|
رواية للفتيان من قتل شمر ؟
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7466 - 2022 / 12 / 18 - 23:24
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
من قتل شمر ؟
طلال حسن
الشخصيات ــــــــــــــــــــــــــ
الغساسنة .. 1 ـ الحارث ملك الغساسنة 2 ـ حليمة ابنة الحارث 3 ـ شمر حارس 4 ـ أم شمر 5 ـ قيس حارس 6 ـ عامر حارس
المناذرة 1 ـ المنذر بن ماء السماء ملك المناذرة 2 ـ المستشار العجوز 3 ـ سلمى خادمة
" 1 " ــــــــــــــــــــــ فزّت أم شمر من غفوتها ، لا تدري لماذا ، لعلها رأت حلماً .. كابوساً .. في نومها ، ولماذا تراه في نومها ؟ إن حياتها نفسها كابوس . واعتدلت في فراشها متنهدة بحرقة ، فمنذ أن ذهب ابنها شمر إلى معركته الأخيرة ، وقتل فيها ، وهي تعيش هذا الكابوس ، الذي لا ينتهي . وتحاملت على نفسها ، ونهضت من فراشها متلفتة ، أين عكازها اللعين ؟ وخطت مترنحة بضع خطوات ، وكادت تتهاوى على الأرض ، فتوقفت لاهثة ، وتطلعت عبر النافذة إلى البعيد . آه البيت فارغ ، وبصرى فارغة ، العالم كله فارغ ، أعماقها نفسها ، التي كانت تضج بالفرح والحياة فارغة تماماً ، نعم ، حياة ليس فيها شمر .. فارغة ، ولا تستحق أن تُعاش يوماً واحداً . وصاحت في أعماقها ، حيث يقبع كلّ العالم ، من قتل ابني شمر ؟ الذي لم ترَ بُصرى ، ولا الشام كلها ، من هو أرجل منه ، قوة وشجاعة وذكاء .. من قتله ؟ المنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة ؟ أم الحارث ، ملكنا ، ملك الغساسنة ؟ أم رئيس الحرس .. لا .. لا .. لا . هذا سرّ لا يعرفه أحد غيري ، وسيأتي اليوم ، الذي أعلنه فيه ، وعندها فقط ، يمكن أن أرتاح بعض الشيء ، وإلا لن يفارقني الكابوس ، حتى أفارق الحياة . وتوقفت أم شمر ، حين سمعت طرقاً على الباب ، لكنها لم تتحرك من مكانها ، وطرق الباب ثانية ، فأخذت عكازها ، ومضت نحو الباب ، وفتحته ، وإذا جارية شابة تميل عليها مبتسمة ، وتحييها قائلة : طاب صباحك ، يا جدتي ، أم شمر . فردت أم شمر عابسة : أهلاً ومرحباً . فقالت الجارية : مولاتي ، الأميرة حليمة ،تقرئكِ السلام ، و .. وتنهدت أم شمر متضايقة ، فصمتت الجارية لحظة ، ثم قالت : الأميرة تريد أن تراكِ غداً ، قبل منتصف النهار ، وسترسل من يأخذك إلى القصر . فقالت أم شمر ، وهي تصفق الباب : لا أريد أحداً ، سأحضر غداً بنفسي . وسارت أم شمر إلى غرفتها ، متعكزة على شيخوختها وعكازها الخشبي ، وتوقفت وسط الفناء ، ورفعت رأسها ، وصاحت بحرقة : شمر .. شمر .. شمر .
" 2 " ـــــــــــــــــــــ تمددتْ أم شمر في فراشها ، وأغمضت عينيها اللتين أتعبتهما مسيرة حياتها ، وخاصة بعد أن ذهب شمر إلى معركته الأخيرة ، ولم يعد منها ، وقيل لها أنه قتل ، ودفن في أرض المعركة . وحياتها ، كما تراها حقيقة ، بدأت بعد ولادة شمر ، خاصة وأن أباه ، شمعة حياتها ، كان قد انطفأ ، في معركة من المعارك المستمرة ، بين الحارث ملك الغساسنة في الشام ، وملك المناذرة في العراق ، المنذر بن ماء السماء . ومنذ البداية ، بدا للأم وللآخرين أيضاً ، أن شمر سيكون مثل أبيه قوة وشجاعة ، لكنه لم يكن وسيماً كأبيه ، لا سيما أن الجدري ، الذي أصيب به في طفولته ، وكاد أن يقضي عليه ، ترك حفراً قبيحة على صفحة وجهه ، التي لم تكن مقبولة من الأساس . ووسط هذه الحفر ، والقبح الظاهر ، تطل من صفحة وجهه عيناه الواسعتان ، السوداوان ، اللتان أخذهما عن أمه ، واللتان تضيئان قويتين ثابتتين ، تنمان عن أعماقه الحقيقية القوية المرهفة الأحاسيس . ولعل قوته وجرأته الفائقة ، عوضتاه عن قبحه ، وحفر الجدري التي تشوه وجهه ، عند الكثير من أصدقائه ، بل وحتى بعض الفتيات أيضاً ، ممن عرفنه عن قرب ، واللواتي يعشقن القوة والشجاعة الفائقة . وتذكر أم شمر ، أنه في مقتبل شبابه ، تصدى لذئب شرس في الريف وقتله ، حدث هذا عندما كان في زيارة لجده ، الذي كان يحبه ومعجباً به للغاية . فقد خرج ذات يوم يتجول في أحد الحقول ، التي ترعى فيها عدة قطعان من الأغنام ، وهاجم ذئب شرس الأغنام ، وبدل أن يصده الرعاة ، ويقضوا عليه ، أو يجبروه على الهرب ، لاذوا هم أنفسهم بالفرار ، فتصدى شمر للذئب الشرس ، ووجه إليه طعنات عديدة من بخنجره ، الذي لا يفارقه أبداً ، وأجهز عليه . وكمعظم فتيان عشيرته ، كان شمر يحلم أن يكون جندياً من جنود الملك الحارث ، يقاتل في صفوفه جند المناذرة ، وملكهم المنذر بن ماء السماء . وتحقق حلمه ، عندما انخرط في جيش الحارث ، وراح يتدرب على فنون القتال ، حتى صار واحداً من أفضل الجنود ، قوة وشجاعة ومطاولة على القتال . " 3 " ـــــــــــــــــــــــــ مست شمر ، ذات يوم ، شرارة برق ، أشعلت في قلبه الغض شعلة ، لم يخفت أوارها يوماً ، ولم تنطفىء حتى اللحظات الأخيرة من عمره . وشرارة البرق ، كانت حليمة ، ابنة الملك الحارث ، ولم يكن قد رآها من قبل ، لكنه حين رآها ، لم تغب عنه لحظة واحدة ، إلى أن غاب هو نفسه . جاءتهم حليمة إلى الميدان ، الذي يتدربون فيه على الفروسية ، ممتطية حصاناً جامحاً ، لا تكاد أقدامه تثبت على الأرض لحظة واحدة ، وتوقفت على مقربة ، وراحت تتطلع إليهم الواحد بعد الآخر ، دون أن تتوقف عيناها البنيتان عند واحد منهم . ثم غمزت حصانها بكعب قدمها غمزة رفيقة ، وراحت تدور به حولهم ، وهي تقول : تدربوا جيداً ، وكونوا أبطالاً ، فأنتم ، أيها الفرسان ، غساسنة ، والغساسنة أبطال ، لقد قاتل آباؤكم دفاعاً عن أرض الوطن ، ضد أعدائنا المناذرة الطامعين ، فكونوا مثل آبائكم أبطالاً ، إن الوطن ينتظر دوركم البطولي ، فالمناذرة على الأبواب من جديد . وتوقفت حلية ثانية بحصانها الجامح ، ثم استدارت به ، وقالت : استمروا على التدريب . وانطلقت حليمة بحصانها الجامح ، وكأنه حصان طائر من أحصنة الأساطير ، مبتعدة عن ساحة التدريب ، لكنها لم تبتعد مطلقاً عن شمر ، فقد بقيت ايقونة جميلة في عينيه ، وشعلة لا تنطفىء في قلبه الغض . وسرعان ما اشتعل القتال مجدداً ، بين الحارث ملك الغساسنة في الشام ، والمنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة في الشام ، واستمر القتال بينهما مدة طويلة ، دون أن ينتصر أحدهما على الآخر ، ويحسم الحرب لصالحه ، حتى توقف القتال ، وانسحب كلّ فريق إلى مواقعه ، انتظاراً للجولة القادمة .
