الأربعة وحركها بقوة ، ثم صاح بأعلى صوته : حا .. حا .. حا . وعلى الفور ، انتفضت الجياد الأربعة ، واندفعت إلى الأمام ، جارة وبقوة المحراث الجديد ، ولمعت شرارات من حوافر الجياد ، وراح الخشب يطقطق ، والسروج تئن وتتوجع ، وارتفع صرير سكاكين المحراث ، وهي تنغرز في التربة الصلبة ، ودون أن يتوقف ، رسم الحداد بمحراثه الجديد ، خطاً كبيراً عميقاً مستقيماً ، لم يسبق لأحد أن خط مثله على الأرض .. وأشرق وجه الملك فرحاً ، وهنأ الحداد على نجاحه قائلاً : أهنئك أيها الحداد العظيم ، أنت منذ الآن ، ستكزن حداد القصر الملكي . واقتربت الأميرة امورشا من ايلين ، وهمست له : أهنئك يا حدادي ايلين ، هذا النجاح العظيم ليس لك فقط ، فهو نجاح لي أيضاً . وتورد وجه ايلي ، وشعت عيناه فرحاً ، وردّ بصوت خافت : أشكرك ، يا مولاتي . ونظر الكاهن الأعظم إلى الحداد ساكيل ، وقال : لتباركك الآلهة ، يا ولدي . وشدّ قائد الجيش على كتف الحداد ، وقال : ليتك تخبرنا ، كيف صنعت هذا المحراث الجبار . فابتسم الحداد ، وقال : إنه سرّ ، يا سيدي . وهمّ قائد الجيش أن يرد على الحداد ، فقال الملك : المهم الآن ، أن نصنع أكبر عدد من هذه المحاريث ، ونوزعها على المزارعين ، لعلنا نعيد للزراعة مجدها الأول ، في مملكتنا العزيزة . وعلى الفور ، وبإشراف من الحداد ساكيل وابنه ايلي ، راح حدادو المملكة ، يصنعون محاريث كثيرة ، من المعدن الجديد ، الذي لا تقاومه أشد الأراضي صلابة ، في طول البلاد وعرضها . ووزعت المحاريث الجديدة على المزارعين ، شيئاً فشيئاً ، وشيئاً فشيئاً ، شقت الجداول والسواقي ، وتدفقت المياه من الآبار ، التي حفرت في كلّ مكان لا تصلها مياه الجداول والسواقي . وأمرعت الحقول ، وازدهرت البساتين ، وعمّ الخير والرفاه الجميع ، وامتلأت مخازن الملك والمعابد وثكنات الجيش بشتى الغلال ، حتى فاضت عن الحاجة . وبعد أن اطمأن الملك إلى الأوضاع في الداخل ، وولى وربما إلى الأبد شبح المجاعة ، التفت إلى الأوراق القديمة المصفرة ، ينفض عنها الغبار ، ويراجعها مع الكاهن الأعظم وقائد الجيش . واجتمع الملك بهما في قاعة العرش ذات يوم ، وقال : نحن الآن أكثر مملكة مزدهرة في المنطقة ، وكلّ هذا بفضل المحراث الجديد . وعلق قائد الجيش : نعم ، فهو مصنوع من معدن صلب للغاية ، لا يقاومه أي حقل . وقال الكاهن : لتباركنا الآلهة ، وتبارك مليكنا العظيم ، وتديم علينا هذا الرخاء . ونظر الملك إليهما ، وقال : لكن هذه الرخاء قد يزول ، في أية لحظة . وبدا التفكير والقلق على قائد الجيش ، فقال الكاهن : مادامت الآلهة راضية عنا ، فلن تزول . ونظر الملك إلى قائد الجيش ، وقال : إن جيراننا ليسوا راضين عنا ، بل ويطمعون في خيراتنا . وهزّ قائد الجيش رأسه مفكراً ، فقال الملك : من الشرق جيران همج ، طالما أغاروا على وطننا في الماضي ، وألحقوا الدمار فيه . وصمت لحظة ، ثم قال : ومن الغرب مملكة ضعيفة ، أراضيها واسعة وخصبة ، إن محراثنا الجديد سيحولها إلى ذهب ، ونحن نحب الذهب . وقال الكاهن الأعظم : لتكن مشيئة الآلهة . وقال قائد الجيش : مرنا فنطيعك . وقال الملك : لكن ينقصنا شيء واحد . وصمت لحظة ، ثمّ قال وكأنما يحدث نفسه : سيوف بصلابة المحراث الجديد .
