|
قطار آخن 42
علي دريوسي
الحوار المتمدن-العدد: 7469 - 2022 / 12 / 21 - 23:50
المحور:
الادب والفن
الفصل الرابع
وصل إبراهيم إلى محطة قطار فرايبورغ في الجنوب الغربي من ألمانيا قادماً من مدينته آخن في أقصى الغرب، وصل المحطة قبل نحو ساعة من موعد اِنطلاق القطار باتجاه مدينة شتراسبورغ الفرنسية.
وجد سابينه بانتظاره، كانت تبدو أنيقة وجذّابة بجزمتها السوداء طويلة الساق وحقيبتها اليدوية وحقيبة سفرها وتنورتها الفضفاضة ومعطفها الخريفي، عانقها، قبّلها آخذاً طاقة من شفتيها، طلبا كأسين من القهوة ومشيا باتجاه الركن المُخَصَّص للتدخين، وقفا متجاورين كتفاً إلى كتف يرتشفان قهوتهما ويمجّان سجائرهما بصمت، وقفت إلى جانبه كأنّها لم تكتب له قبل يومين رسالة طويلة عن حياتها الخاصة، وقف إلى جانبها كأنّه لم يقرأ مساء البارحة رسالتها.
ـ أتعاطف قليلاً مع الرفاق المُدَخِّنين في جزر التبغ الحزينة في محطات القطارات. خاطبها محاولاً إثارة موضوع للتسلية.
ـ قوة الرفاق الأوروبيين الخضر في تعاظم، يعتاد الإنسان على احترام القانون، الإنسان حيوان عادة كما تعرف. أجابته بسخرية.
ـ في الهندسة نقول "الإنسان حيوان بصري".
ـ ماذا تعني هذه المقولة؟
ـ نقولها لأنه يكتسب أكثر من ثمانين بالمئة من المعلومات عن طريق العين.
ـ جميل!
ـ لكني أشعر بأنكِ ضدهم، مع أنّ حزب الخضر الألماني استطاع في زمن قصير نسبياً إحراز مواقع متقدمة في المجتمع وله ممثليه في الحكومة والبرلمان الألماني والبرلمان الأوروبي أيضاً.
ـ دعك من هذا الهراء الصباحي، هل تعلم بأني اِفتَقَدتك؟
ـ وأنا اشتقتك، ألم تصل هنيلوري بعد؟
ـ ستكون في اِنتِظارنا في محطة شتراسبورغ أو قد نلتقيها في القطار المسافر إلى باريس، لقد اِضطّرتْ لتعديل خط سفرها.
ـ لم يتبق على اِنطلاق القطار أكثر من عشر دقائق، دعينا نسرع.
**
في القطار جلسا متلاصقين في مقعد واحد.
ـ دعني أغفو قليلاً.
ـ أرجو ألا تنامي، أتمنى لو تحدثيني قليلاً؟
ـ أحتاج إلى قسط من الراحة، أشعر بالتعب.
ـ لماذا التعب وقلة النوم؟ مع من أمضيت سهرتك ليلة البارحة؟
ـ أمضيتها وأنا أتابع فلم "بطلات غير معروفات" بمتعة عالية.
ـ لم أسمع به من قبل.
ـ فلم جميل يتناول تأثير السوداء الجميلة "كاثرين جونسون"، فيزيائية أمريكية وعالمة فضاء ورياضيات، على نجاح صناعة ريادة الفضاء الأمريكية خلال التنافس البارد مع الاتحاد السوفييتي في الستينيات من القرن الماضي. ـ ههههه إذاً عليك أن تنامي بدلاً من الكلام عن الحرب الباردة، أما أنا فسأقرأ قليلاً. قال لها وهو يتناول كتاباً من حقيبته.
ـ ماذا تقرأ؟
ـ رواية 1984 للبريطانيّ "جورج أورويل"، باللغة العربية طبعاً؟
ـ رواية صعبة تحتاج للوقت والهدوء، لماذا تأخرت في قراءتها؟
ـ ثمة روايات لا يمكننا قراءتها في عمر العشرين أو أكثر بقليل، وإن ادَّعَى شخص ما إنجاز فعل القراءة فهو لم يفهمها حتماً، لأنَّه قرأها على الأرجح بحثاً عن الخاتمة أو ليرضي الوسط المحيط.