" 4 " ــــــــــــــــــــــ تطلعت الأميرة حليمة إلى وجهها في المرآة ، وابتسمت فرحة : آه قمر .. هذا ما تقوله أمها ، عينان بنيتان بلون القهوة اليمنية ، أخذتهما من جدتها لأمها ، وخداها تفاحتان من تفاح الجبال ، نعم ، هذا ما تقوله أمها ، لكن أمها مهما كان .. أمها ، وهي امرأة . وأبعدت الأميرة المرآة عنها ، حين تناهى إليها وقع أقدام خفيفة ، لابدّ أنها أمها ، نعم إنها هي ، فقد جاءها صوتها الأمومي يهمس : حليمة . واستدارت الأميرة ، وقالت : نعم ماما . وتوقفت الأم أمام حليمة ، وقالت : رأيتك من بعيد كالعادة تتمرين . وألقت الأميرة المرآة جانباً ، وقالت : سأبعد كلّ المرايا عن غرفتي . وابتسمت الأم قائلة : المرأة والمرآة رفيقتان ، لا ينبغي أن تفترقا أبداً . ونظرت الأميرة إلى أمها ، وقالت : أنا لا أريد أن أكون امرأة فقط . ومدت الأم يدها ، وداعبت برفق وجنة الأميرة ، وقالت : تفاحة ، تفاحة من تفاح الجبال . وأبعدت الأميرة خدها عن أنامل أمها ، فقالت الأم مبتسمة : عندما كنت في عمرك ، كانت المرآة لا تفارقني ، وكنتُ لا أرى وجهي وحده فيها ، فقد كان إلى جانبه وجه فارس شاب . وحملقت الأميرة في أمها ، فتابعت الأم قائلة : أبوك الملك طبعاً ، كان هو الفارس الشاب ، وحين التقيت به أشعلتُ في أعماقه البطولة والشجاعة والرجولة . وصمتت الأم لحظة ، ووقف عند النافذة ، وراحت تتطلع إلى البعيد ، ثم قالت : الرجل بركان خامد ، لا تثيره ، وتشعله إلا شرارة امرأة . ونظرت الأميرة إلى أمها ، وقالت في نفسها : أنا الشرارة ، وسأشعل البراكين ، التي لن تخمد ، إلا بتحقيق .. النصر .
" 5 " ــــــــــــــــــــ لم تنم الأميرة حليمة تلك الليلة ، في موعدها الذي اعتادت عليه ، وعند منتصف الليل تقريباً ، خرجت من غرفتها ، ولاحظت أن قاعة العرش مضاءة ، ويقف ببابها حارس مدجج بالسلاح . واقتربت الأميرة من الحارس ، وقالت : أرى قاعة العرش مضاءة ، الليل يكاد ينتصف . فأحنى الحارس رأسه ، وقال بصوت خافت : مولاي الملك في الداخل ، يا مولاتي . ومدت الأميرة يدها ، ودفعت الباب برفق ، ودخلت القاعة بخطى هادئة ، وإذا أبوها الملك يقف قرب النافذة ، محدقا في الظلام . والتفت الملك ، حين تناهى إليه وقع خطواتها في صمت القاعة ، وقال مندهشاً : بنيتي ، حليمة ! وبنفس الدهشة ، قالت الأميرة : أبي ! وابتسم الملك ، فتابعت الأميرة قائلة : نحن في منتصف الليل ، يا أبي . قال الملك : أنتِ لم تنامي . وقالت الأميرة : وأنت أيضاً لم تنم . وسار الملك نحو العرش ، وجلس على الكرسي ، وقال : أنا الملك . وفي أثره سارت الأميرة ، وقالت : وأنا ابنة الملك . وصمت الملك لحظة ، ثم غزت عينيه ابتسامة ، راحت تتسع ، حتى كاد يضحك ، فنظر إلى الأميرة ، وقال : قالت لي جدتي مرة ، وجدتي كانت امرأة حصيفة ، الرجل عضلات ، والمرأة هي العقل . وصمت الملك لحظة ، ثم قال : ضحكتُ وقتها ، وقلت لها ، أنتِ تقولين هذا ، يا جدتي ، لأنكِ امرأة . ومالت الأميرة على أبيها الملك ، وقالت : نعم ، قالت هذا لأنها امرأة ، لأنها العقل . وقال الملك : حليمة ، أنتِ مثل جدتك . فقالت الأميرة : أنا امرأة . ولاذ الملك بالصمت ، فقالت الأميرة : ما لم يؤخذ بقوة العضلات ، يمكن أن يؤخذ بقوة العقل . وحدق الملك فيها صامتاً ، فقالت : الأفعى إذا قطعنا ذنبها ، لا تموت ، لكنها تموت إذا قطعنا رأسها . وتساءل الملك : وهذا الرأس ، كيف نقطعه ؟ فردت الأميرة : هذا ما علينا أن نفكر فيه ملياً ، وسنصل إلى حلّ ، ونقطع الرأس .
" 6 " ــــــــــــــــــــ وخلال الأيام التالية ، التقت الأميرة حليمة ، مع أبيها الملك الحارث ، وكان حديثهما دائماً ، يدور حول الأفعى المنذر بن ماء السماء ، والطريق للوصول إليه ، والإجهاز عليه ، في عقر ملكه . وفي عصر أحد الأيام ، خرج الملك يتمشى في حدائق القصر ، وبعد حين شعر بالتعب ، وكيف لا وقد تجاوز الستين ، وهموم الأفعى ، وأنيابها السامة القاتلة ، لا تفارقه ، لا في الليل ، ولا في النهار . وتوقف عند إحدى النافورات ، ثم جلس على مصطبة هناك ، لعله يسترد أنفاسه ، ويرتاح بعض الشيء ، ومن ثم يقفل عائداً إلى داخل القصر . وانتبه الملك إلى وقع أقدام تقترب منه ، إنها ابنته الأميرة حليمة ، هذه خطواتها ، وبالفعل جاءه صوت الأميرة ، تقول : أبي ، ماذا يشغلكَ ؟ فرفع الملك عينيه المتعبتين إليها ، وقال بصوت واهن : ما يشغلكِ أنتِ أيضاً ، يا بنيتي . وجلست الأميرة إلى جانبه ، وقالت : رأس الأفعى .. وقال الملك : ابنتي حليمة .. فتابعت الأميرة قائلة : سيقطع ، يا أبي . ونظر الملك إليها صامتاً ، فقالت الأميرة : اختر العضلات ، وسترَ . وابتسم الملك ، وقال : أيتها العقل .. وقالت الأميرة : كلما كان العدد أقل كان أفضل . ونهض الملك ، وقال : حددي العدد ، وسأعهد إلى من هو جدير بمثل هذا الاختيار . ونهضت الأميرة بدورها ، وقالت : ثلاثة ، لا أكثر . ولاذ الملك بالصمت لحظة ، ثم قال : ليكن ، ثلاثة ، وسنختارهم ، وندربهم ، في أسرع وقت ممكن .