" 6 " ــــــــــــــــــ
جاءته وصيفة الأميرة ، وكان وحده في البيت ، وقالت له : سيدي ايلي .. وقال ايلي متسائلاً : نعم ؟ فقالت الوصيفة : مولاتي الأميرة امورشا ، تطلب أن توافيها اليوم ، قبيل المساء . ونظر ايلي إلى الوصيفة ، وقال : أخبري مولاتك الأميرة امورشا ، بأني سأحضر في الموعد المحدد ، ولكن ليس اليوم .. وصمت ايلي لحظة ، ربما لتستوعب الجارية قوله ، رغم وضوحه ، ثم قال : بل غداً . وفي الغد ، وقبيل المساء ، وافى ايلي الأميرة امورشا ، وكانت تنتظره ، في مكانهما المعهود من الحديقة ، وعلى غير عادتها ، لم تستقبله مبتسمة ، فانحنى لها قليلاً ، وقال : طاب مساؤك ، يا مولاتي . وردت الأميرة امورشا مقطبة : طاب مساؤك . وأدرك ايلي أن الأميرة امورشا مستاءة ، فقال : لم يكن لي أن أوافيك البارحة ، يا أميرتي ، وبين يديّ تحفة أريد أن أكملها . ونظرت الأميرة امورشا إليه مستفهمة ، دون أن تتفوه بكلمة ، فقدم إليها علبة ، وقال مبتسًماً : تفضلي ، يا مولاتي . وأخذت الأميرة امورشا العلبة مستغربة ، فقال ايلي : افتحيها ، يا أميرتي . وفتحت الأميرة امورشا العلبة ، وأشرقت عيناها فرحا ، وتمتمت : الخنجر . فمال ايلي عليها ، وقال : أظن أنك الآن ، يا أميرتي ، غفرت لي تأخري . ونظرت الأميرة امورشا إليه ممتنة ، وقالت : بل وأشكرك ، أشكرك جداً . وهنا اقترب منهما الحارس ، وانحنى للأميرة امورشا ، وقال : مولاتي ، جلالة الملك يريد أن يوافيه السيد ايلي في قاعة العرش . ونظر ايلي إلى الأميرة امورشا ، فأشارت إلى إحدى النوافذ ، وقالت : جلالة الملك رآك من تلك النافذة ، وهو يعرف بأنك ستحضر ، في هذا الموعد . وصمتت لحظة ، ثم قالت : اذهب ، يا ايلي ، إن جلالة الملك ينتظرك . وذهب ايلي مع الحارس إلى قاعة العرش ، واستقبله الملك مرحباً ، ثم قال : ايلي . وقال ايلي : نعم ، يا مولاي . وألقى الملك نظرة عبر النافذة ، وقال : أنا أعرف بلقاءاتك مع الأميرة امورشا . وأطرق ايلي محرجاً ، فقال الملك : ابنتي شابة ، والكثير من الأمراء يحاولون التقرب منها . وصمت الملك ، ثم قال : ايلي ، أنت شاب ناضج ، وواعي ، ومخلص ، وطموح ، مملكتنا تقدمت جداً ، وازدهرت ، والفضل يعود لك ولأبيك . وقال ايلي : هذا واجبنا ، يا مولاي . وقال الملك : وواجبنا كلنا أن نحمي هذا الازدهار ، ونستعد لمواجهة أي طامع من الأعداء وخاصة الخارجيين ، وما أكثرهم . وصمت الملك ، ولاذ ايلي أيضاً بالصمت ، فتساءل الملك : ماذا تقول ، يا ايلي ؟ ونظر ايلي إلى الملك ، وقال : أنا لا أقول إلا ما تقوله أنت ، يا مولاي . واقترب الملك من ايلي ، وقال : أعداؤنا كثر ، ولن نتغلب عليهم بما لدينا من أسلحة . ولعل ايلي أدرك ما يرمي إليه الملك ، فأطرق صامتا ، ومال الملك عليه ، وقال : قد لا يتفهم والدك ما نواجهه ، أما أنت ، فشاب واعي ، وطموح . ونظر ايلي إلى الملك ، وقال : أبي لا يقل وعياً ووطنية عني ، يا مولاي . وقال الملك : لأبيك مكانة كبيرة عندي ، وقد ساهم في إنقاذ الوطن من المجاعة ، وإلا لربما كان لي معه موقف آخر ، لا أتمناه له . ولاذ ايلي بالصمت ، وقد تعكرت عيناه ، فمال الملك عليه ، وقال : لن أجبر أباك على ما لا يريده ، مادام بإمكاني أن أتعاون معك . وبقي ايلي في صمته ، فقال الملك بصوت هادىء طيب : ايلي . ونظر ايلي إليه متردداً ، فقال الملك ، وابتسامة ممنية تتخايل على ملامحه : لن تكون الأميرة امورشا لأحد من الأمراء ، الذين يتقربون إليها ، وأنا معها ، ستكون لمن يريدها وتريده ، ولمن يريد خير المملك وخير ناسها ، ولا يبخل عليهم بسر .
" 7 " ــــــــــــــــــــ
منذ أن عاد ايلي من القصر ، ولأيام عديدة ، وهو يحوم حول أبيه ، متوتراً قلقاً ، لا يدري ماذا يفعل ، ولم يغب هذا عن الحداد ، فهو يعرف ابنه ايلي ، وخمن أن وراء هذا ناراً توشك أن تندلع . حتى كانت ليلة ، غاب فيها القمر ، والحداد يتهيأ للنوم ، تطلع فيها ايلي إليه ، وقال : أبي . ونظر الحداد إليه متوجساً ، فقد شمّ رائحة نار ، إنه حداد ، وهو لا يخطىء هذه الرائحة ، مهما كانت ضئيلة ، وقال : نعم ، يا ايلي . وألقى ايلي شرارته قائلاً : الوطن في خطر ، يا أبي . ولاذ الحداد ساكيل بالصمت ، فهذه الشرارة غير عادية ، وليس الهدف منها إشعال كير الحداد لهدف بريء ، واقترب ايلي منه ، وقال : أبي ، لقد ساهمنا بصنعنا للمحراث الجديد ، في القضاء على المجاعة ، وإنقاذ الناس من الجوع ومهانة الفقر والحاجة ، واليوم علينا أن نساهم في حماية الناس ، والدفاع عن الوطن . وحدق الحداد ساكيل فيه ، ثم قال : ايلي ، هذه الأفكار ليست أفكارك .. وقال ايلي بنبرة رجاء : أبي . وتابع الحداد قائلاً : وأنت تعرف رأيي .. ومرة أخرى ، وبنبرة رجا ، قال ايلي : أبي .. أبي .. وثانية تابع الحداد قائلاً : بل إن الملك نفسه يعرفه ، وكان شرطي لعمل المحراث الجديد . وصمت ايلي ، ثم قال بنبرة ثابتة : الأميرة امورشا ، تقدم للزواج منها ، أمراء عديدون .. ونظر الحداد إليه متوجساً ، فقال وهو يغادر الغرفة : سأتزوج الأميرة . وتزوج ايلي الأميرة امورشا . وهذا ما أفرح الملك والكاهن الأعظم وقائد الجيش ... وعمّ الفرح كلّ القلوب ، البريئة منها وغير