**
بعد حوالي نصف ساعة أيقظها قبل أن يبلغ القطار الرصيف رقم 3 في محطة قطار مدينة أوفنبورغ، توجب عليهما تبديل القطار، سحبا حقائبهما وتحركا باتجاه الباب، كان لديهما في المحطة خمس دقائق لتغيير القطار، لحسن حظهما وقف القطار المسافر إلى شتراسبورغ على الرصيف المقابل رقم 4.
جلسا في مقعديهما المحجوزين مسبقاً، أَتْكَأَتْ سابينه رأسها على كتفه ونامت، فتح إبراهيم دفتر مذكراته وراح يكتب فيه:
هي الذاكرة مثل الحُبّ! في السنوات الخمس الأولى للحياةِ في الغربة، لا تقدر أن تصنع ذاكرةً بيولوجية لرأسك الباحث عن تجميع الذكريات، كما أنّك لا تستطيع أن ترتدي ذاكرة مصنوعة مسبقاً لأشخاص سبقوك إلى الغربة، كما هو الحال حينما تُلبس رأسك القبعة الفرنجية كي يُقال عنك: ما شاء الله، لقد أصبح مغترباً، صار غريباً عنا، يجيد اللغة، ولديه ذاكرة رغم أنه لم يمض على وجوده في الغربة أكثر من سنوات خمس. لكن بمقدورك فعلاً، على الأقل مرة كل خمسة عشر عاماً، أن تَبني لك ذاكرة في الغربة، بالاجتهاد والمثابرة وإتقان اللغة وارتياد الحانات ومعاشرة النساء والرجال، شريطةَ فك كيس النقود المغلق بإحكامٍ عربي، كما أوصَتك الذاكرة الفردية والجمعية التي تشكّلت في الطفولة حيث الوطن، وإذْ تغادر الحياة، تكون قد أنجّبت ستّ ذواكر بيولوجية على الأكثر، لأنّك ستسافر إلى رحلتك الأخيرة حتماً في نهاية العقد التاسع تماماً.
كما الذاكرة هو الحُبّ أيضاً، يأتيك مرّةً واحدة كل خمسة عشر عاماً، وإذْ تَرحَل تكون قد أحببّت ستّ مرات على الأقّل، آخرها اللَّحْد.
تتّبلور الذاكرة في الغربة عن طريق العين "البصر"، تصير أكثّف وأوسّع، حيث تتّحد الجزيئات الصغيرة لتكوِّن جزيئات كبيرة، فتستّرخي الرؤوس، تشّب وتتوقَّد، بينّما تتّبلوّر الذاكرة في الوطن بواسطة الأذن "السمع"، تصير أخّف وأضيّق، حيث تَتّحلّل الجزيئات الكبيرة إلى مكّوناتها الدقيقة، فتتشّنج الرؤوس، تنهمر بالدموع، تُهرم، تموت أبكّر. **
#علي_دريوسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قطار آخن 41
-
قطار آخن 40
-
قطار آخن 39
-
قطار آخن 38
-
قطار آخن 37
-
قطار آخن 36
-
قطار آخن 35
-
قطار آخن 34
-
قطار آخن 33
-
قطار آخن 32
-
قطار آخن 31
-
قطار آخن 30
-
قطار آخن 29
-
قطار آخن 28
-
قطار آخن 27
-
قطار آخن 26
-
قطار آخن 25
-
قطار آخن 24
-
قطار آخن 23
-
قطار آخن 22
المزيد.....
-
الثقافة السورية توافق على تعيين لجنة تسيير أعمال نقابة الفنا
...
-
طيران الاحتلال الاسرائيلي يقصف دوار السينما في مدينة جنين با
...
-
الاحتلال يقصف محيط دوار السينما في جنين
-
فيلم وثائقي جديد يثير هوية المُلتقط الفعلي لصورة -فتاة الناب
...
-
افتتاح فعاليات مهرجان السنة الصينية الجديدة في موسكو ـ فيديو
...
-
ماكرون يعلن عن عملية تجديد تستغرق عدة سنوات لتحديث متحف اللو
...
-
محمد الأثري.. فارس اللغة
-
الممثلان التركيان خالد أرغنتش ورضا كوجا أوغلو يواجهان تهمة -
...
-
فنانو وكتاب سوريا يتوافدون على وطنهم.. الناطور ورضوان معا في
...
-
” إنقاذ غازي ” عرض مسلسل عثمان الحلقة 178 كاملة ومترجمة بالع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|