" 7 " ــــــــــــــــــ في أول الليل ، دخل رئيس الحرس ، قصر الملك الحارث ، واتجه مباشرة إلى قاعة العرش ، إنه على موعد مع الملك ، لابد أن الأمر غاية في الأهمية ، ترى ماذا يكون الأمر ؟ هذا ما فكر فيه ، منذ أن بلغه به حاجب الملك نفسه . وفتح الحاجب له باب قاعة العرش ، وهمس له : الملك ينتظرك ، يا سيدي . ودخل رئيس الحرس قاعة العرش ، وإذا الملك يقف وسط القاعة ، وما إن رآه حتى قال : تعال ، تعال واجلس هنا . وجلس الملك فوق كرسيّ العرش ، وجلس رئيس الحرس على مقعد قريب منه ، ونظر الملك إليه ، وقال : لديّ لك مهمة خاصة وسرية للغاية ، ويمكن أن تغير مصير دولتنا برمتها . وقال رئيس الحرس ، وقد بدا عليه الاهتمام الشديد : أنتَ تأمر ، يا مولاي ، وعليّ الطاعة . وحدق الملك فيه ، وقال : هناك عقبة كأداء أمامنا ، ولكي نبقى كمملكة ، ونتطور ، ونأخذ مدانا ، علينا أن نزيل هذه العقبة . وتطلع رئيس الحرس إلى الملك صامتاً ، متوجساً ، فقال الملك : المنذر بن ماء السماء . وتساءل رئيس الحرس : ما له ، المنذر ، يا مولاي ؟ فقال الملك : إنه هو العقبة الكأداء .. وصمت لحظة ، ثم قال : وعلينا أن نزيل هذه العقبة . ولاذ رئيس الحرس بالصمت ، وقد ضجت عيناه المذهولتان بشتى الأسئلة ، فقال الملك ، كأنما يجيب على أسئلته : نقتله . وتعكرت عينا رئيس الحرس ، وقد اختفت منها الأسئلة ، وحلّ محلها الذهول والدهشة ، فهو لم يستطع أن يستوعب بعد ، كيفية قتل المنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة ، الذي لم تستطع جيوش الغساسنة الجرارة الوصول إليه ، وقهره . وصمت الملك برهة ، ثم قال : إنها مغامرة جسورة ، خطرة للغاية ، ومن سيقوم بها ، يجب أن يتحلى بالقوة والجرأة والذكاء . وتساءل رئس الحرس : أنا جندي من جنودك ، لكن ما هو دوري في هذه العملية ، يا مولاي . فقال الملك : بسرية تامة ، اختر ثلاثة أشخاص ، وقم بتدريبهم تدريباً عنيفاً ، لكن لا تخبرهم بطبيعة مهمتهم ، واترك هذا الأمر لي ، وسأخبرهم أنا بطريقتي في الوقت المناسب . " 8 " ـــــــــــــــــــــ منذ أن غادر رئيس الحرس قاعة العرش ، بعد أن التقى بالملك الحارث ، وعرف طبيعة المهمة الموكلة إليه ، وهو يستعرض في مخيلته حرس القصر الملكي ، الذين سبق وأن اختارهم بنفسه ، من بين آلاف الفرسان المقاتلين الأشداء . المنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة ، الفارس ، المقاتل ، الجريء ، هو المهمة ، ويا لها من مهمة ، إن الوصول إليه وحده عمل يكاد يكون مستحيلاً ، فكيف والمطلوب هو رأس المنذر نفسه ؟ ترى من يصلح لهذه المهمة ؟ وتوقف رئيس الحرس ، بدون إرادة منه ، عند باب القصر من الداخل ، وهو مازال يتساءل في داخله ، هذه المهمة المستحيلة ، من يصلح لها ؟ من يمكنه أن يحاول انجازها ، ناهيكَ عن النجاح في تنفيذها ، والإجهاز على المنذر بن ماء السماء ؟ وأفاق رئيس الحرس ، على حارس مدجج بالسلاح يقترب منه ، ويتوقف متردداً على مقربة منه ، ويقول : سيدي . والتفت رئيس الحرس إليه ، وقال : ماذا ؟ فتراجع الحارس قليلاً ، وقال : عفواً سيدي ، رأيتك تتوقف هنا ، منذ فترة طويلة ، وخشيت أن تكون بحاجة إلى شيء ، و .. . وقاطعه رئيس الحرس بحزم : عد إلى مكانك ، هيا . وعلى الفور ، مضى الحارس مبتعداً ، فواصل رئيس الحرس سيره ، فاجتاز بوابة القصر ، مواصلاً تفكيره وتساؤلاته ، وتراءى له وجه مجدور ، ثابت النظرات ، فتوقف متمتماً : شمر . واصل رئيس الحرس سيره ، وعادت التساؤلات تلح عليه ، ولاح له هذه المرة ، وجه على عكس وجه شمر المجدور ، وجه فتيّ ، وسيم ، مشرق ، لا تغيب الابتسامة عنه ، وتوقف ثانية ، وصاح : قيس . وتلفت حوله ، خشية أن يكون قد سمعه أحد ، فيظن به الظنون ، وواصل سيره ، وهو يقول في نفسه : إنني بحاجة إلى فارس ثالث ، ذكي ، مخطط ، واسع الحيلة ، ترى من يكون هذا الفارس ؟ مهما يكن ، سأجده ، لابدّ أن أجده ، وسيضطلع بهذه المهمة مع شمر وقيس .
" 9 " ــــــــــــــــــــ في نفس الوقت الذي حُدد له ، وصل شمر إلى مقرّ قيادة الحرس الملكي ، وسار في ممرات المقر ، دون أن يعترضه أحد ، ودخل الغرفة المحددة للقاء ، وتوقف وسط الغرفة متسائلاً : سبع أم ضبع ؟ وغمز بعينيه ، اللتان كانتا تلمعان ، وسط وجهه الكالح المجدور ، وقال : سبع ، أسد ، ولابدّ أن تكون المهمة مهمة أسود ، وليس ضباعاً . وفتح الباب ، وأطلّ قيس بوجهه الصبوح ، المبتسم ، فنظر شمر إليه ، وقال : أهلاً بصائد الغزلان . ودخل قيس مبتسماً ، وقال : أهلاً بكَ شمر . واقترب شمر منه ، وقال : ما آخر غزال صدته ؟ فردّ قيس : لا يشبهك بالتأكيد . وهنا فتح الباب ، ودخل عامر ، وما إن وقع نظره على شمر وقيس ، حتى راح يحدق فيهما مهمهماً : هم م م م . وقال شمر : جاء الثعلب . وقال عامر : أنتما قمر . وبدا التفكير على قيس ، فقال شمر ، دعكَ منه ، هذا الثعلب اللعين ، فأنت الوجه المضيء من القمر ، وأنا الوجه الآخر . وهمّ عامر أن يتكلم ، حين أطل الحارس من الباب ، وقال : انتبهوا ، جاء رئيس الحرس . وعلى الفور ، دخل رئيس الحرس ، وجلس في مكانه ، وراح يحدق في شمر وقيس وعامر ، ثم قال : اخترتكم لمهمة خاصة ، صعبة ، تكاد تكون مستحيلة ، قد تدفعون فيها رؤوسكم نفسها .. وتبادل شمر وقيس وعامر نظرات متسائلة حائرة ، فأضاف رئيس الحرس قائلاً : هذه المهمة تقتضي أولاً السرية التامة ، ومن يفشي منكم سراً من أسرارها ، سيقطع رأسه فوراً .. وصمت رئيس الحرس ، ثم قال : من يرد الانسحاب منكم فلينسحب الآن ، ولا جناح عليه ، وبعدها لا انسحاب ، فإما النصر أو الموت .