البريئة ، عدا قلب الحداد ساكيل ، إذ شعر ، وسط تلك الأفراح ، بشرارة نار توشك أن تشتعل . واشتعلت الشرارة ، حتى قبل مرور شهر واحد على الزواج ، فقد اندلعت النيران في أكيار الحدادين ، في طول المملكة وعرضها . وتحت إشراف ايلي نفسه ، ومراقبته المستمرة ، راح الحدادون يصنعون من المعدن الجديد ، سيوفاً ونبالاً ودروعاً ، وبلطات قاتلة . وتحت أنظار الحداد ، المكلوم المتوتر ، تقاسم الأدوار الملك والكاهن الأعظم وقائد الجيش ، وكذلك ابنه .. وتلميذه .. ايلي . الملك فتح خزائن المملكة ، وراح يغدق بجنون على تصنيع الأسلحة وصناعها والمتاجرين بها ، والمتغنين بمآثرها وعظمتها . والكاهن فتح أبواب المعبد ، وراح يمجد الآلهة القوية ، والتي حققت الانتصارات على الأعداء ، وصارت قدوة للبشر الفانين ، وبشر بدلمون الأبطال والمضحين بأرواحهم من أجل الآلهة والملك والوطن . أما قائد الجيش ، فقد راح يجيّش أعداداً كبيرة من الشباب والفلاحين والصناع ، وحتى الضالين ، والخارجين على القانون ، وبدأ الجيش ينمو يوماً بعد يوم ، وجند الشعراء والفنانين والمغنين ، لتمجيد القوة ، والزهو على الآخرين ، بأنهم الأقوى والأفضل . وفي خضم هذه الحمى الجماعية ، وقف الحداد حائراً ، لا يدري ماذا يفعل ، وهو يشعر بالذنب ، فقد أطلق قوة هوجاء ، من الصعب السيطرة عليها . وتوالت الاجتماعات بين الملك والكاهن الأعظم وقائد الجيش ، وكذلك زوج الأميرة .. ايلي ، لا يتدارسون فيها سوى أمور الجيش ، وسبل تطوير وتسليحه ، وإعداده للمهمات المصيرية . وطوال هذه المدة ، لم يلتق ِ الحداد ، لا بابنه ايلي ، ولا بالملك ، بل إن ابنه ايلي ، لم يفكر مرة واحدة في زيارته ، أو السؤال عنه . وضاقت الدنيا بالحداد ، وفكر فيما يمكن أن يفعله للتخلص مما هو فيه . هل يهاجر ؟ لكن إلى أين ؟ وحتى لو هاجر ، فإنه سيأخذ معه شعوره بالذنب ، لما أطلقه من قوة قاتلة . وفكر أن يغلق باب بيته ، ويعتكف في البيت ، وهذا أيضاً ليس حلاً مرضياً ، فبيته يقع وسط الدوامة ، وسط الحريق ، ولابد أن يأتيه منها ما يفاقم شعوره المتزايد بالذنب ، والندم على ما جنت يداه . وتذكر الكاهن الأعظم السابق ، الذي مرّ بمحنة لا يعرف فحواها بالضبط ، لكن الكاهن الأعظم عالجها بأسلوبه ، فقد حزم أمره ، وترك المعبد ، ومضى إلى الجبال البعيدة ، وهو يعيش الآن خالي البال ، مرتاح الضمير ـ في أحد الكهوف . ولمعت في رأسه فكرة ، نفذها في الحال ، فخرج من البيت ، دون أن يأخذ معه أي شيء ، ومضى قدماً نحو الجبال البعيدة ، ليلتقي بالكاهن الأعظم السابق . وهذا ما حدث .