" 10 " ــــــــــــــــــــــ أوكل رئيس الحراس ، الضابط الشاب فارس ، لتدريب الفرسان الثلاثة ، شمر وقيس وعامر ، وعمل الضابط فارس على تدريبهم ، كما وجهه رئيس الحرس ، دون أن يعرف هو نفسه ، المهمة الخطيرة ، التي يدربهم من أجلها . وما إن انتهى من تدريبهم ، الذي استغرق عدة أشهر ، حتى أخبرهم ، بأن رئيس الحرس ، يريد أن يراهم يوم غد ، في نفس المكان ، الذي التقى بهم سابقاً . وتوقع الفرسان الثلاثة ، أن رئيس الحرس ، سيوضح لهم غداً ، وبعد أن أنهوا تدريباتهم ، المهمة الخطيرة ، التي سيوكل لهم تنفيذها . لكنهم فوجئوا ، حين حضروا في اليوم التالي ، إلى مقر الحرس الملكي ، برئيس الحرس ، الذي كان ينتظرهم في غرفته ، يقول لهم : تهيأوا ، سيأتي الحرس إليكم اليوم ليلاً ، ويأخذكم إلى السجن ؟ وصاح الفرسان الثلاثة مذهولين : السجن ؟ وعبس رئيس الحرس ، وقال : لقد خنتم الوطن ، وعملتم سراً مع المناذرة . وصاحوا ثلاثتهم بنفس الذهول : نحن ! وقال عامر : سيدي ، هناك أمر لا نفهمه . وابتسم رئيس الحرس ، وقال : أنت محق . وتبادل الفرسان الثلاثة نظرات سريعة مندهشة ، فقال رئيس الحرس : ستهربون بعد أيام من السجن ، وتلجأؤن إلى ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء . وهمهم عامر : هم م م م . فقال رئيس الحرس : وعندها تعدون العدة لتنفيذ المهمة ، التي دربناكم من أجل انجازها .. وصمت رئيس الحرس لحظة ، ثم قال : تصلون إلى المنذر بن ماء السماء ، وتجهزون عليه . وصمت رئيس الحرس ثانية ، وراح يتأمل الفرسان الثلاثة الواحد بعد الآخر ، ثم قال لهم : قبل أن يأتيكم الحرس عند منتصف الليل ، ليأخذكم إلى السجن ، سيأتي إليكم الملك الحارث نفسه سراً ، ليتحدث إليكم .
" 11 " ــــــــــــــــــــــــ في ساعة متـأخرة من الليل ، اندفعت مجموعة من حرس الملك ، يتقدمهم الضابط المدرب ، إلى مأوى الفرسان الثلاثة ، فهبّ الفرسان الثلاثة من أماكنهم ، وقد أدركوا أن موعد لقائهم بالملك قد حان . وتوقف الضابط المدرب أمامهم ، وقال : قفوا بانتظام ، سيأتي الملك حالاً . ووقف الفرسان الثلاثة ، الواحد إلى جانب الآخر ، فقال الضابط المدرب : لا ينطق أحدكم بكلمة واحدة ، إلا إذا طلب الملك منكم ذلك . ووقفوا صامتين جامدين ، وأقبل الملك الحارث ، ومعه فتاة تضع خماراً على وجهها ، وتوقف الملك في مواجهتهم ، وتوقفت الفتاة إلى جانبه ، وراح الملك يتمعن في الفرسان الثلاثة ، ومن وراء نقابها ، راحت الفتاة أيضاً تتمعن فيهم الواحد بعد الآخر . والتفت الملك إلى الضابط المدرب ، وقال : أيها الضابط ، إنهم الآن يعرفون مهمتهم . فقال الضابط : نعم ، يا مولاي . ونظر الملك إلى الفرسان الثلاثة ، وقال : نحن ، في مملكتكم العظيمة ، مملكة الغساسنة ، نتطلع إليكم ، ونضع كلّ آمالنا فيكم ، فلا تخيبوا آمالنا . وكما أوصاهم الضابط المدرب ، لاذوا بالصمت ، ولم ينبس أحدهم بكلمة ، وإن بدا عليهم التأثر ، وأشار الملك الحارث إلى الفتاة ، وقال : ابنتي .. حليمة . وران صمت عميق ، ولم يند من الفرسان الثلاثة ، ولا من الضابط المدرب ، نأمة واحدة ، وتابع الملك قائلاً : جاءت معي لتودعكم ، وتتمنى لكم النجاح في مهمتكم ، التي ستقرر مصير مملكتنا . ورفعت الأميرة النقاب عن وجهها ، ووقفت تنظر إليهم مبتسمة مشرقة ، وقالت وهي تلوح بقنينة طيب : هذا طيب خاص لكم ، أنتم فرسان الحيرة ، وسأطيبكم به بنفسي ، فأنتم من ستأتون لنا بالنصر . ووقف الفرسان الثلاثة فرحين مزهوين ، فمال الملك عليهم ، وقال : لكم بشرى عظيمة عندي ، بعد أن تطيبكم ابنتي الأميرة حليمة بنفسها . وتقدمت الأميرة حليمة منهم ، وطيبتهم مبتسمة الواحد بعد الآخر ، وحين وصلت شمر ، توقفت تنظر إليه ، وقد اختفت ابتسامتها ، وسرعان ما استدارت ، وتوقفت صامتة إلى جانب أبيها الملك . ولاحظ الملك ما جرى من ابنته الأميرة ، لكنه تجاهل الأمر ، ومال على الفرسان الثلاثة باشاً ، وقال : لتعلموا جميعا ، أن من يقتل المنذر بن ملك السماء ، ملك المناذرة ، ستكون الأميرة زوجة له .
" 12 " ـــــــــــــــــــــــ قبل أن يصل الملك الحارث ، وابنته الأميرة حليمة ، إلى القصر الملكي ، انقض مجموعة من الحرس يتقدمهم الضابط المدرب ، على الفرسان الثلاثة ، واقتادوهم مخفورين إلى السجن . لم يفاجأ الفرسان الثلاثة بما جرى لهم ، فهم يعرفون أن هذا الأمر ، هو جزء من الخطة ، التي رسمها الملك الحارث لهم ، لعلها توصلهم إلى ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء ، والإجهاز عليه . وجاءهم الضابط المدرب ، تحيط به ثلة من الحراس ، وراح يُؤنبهم ، ويتوعدهم قائلاً : هذا البلد الذي أنبتكم ورعاكم ، تخونونه ، ومع من ؟ مع المنذر ملك أعدائنا ، الويل لكم ، لن يسامحكم الملك الحارث ، وسينزل بكم أشد العقاب ، عاجلاً وليس آجلاً . وفي هذه الحالة ، لم يكن أمامهم ـ وهذا ما خطط لهم ـ إلا الهرب ، واللجوء إلى ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء ، وهذا ما فعلوه ، وبغفلة من الحراس ـ وهذا أيضاً خطط لهم ـ تسللوا من السجن ، ولاذوا بالفرار . وحين علم الملك الحارث ، بهروب السجناء الثلاثة من السجن ، استشاط غضباً ، وأمر أن يُحقق في الأمر فوراً ، هذا ما رآه الحرس ، والخدم ، والجواري ، ورووه للآخرين خارج القصر . وبأمر من رئيس الحرس ، انطلق الضابط المدرب ، على رأس ثلة من الحرس المدججين بالسلاح ، وطوال ساعات الليل ، ظلوا يبحثون عن الفرسان الثلاثة ، الذين هربوا من السجن ، دون جدوى . وفي اليوم التالي ، كان جميع من في مدينة الحيرة ، قد علموا ، أن السجناء الثلاثة ، الذين هربوا من السجن ، كانوا من عملاء ملك الأعداء ، المنذر بن ماء السماء ، وأنهم ربما سيلوذون به .
" 13 " ـــــــــــــــــــــــ حتى قبل أن يقع الفرسان الثلاثة ، وهم في أسوأ حال ، بيد المناذرة ، بدأت أنباء متواترة ، تصل إلى إليهم ، إلى أن وصلت الملك نفسه ، بأن ثلاثة فرسان متهمون بالتعاون مع ملك المناذرة ، فروا من السجن ، وجُند ملك الغساسنة ، يجدون في أثرهم ، دون جدوى . وأمر ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء ، بعض فرسانه بالانتشار قريباً من حدود الغساسنة ، والبحث عن هؤلاء الفرسان الثلاثة ، والإتيان بهم مباشرة ، إذا وقعوا في أيديهم . وذات مساء ، والملك المنذر بن ماء السماء ، يجلس في قاعة العرش ، ومعه مستشاره العجوز ، دخل عليه الحاجب ، وقال : مولاي ، فارس جاء بخبر هام . فقال الملك : أدخله . وعلى الفور ، أدخل الفارس ، فانحنى للملك ، وقال : مولاي ، سجناء الملك الحارث ، وقعوا في أيدينا ، وهم الآن في السجن . ونظر الملك إلى مستشاره العجوز ، وقال : هؤلاء السجناء الثلاثة ، سيكونون عوناً لنا ، في حربنا المستمرة مع المناذرة . وعلى عادته المعروفة ، لاذ المستشار العجوز بالصمت ملياً ، ثم قال بصوته الشائخ : هذا ممكن ، يا مولاي ، لكن الأفضل أن نتروى . وتطلع الملك إليه متسائلاً ، فتابع المستشار العجوز بصوته الشائخ : ليبقوا في السجن معززين مكرمين ، يا مولاي ، ولنحقق معهم ، ونقف على حقيقتهم . فقال الملك : هؤلاء السجناء هربوا من سجن الحارث ، وأنت تعرف الحارث . فقال المستشار العجوز : أعرفه ، يا مولاي ، ولا بأس أن نعرف هؤلاء السجناء الثلاثة على حقيقتهم ، ثم نتعاون معهم بما يخدم حربنا مع الحارث . وصمت لحظة ، ثم قال : لن نخسر شيئاً ، يا مولاي ، إذا استضفناهم في السجن عدة أيام ، ثم نطلق سراحهم معززين مكرمين ، ونضعهم في المكان الذي يستحقونه ، بعد التأكد من حقيقتهم .
" 14 " ـــــــــــــــــــــــ أجريت تحقيقات مع الفرسان الثلاثة ، وهم في السجن ، وأعيدت التحقيقات أكثر من مرة ، بصورة مباشرة وغير مباشرة ، حتى اطمأن الجميع إليهم ، عدا المستشار العجوز ، الذي لم تزايله الشكوك تماماً . وأبلغ الملك المنذر بن ماء السماء بنتائج التحقيقات ، بحضور المستشار العجوز ، فابتسم الملك ، وتطلع إلى المستشار العجوز ، وقال : حتى العمر لم يؤثر في حذرك ، وشكوكك المعهودة . وقال المستشار العجوز : الشكوك ، يا مولاي ، يجب أن تزداد مع الزمن ، لا أن تقلّ ، إنّ عدونا الحارث غدّار ، وعلينا أن نحذره تماماً . وقال الملك المنذر بن ماء السماء : أنت محقّ ، لكن هؤلاء الفرسان الثلاثة ، خرجوا على ملكهم ، ولجأوا إلينا ، وعلينا أن لا نخذلهم . فقال المستشار العجوز : نعم ، ولكن علينا أن لا نغمض عيوننا ، مهما كان السبب . وأخرج الفرسان الثلاثة من السجن ، وأسكنوا مؤقتاً في بيت قريب من القصر ، يقع بين بيوت بعض العاملين في قصر الملك المنذر بن ماء السماء . والتقى الملك المنذر ، أكثر من مرة ، بالفرسان الثلاثة ، بحضور المستشار العجوز ، ووجود حراس مدججين بالسلاح خارج القصر . وخلال هذه المدة ، راح الفرسان الثلاثة ، وعلى رأسهم شمر ، يدرسون ما يحيط بهم ، من بيوت ، وشوارع ، وحدائق ، وعاملين في القصر . وعند استقبالهم من قبل الملك والمستشار العجوز ، في قصر الملك ،حاولوا أن يعرفوا غرف القصر ، وقاعاته ، وممراته ، ومخدع الملك نفسه . وذات مرة ، همس عامر لقيس ، وقد رأى عينيه تطاردان خلسة إحدى جواري القصر : يا صائد الغزلان ، اصطد هذه الغزالة . وعن طريق هذه الغزالة ، عرف الفرسان الثلاثة ، الكثير من عادات الملك المنذر بن ماء السماء داخل القصر ، ومنها أنه يلجأ وحده ليلاً إلى قاعة العرش ، ويبقى فيها ، حتى ساعة متأخرة من الليل .
" 15 " ــــــــــــــــــــــــ تلك الغزالة ، التي اصطادها قيس في القصر ، والتي عرف من خلالها الكثير ، كان اسمها سلوى ، ووقتها حذره شمر قائلاً : حذار من غزلان القصر . فقال قيس : لا تخف عليّ ، إنني حذر . وقال شمر : لا تنسَ ، يا قيس ، ليس هدفنا قلب امرأة ، وإنما رأس المنذر . وغمز قيس لعامر ، وقال : عامر يعرف ، أنك إذا أردت أن تصل إلى رأس رجل ، فتسلل إليه عن طريق قلب امرأة ، وهذا ما أفعله . وابتسم عامر ، وقال : شمر ، لا تخف على قيس ، إنه يتسلل في الطريق الصحيح . وذات يوم ، اختلى قيس بسلوى ، وقال لها مازحاً : غزالتي .. سلوى .. ونظرت سلوى إليه مبتسمة ، وقالت : شبيك لبيك .. سلوى بين يديك . وقال قيس : أريد أن أجلس على العرش . وفغرت سلوى فاها ، وقالت : ماذا ! وقال قيس : ما سمعته . فقالت سلوى : العرش نار . وقال قيس : ليكن مادمت معي . وقالت سلوى : عندئذ سنحترق معاً . وصمت قيس لحظة ، وعيناه متعلقتان بعينيها ، ثم قال : حسن ، بدل أن أحترق ، حدثيني كلّ يوم عن قاعة العرش ، أريد أن أدخلها في خيالي . وتساءلت سلوى : وحتى والملك فيها ليلاً . فتظاهر قيس بالخوف ، وقال : لا ، يا سلوى ، حذريني ، قولي لي ، الملك المنذر بن ماء السماء اليوم في قاعة العرش ، حتى لا أدخل فيها ، في خيالي . وصمت قيس برهة طويلة ، ثمّ تنهد ، وقال : سلوى .. ردت سلوى : نعم . وقال قيس : حدثيني عن هذه القاعة ، حتى لا أضل فيها ، وأنا أدخلها ليلاً في خيالي . ولاذت سلوى بالصمت لحظة ، ثم قالت : هذه القاعة ، هي قاعة العرش ، ولا يدخلها بغياب الملك أحداً ، لا ليلاً ولا نهاراً ، عداي طبعاً . وتساءل قيس مازحاً : وتجلسين على العرش ؟ فردت سلوى : لا ، أنظفه فقط . وقال قيس : ليتني أستطيع أن أرى الملك ، ولو في خيالي ، وهو يجلس على العرش . وتلفتت سلوى حولها ، ثم قالت : عندما يأتي الملك إلى قاعة العرش مرة في الليل ، سأخبرك . وتهلل وجه قيس ، وقال لها ، وهو يعانقها : ستكون ليلة العمر ، سلوى . وانسحبت سلوى من بين ذراعيه ، وقد احمرّت وجنتاها ، فقال قيس : لن أدخل قاعة العرش في خيالي ، إلا وأنتِ معي ، يا سلوى .