" 8 " ـــــــــــــــــــ
نهض الكاهن ، متحاملاً على نفسه ، وقال بصوت متعب : أيها الحداد ، الوقت متأخر ، الأفضل أن نأوي إلى فرشنا ، ونخلد إلى النوم . وسار متوكئاً على عكازه إلى داخل الكهف ، فنهض الحداد ، وسار في أثره ، وهو يقول : أرجو أن لا أكون قد أتعبتك بحكاياتي وهمومي . وتنهد الكاهن ، وقال : لا ، فحكايتك مشابهة تقريباً لحكايتي ، وحكايتانا تكررتا في الماضي ، وستكرران في المستقبل أيضاً . وهز الحداد رأسه ، وقال : هذا أمر يؤسف له ، فمثل هذه الحكايات ينبغي أن لا تتكرر دائماً . ووضع الكاهن عكازه جانباً ، وتمدد على فراشه ، وقال : نحن بشر ، يا ساكيل . وتمدد الحداد على فراشه ، ثم نظر إلى الكاهن ، وقال : قبل أن آتي إليك ، وبسنوات عديدة ، سمعت الكثير عن حكايتك ، لكني لم أعرف الحقيقة بالضبط . وتنهد الكاهن ، وقال بصوته الواهن المتعب : حكايتي ، كما قلت لك ، مشابهة تقريباً لحكايتك ، وقد حدثت منذ فترة ليست قصيرة . وصمت الكاهن برهة ، ثم قال : الملك الحالي ، اغتصب العرش من أخيه ، وقتله .. وصمت الكاهن ثانية ، ثم تنهد ، وقال : طلب الملك المغتصب مني ، أن أقوّل الآلهة .. وهزّ الحداد رأسه ، فتابع الكاهن قائلاً : فأقول على لسانها ، إنها اختارته ، وباركت عمله ، لأن الملك السابق ، كان ضالاً ، ظالماً ، لا يراعي الحق والعدالة بين الناس . وتنهد الحداد ساكيل ، وقال : وهذا ما رفضت أن تقوله ، يا سيدي . وقال الكاهن بصوت متهدج : أنا الكاهن الأعظم ، لا يمكن أن أخون ضميري ، فأقول ما لم تقله الآلهة ، وما أعرف أنه ليس الحقيقة . وصمت مرة أخرى ، ثم قال : وأنت تعرف الباقي ، وبعد أن جئت إلى هنا ، لأعيش مرتاح الضمير بين عنزاتي المسالمات ، جاء الكاهن الأعظم الجديد ، وكان كاهناً معي ، فأعطى للملك ما أراده ، ونال الحظوة والمكانة والثروة . وصمت الكاهن ، وطال صمته ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق ، وأغمض الحداد عينيه المتعبتين ، وحاول أن ينام دون جدوى ، فقد راحت أحداث حياته تترى في مخيلته ، حدثاً بعد حدث ، ثم راح يراجع موقفه ، وموقف الكاهن ، الذي اختار أن يعيش بسلام مع عنزاته ، وغلبه النوم قبيل الفجر بقليل . وأفاق الحداد ، صباح اليوم التالي ، بعد شروق الشمس ، وإذا الكاهن يضع طعام الفطور على السفرة ، وما أن رآه يفتح عينيه ، ويفيق ، حتى ابتسم له ، وقال : طاب صباحك أيها الحداد ساكيل . واعتدل الحداد ساكيل ، وقال : طاب صباحك ، يا سيدي الكاهن . وصمت لحظة ، ثم قال : أنت تستيقظ باكراً . وضحك الكاهن ، وقال : وهذا ما ستفعله أنت ، يا ساكيل منذ الغد . وجلس ساكيل إلى سفرة الطعام ، ومدّ يده ، وأخذ لقمة وقال : لا أعتقد ، يا سيدي . وجلس الكاهن قبالته ، وقال مبتسماً : ستتعود هذا ، يا ساكيل ، فمن ينم مبكراً في هذا الكهف ، يستيقظ مبكراً ، مهما كان نوّاماً . ووضع الحداد ساكيل لقمة في فمه ، وقال : لن أنام الليلة في هذا الكهف . وكف الكاهن عن تناول الطعام ، ونظر إلى الحداد ساكيل مندهشاً ، ثم قال : أنت لا تعني أنك .. وكف الحداد ساكيل عن تناول الطعام ، ومسح فمه بظاهر كفه ، فقال الكاهن : كل الآن ، يا صديقي ، أنت لم تأكل شيئاً