" 16 " ــــــــــــــــــــــــ عادت سلوى ليلاً إلى بيتها ، القريب من بيت الفرسان الثلاثة ، وقبل أن تصل إلى بيتها ، توقف برهة ، ثم استدارت واتجهت إلى بيت الفرسان الثلاثة . ودارت حول البيت ، وطرقت الشباك ثلاث طرقات ، ولأن قيس يعرف طرقاتها ، هبّ من مكانه ، وفتح الشباك ، إنها سلوى فعلاً ، فمال عليها ، وقال بوله : غزالتي ، غزالتي الحبيبة . وابتسمت سلوى ، وقد غمرها الفرح ، وقالت : أردتك أن تحلم الليلة .. فقاطعها قيس قائلاً : إنني أحلم بكِ دائما ً . فقالت سلوى ضاحكة : ليس بي دائماً ، وإنما .. وتساءل قيس مفكراً : وإنما .. ؟ وكفت سلوى عن الضحك ، وقالت : العرش . وفغر قيس فاه ، فمالت سلوى عليه ، وقالت : أرجو أن تكتفي اليوم بغزالتك .. سلوى . واتسعت عينا قيس ، وقال : أتعنين .. ؟ فقالت سلوى ، وهي تبتعد مسرعة : نعم ، الملك في قاعة العرش الآن . وأغلق قيس الشباك ، وأسرع إلى غرفة شمر ، ودفع الباب دون أن يطرق الباب ، وإذا شمر متمدد في فراشه ، وقد أغمض عينيه المتعبتين ، فصاح قيس بصوت خافت : شمر . وفتح شمر عينيه الناعستين ، وقال : خيراً ؟ فقال قيس ، والكلمات تتدفق من بين شفتيه منفعلة : مرت غزالتي سلوى بي الآن ، وأخبرتني أنّ الغراب في القفص . وهبّ شمر من مكانه ، وقد طار النعاس من عينيه ، وهو يقول : حانت ساعة العمر ، أسرع إلى الثعلب عامر ، وقل له أن يتهيأ . وعلى جناح السرعة ، تهيأ الفرسان الثلاثة ، وتسللوا كأشباح الليل تحت جنح الظلام ، إلى قصر ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء .
" 17 " ـــــــــــــــــــــــ تسلل الفرسان الثلاثة ، كما لو كانوا أشباح الليل ، إلى حدائق القصر الملكي ، ويبدو أن القمر كان متحالفاً معهم ، فقد توارى وراء الغيوم الثقيلة السوداء ، التي راحت العواصف تتقاذفها في أعالي السماء . ودون أن يلمحهم أحد من حراس القصر ، ووسط جنون الطبيعة ، من رياح عاصفة وبروق وتفجر رعود مجنونة كتفجر حمم البراكين ، توغلوا في أعماق الحدائق الممتدة على مساحة واسعة من الأرض ، حتى بلغوا أشجاراً كثيفة ، تقع وراء القصر . وتوقف أشباح الليل ، الفرسان الثلاثة ، وسط الظلام التام ، وتشاوروا فيما بينهم ، وسرعان ما توارى قيس وعامر بين الأشجار الكثيفة ، وانسل شمر بخفة قط أسود ، وخنجره القاتل في وسطه ، وعالج شباكاً صغيرا حتى فتحه ، ومضى عبره إلى داخل القصر . وأسرع كالشبح في ممرات القصر ، لا يُرى وكأنه يضع طاقية الإخفاء على رأسه ، حتى وصل قاعة العرش ، وتوقف أمام أحد الشبابيك ، ثم عالجه بخفة ودراية ، دون أن يصدر عنه أي صوت ملفت ، حتى فتحه . وعبر هذا الشباك ، انسلّ شمر إلى داخل قاعة العرش ، وعلى ضوء قناديل القاعة ، رأى بغيته ، المنذر بن ماء السماء ، وتراءت له ، عبر الظلام ، الأميرة حليمة ، تمدّ يديها الملكيتين له ، فاستلّ خنجره ، وتقدم بخطوات سريعة ، وثابتة : نحو الملكِ . وأحسّ الملك المنذر بن ماء السماء به ، فالتفت إليه بسرعة ، وهمّ بمواجهته ، لكن شمر وثب عليه كالوحش الكاسر ، وأطبق على فمه بكفه الصلبة كالصخر ، وعاجله بطعنة من خنجره في صدره . وترنح الملك ، وتهاوى متوجعاً ، وتمتم بصوت تخنقه الدماء : شمر ! أيها اللعين .. الغادر . وبنفس قوة الطعنة الأولى ، طعنه شمر ثانية ، وهو يقول : هذه ليست يدي فقط ، وإنما أيضاً يد الحارث . وتهاوى المنذر بن ماء السماء على الأرض ، مضرجاً بدمائه ، وتمتم بصوت يحتضر : الويل لك .. يا شمر .. لن تفلت .. حتى لو ذهبت .. إلى آخر الدنيا .
" 18 " ـــــــــــــــــــــــ في وقت مبكر من صباح اليوم التالي ، دخلت سلوى كالعادة إلى قاعة العرش ، لتتأكد من نظافتها ، وحسن ترتيب آثاثها ، وفوجئت بالملك المنذر بن ماء السماء ، ملقى على الأرض ، مضرجاً بدمائه . وعلى الفور ، أسرعت إلى رئيس الحرس ، وأخبرته بالأمر ، فأسرع ، هو وثلة من حرس القصر ، ودخلوا قاعة العرش ، وكما أبلغته سلوى ، رأى رئيس الحرس الملك على الأرض ، جثة هامدة . وسرعان ما انتشر خبر مصرع المنذر بن ماء السماء في القصر ، وفي دائرة المقربين منه في خارج القصر أيضاً ، ومنهم المستشار العجوز ، والتفوا حول الجثة المدماة ، وراحوا يتشاورون في الأمر . وتساءل أحد الأمراء : ترى من القاتل ؟ وتطلع المستشار العجوز إليه ، وقال : ما أخشاه أن يكون هؤلاء الفرسان الثلاثة ، الذين لجأوا إلينا ، هم من اقترف هذه الجريمة . فقال رئيس الحراس : فلنتأكد من الأمر . وقال المستشار العجوز : اذهبوا إلى بيتهم الآن . وعلى الفور ، أسرع رئيس الحرس ، على رأس ثلة من الحرس المدججين بالسلاح ، إلى بيت الفرسان الثلاثة ، وسرعان ما عاد إلى قاعة العرش ، وقال للمستشار العجوز : تخمينك كان في محله ، لقد هرب الفرسان الثلاثة من البيت . وهزّ المستشار العجوز رأسه ، وقال : هذا ما حذرت منه ، العدو عدو ، ولن يكون صديقاً . ونظر إلى رئيس الحرس ، وقال : الجريمة وقعت ، وخسرنا ما لن يتم تعويضه ، والمهم الآن أن لا يفلت الجناة من أيدينا . ورفع رأسه ، وأضاف قائلاً : بل لن يفلت من كان وراءهم ، وسننزل بهم العقاب ، الذي يستحقونه .
" 19 " ــــــــــــــــــــــــ على الطرف الآخر ، أقام الملك الحارث ، ملك الغساسنة ، وليمة كبيرة على شرف الفرسان الثلاثة ، الذين حققوا ما عجزت الجيوش الجرارة عن تحقيقه ، وأجهزوا على رأس أعدائهم ، ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء . وفي صدر الوليمة الباذخة ، جلس الحارث فرحاً مزهواً ، وجلس على مقربة منه الفرسان الثلاثة ، فرحين بما حققوه ، يختالون بالملابس الفاخرة الجميلة ، التي خلعها عليهم الملك الحارث . وقبل البدء بالوليمة ، وقف الملك الحارث ، وحوله وقف الفرسان الثلاثة ، شمر وقيس وعامر ، وتطلع إلى الحاضرين ، وقد غمره الفرح ، وقال : انظروا ، هؤلاء الفرسان الثلاثة ، هم نحن الغساسنة ، وباسمنا جميعاً ، وبأذرعنا القوية ، أجهزوا على ملك الأعداء ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء . وصمت لحظة ، ثم قال : لقد أنزل هؤلاء الثلاثة ، ضربة قاصمة بالمناذرة ، حتى لن يقووا ، لا الآن ولا في المستقبل ، على مواجهتنا ، صحيح أنهم بعد مقتل المنذر ، جيشوا جيشاً ، وجهوه للانتقام لملكهم ، لكننا بدورنا أعددنا قوة ، ستتصدى لهم قريباً ، وتسحقهم . ثم التفت إلى الفرسان الثلاثة ، وقال : أنتم أديتم واجبكم ، وقد حان لأن يتم رفاقكم ما بدأتموه . والتفت الملك إلى الضيوف ، وأشار إلى موائد الوليمة ، المثقلة بالطعام والشراب ، وقال : تفضلوا ، واشكروا الأبطال الثلاثة ، فهذه الوليمة تقام على شرفهم ، لما حققوه من انجاز عظيم . وانهمك الجميع في الطعام والشراب ، حتى ساعة متأخرة من الليل ، وعندئذ نهض الملك ، متهيئاً للانصراف ، ومعه نهض الجميع ، والتفت الملك إلى شمر ، وقال : تعال يا شمر . وعلى الفور ، اقترب شمر منه ، وقال : مولاي . فمال عليه الملك ، وقال بصوت هامس : الأميرة حليمة ، تنتظرك صباح الغد ، ستراك أنت وحدكَ . وانحنى شمر ، وقد غمره الفرح ، وقال : أشكرك ، يا مولاي ، أشكرك .
" 20 " ــــــــــــــــــــــــ قبيل منتصف النهار ، كانت أم شمر تسير متوكئة على عكازها ، مقتربة من قصر الملك ، قصر الحارث ، ملك الغساسنة . ورآها الحراس مقبلة ببطء ، فأسرع أحدهم إلى الداخل ، وأخبر الوصيفة ، التي جاءت أمس إلى البيت ، وطلبت منها أن تأتي للقاء الأميرة في القصر . وأقبلت الوصيفة مسرعة ، واستقبلت أم شمر عند مدخل القصر ، وقالت باشة : أهلاً ومرحباً أم شمر ، تفضلي ، إلى الداخل ، تفضلي . وتوقفت أم شمر لاهثة ، وقالت : أهلاً بكِ . وخطت الوصيفة تتقدمها ، إلى مدخل القصر ، وهي تقول : تفضلي ، الأميرة في غرفتها ، تنتظركِ . ودخلت الوصيفة بأم شمر ، إلى داخل القصر ، وسارت بها ببطء حتى وصلت غرفة ، ذات باب كبير مرتفع ، يقف على جانبيه حارسان مدججان بالسلاح ، وتوقفت الوصيفة ، وقالت : هذه هي غرفة الأميرة ، إنها تنتظركِ في الداخل ، تفضلي ادخلي . ودفع أحد الحارسين الباب برفق ، ودخلت الوصيفة ، وفي أثرها دخلت أم شمر ، ونهضت الأميرة باشة ، فقالت الوصيفة : مولاتي ، أم شمر . فقالت الأميرة : اخرجي أنتِ ، وأغلقي الباب . وترجعت الوصيفة ، ثم خرجت وقالت وهي تغلق الباب : أمر مولاتي . والتفتت الأميرة إلى أم شمر ، وقالت : أهلاً أم شمر ، أهلاً بأم بطلنا الخالد .. شمر . ولاذت أم شمر بالصمت ، فقالت الأميرة ، وهي تشير إلى مقعد قريب : تفضلي اجلسي ، يا أم شمر . وردت أم شمر بصوتها الواهن الشائخ : أشكركِ ، إنني أفضل البقاء واقفة . وقالت الأميرة ، وهي تجلس في مكانها : أردتكِ أن ترتاحي ، لكن .. كما تشائين . وحدقت فيها لحظة ، ثم قالت : أرسلتُ إليكِ ، لتتفضلي إلى القصر ، فأقول لكِ ، إن الملك ، إكراماً لشمر ، وتضحياته العظيمة ، خصص لكِ بيتاً مناسباً ، يليق بكِ وبابنك البطل شمر .. وصمتت لحظة ، ثم قالت : كما خصص لكِ راتباً شهرياً مجزياً ، فأنت أم البطل . ولاذت أم شمر بالصمت برهة ، ثم قالت بصوتها الواهن الشائخ : شكراً للملك الحارث ، على التفاتته الكريمة ، لكني أفضل البقاء في بيتي الصغير ، القديم ، الذي ولد فيه ابني شمر ، وعاش فيه عمره .. القصير . ونهضت الأميرة ، واقتربت من أم شمر ، وقالت : ابنك شمر ، هو واحد من أبناء هذا الشعب ، ابن الوطن الغالي ، افتدى بحياته شعبه ووطنه ومليكه ، وقتل من أجل هذا كله ، على أيدي أعدائنا المناذرة ، وملكهم الهالك المنذر بن ماء السماء . ورفعت أم شمر عينيها ، اللتين دبت فيهما شعلة غريبة متوهجة ، وقالت : مولاتي ، لا تغضبي مني ، إنني أم ، شمر ابني .. وحدقت الأميرة فيها صامتة ، فقالت أم شمر : صحيح أن ابني شمر .. مات بسيوف المناذرة .. لكن .. في الحقيقة .. أنتِ قتلته . وشهقت الأميرة مستنكرة : أنا ! فتابعت أم شمر قائلة : أنتِ دفعته إلى الموتِ ..وصمتت أم شمر لحظة ، ثم قالت : عندما عاد من لقائه معكِ ، كان محبطاً ، ممروراً ، يائساً ، فقرر أن لا يبقى ، ويعود إلى ساحة القتال . وبصوت متردد ، غير واثق ، قالت الأميرة : عاد ليقاتل حتى النصر النهائي . فقالت أم شمر : بل عاد ليموت ، وقد مات فعلاً . وتهاوت الأميرة جالسة في مكانها ، دون أن تنبس بكلمة واحدة ، وقد اربدّ وجهها ، فاستدارت أم شمر ، واتجهت إلى الخارج بخطواتها البطيئة ، متوكئة على عكازها وشيخوختها الواهنة .