يذكر . فنهض الحداد ساكيل ، وقال : أشكرك ، لقد شبعت . ثم نظر إلى الكاهن ، وقال : سأفتقد طعامك البسيط ، الطيب . ونهض الكاهن ، ووقف متوكئاً على عكازه ، وقال : مهما كان السبب ، ياساكيل ، فابقَ معي هنا ، ولا تحاول العودة إلى المدينة . وسار الحداد ساكيل متجهاً إلى مدخل الكهف ، وهو يقول : لقد صنعت ذلك المعدن الصلب ، وكان كلّ أملي أن تصنع منه المحاريث والمناجل فقط ، لكنهم يصنعون منه الآن أسلحة قاتلة . وتبعه الكاهن متوكئاً على عكازه ، وقال : هذا ليس خطأك ، يا ساكيل . وخرج الحداد ساكيل من الكهف ، ومضى منحدراً باتجاه المدينة ، وقال : بل خطئي ، وسأحاول تصحيحه مهما كلفني الأمر . ووقف الكاهن عند باب الكهف ، وصاح : عد ، يا ساكيل ، وإلا قتلوك . فرد الحداد ساكيل قائلاً ، دون أن يلتفت : ليقتلوني ، فسأكون على الأقل ، قد قلت الحقيقة .
16 / 8 / 2012
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان من قتل شمر ؟
-
رواية للفتيان طفل من خرق
-
رواية للفتيان البجعة
-
رواية للفتيان جبل الوعول
-
جزيرة كالوبيوك
-
رواية للفتيان هوفاك
-
رواية للفتيان الزرقاء رائية ديدان
-
رواية للفتيان الجاغوار سيلو
-
رواية للفتيان عينا نيال طلال حسن
-
رواية للفتيان البحث عن تيكي تيكيس الناس الصغار
-
رواية للفتيان سراب
-
رواية للفتيان جزيرة الحور
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة شبعاد
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة
...
-
رواية للفتيان عين التنين
-
رواية للفتيان مملكة أعالي الجبال المتجلدة
-
مسرحية من ثلاثة فصول الطريق إلى دلمون
-
مسرحية من فصل واحد الثلوج
-
مسرحية من فصل واحد السعفة
-
مسرحية من فصل واحد
...
المزيد.....
-
60 فنانا يقودون حملة ضد مهرجان موسيقي اوروبي لتعاونه مع الاح
...
-
احتلال فلسطين بمنظور -الزمن الطويل-.. عدنان منصر: صمود المقا
...
-
ما سبب إدمان البعض مشاهدة أفلام الرعب والإثارة؟.. ومن هم الم
...
-
بعد 7 سنوات من عرض الجزء الأخير.. -فضائي- يعود بفيلم -رومولو
...
-
-الملحد- يثير الجدل في مصر ومنتج الفيلم يؤكد عرضه بنهاية الش
...
-
رسميًا إلغاء مواد بالثانوية العامة النظام الجديد 2024-2025 .
...
-
مسرح -ماريينسكي- في بطرسبورغ يستضيف -أصداء بلاد فارس-
-
“الجامعات العراقية” معدلات القبول 2024 في العراق العلمي والأ
...
-
175 مدرس لتدريس اللغة الصينية في المدارس السعودية
-
عبر استهداف 6 آلاف موقع أثري.. هكذا تخطط إسرائيل لسلب الفلسط
...
المزيد.....
-
في شعاب المصهرات شعر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
(مجوهرات روحية ) قصائد كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
كتاب نظرة للامام مذكرات ج1
/ كاظم حسن سعيد
-
البصرة: رحلة استكشاف ج1 كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
صليب باخوس العاشق
/ ياسر يونس
-
الكل يصفق للسلطان
/ ياسر يونس
-
ليالي شهرزاد
/ ياسر يونس
-
ترجمة مختارات من ديوان أزهار الشر للشاعر الفرنسي بودلير
/ ياسر يونس
-
زهور من بساتين الشِّعر الفرنسي
/ ياسر يونس
-
رسالةإ لى امرأة
/ ياسر يونس
المزيد.....
|