20 / 3 / 2018
إشارات ــــــــــــــــــــــــــ
المناذرة : سلالة عربية ، حكموا العراق قبل الإسلام ، وكانوا حلفاء الرومان أول الأمر ، ثم تحالفوا مع الفرس . الغساسنة : سلالة عربية ، أسست مملكة في الشام ، ضمن حدود الإمبراطورية البيزنطية ، قبل الإسلام ، هاجروا في أوائل القرن الثالث من اليمن ، بعد انهيار سد مأرب .
رواية للفتيان
من قتل شمر ؟
طلال حسن
الشخصيات ــــــــــــــــــــــــــ
الغساسنة .. 1 ـ الحارث ملك الغساسنة 2 ـ حليمة ابنة الحارث 3 ـ شمر حارس 4 ـ أم شمر 5 ـ قيس حارس 6 ـ عامر حارس
المناذرة 1 ـ المنذر بن ماء السماء ملك المناذرة 2 ـ المستشار العجوز 3 ـ سلمى خادمة
" 1 " ــــــــــــــــــــــ فزّت أم شمر من غفوتها ، لا تدري لماذا ، لعلها رأت حلماً .. كابوساً .. في نومها ، ولماذا تراه في نومها ؟ إن حياتها نفسها كابوس . واعتدلت في فراشها متنهدة بحرقة ، فمنذ أن ذهب ابنها شمر إلى معركته الأخيرة ، وقتل فيها ، وهي تعيش هذا الكابوس ، الذي لا ينتهي . وتحاملت على نفسها ، ونهضت من فراشها متلفتة ، أين عكازها اللعين ؟ وخطت مترنحة بضع خطوات ، وكادت تتهاوى على الأرض ، فتوقفت لاهثة ، وتطلعت عبر النافذة إلى البعيد . آه البيت فارغ ، وبصرى فارغة ، العالم كله فارغ ، أعماقها نفسها ، التي كانت تضج بالفرح والحياة فارغة تماماً ، نعم ، حياة ليس فيها شمر .. فارغة ، ولا تستحق أن تُعاش يوماً واحداً . وصاحت في أعماقها ، حيث يقبع كلّ العالم ، من قتل ابني شمر ؟ الذي لم ترَ بُصرى ، ولا الشام كلها ، من هو أرجل منه ، قوة وشجاعة وذكاء .. من قتله ؟ المنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة ؟ أم الحارث ، ملكنا ، ملك الغساسنة ؟ أم رئيس الحرس .. لا .. لا .. لا . هذا سرّ لا يعرفه أحد غيري ، وسيأتي اليوم ، الذي أعلنه فيه ، وعندها فقط ، يمكن أن أرتاح بعض الشيء ، وإلا لن يفارقني الكابوس ، حتى أفارق الحياة . وتوقفت أم شمر ، حين سمعت طرقاً على الباب ، لكنها لم تتحرك من مكانها ، وطرق الباب ثانية ، فأخذت عكازها ، ومضت نحو الباب ، وفتحته ، وإذا جارية شابة تميل عليها مبتسمة ، وتحييها قائلة : طاب صباحك ، يا جدتي ، أم شمر . فردت أم شمر عابسة : أهلاً ومرحباً . فقالت الجارية : مولاتي ، الأميرة حليمة ،تقرئكِ السلام ، و .. وتنهدت أم شمر متضايقة ، فصمتت الجارية لحظة ، ثم قالت : الأميرة تريد أن تراكِ غداً ، قبل منتصف النهار ، وسترسل من يأخذك إلى القصر . فقالت أم شمر ، وهي تصفق الباب : لا أريد أحداً ، سأحضر غداً بنفسي . وسارت أم شمر إلى غرفتها ، متعكزة على شيخوختها وعكازها الخشبي ، وتوقفت وسط الفناء ، ورفعت رأسها ، وصاحت بحرقة : شمر .. شمر .. شمر .
" 2 " ـــــــــــــــــــــ تمددتْ أم شمر في فراشها ، وأغمضت عينيها اللتين أتعبتهما مسيرة حياتها ، وخاصة بعد أن ذهب شمر إلى معركته الأخيرة ، ولم يعد منها ، وقيل لها أنه قتل ، ودفن في أرض المعركة . وحياتها ، كما تراها حقيقة ، بدأت بعد ولادة شمر ، خاصة وأن أباه ، شمعة حياتها ، كان قد انطفأ ، في معركة من المعارك المستمرة ، بين الحارث ملك الغساسنة في الشام ، وملك المناذرة في العراق ، المنذر بن ماء السماء . ومنذ البداية ، بدا للأم وللآخرين أيضاً ، أن شمر سيكون مثل أبيه قوة وشجاعة ، لكنه لم يكن وسيماً كأبيه ، لا سيما أن الجدري ، الذي أصيب به في طفولته ، وكاد أن يقضي عليه ، ترك حفراً قبيحة على صفحة وجهه ، التي لم تكن مقبولة من الأساس . ووسط هذه الحفر ، والقبح الظاهر ، تطل من صفحة وجهه عيناه الواسعتان ، السوداوان ، اللتان أخذهما عن أمه ، واللتان تضيئان قويتين ثابتتين ، تنمان عن أعماقه الحقيقية القوية المرهفة الأحاسيس . ولعل قوته وجرأته الفائقة ، عوضتاه عن قبحه ، وحفر الجدري التي تشوه وجهه ، عند الكثير من أصدقائه ، بل وحتى بعض الفتيات أيضاً ، ممن عرفنه عن قرب ، واللواتي يعشقن القوة والشجاعة الفائقة . وتذكر أم شمر ، أنه في مقتبل شبابه ، تصدى لذئب شرس في الريف وقتله ، حدث هذا عندما كان في زيارة لجده ، الذي كان يحبه ومعجباً به للغاية . فقد خرج ذات يوم يتجول في أحد الحقول ، التي ترعى فيها عدة قطعان من الأغنام ، وهاجم ذئب شرس الأغنام ، وبدل أن يصده الرعاة ، ويقضوا عليه ، أو يجبروه على الهرب ، لاذوا هم أنفسهم بالفرار ، فتصدى شمر للذئب الشرس ، ووجه إليه طعنات عديدة من بخنجره ، الذي لا يفارقه أبداً ، وأجهز عليه . وكمعظم فتيان عشيرته ، كان شمر يحلم أن يكون جندياً من جنود الملك الحارث ، يقاتل في صفوفه جند المناذرة ، وملكهم المنذر بن ماء السماء . وتحقق حلمه ، عندما انخرط في جيش الحارث ، وراح يتدرب على فنون القتال ، حتى صار واحداً من أفضل الجنود ، قوة وشجاعة ومطاولة على القتال . " 3 " ـــــــــــــــــــــــــ مست شمر ، ذات يوم ، شرارة برق ، أشعلت في قلبه الغض شعلة ، لم يخفت أوارها يوماً ، ولم تنطفىء حتى اللحظات الأخيرة من عمره . وشرارة البرق ، كانت حليمة ، ابنة الملك الحارث ، ولم يكن قد رآها من قبل ، لكنه حين رآها ، لم تغب عنه لحظة واحدة ، إلى أن غاب هو نفسه . جاءتهم حليمة إلى الميدان ، الذي يتدربون فيه على الفروسية ، ممتطية حصاناً جامحاً ، لا تكاد أقدامه تثبت على الأرض لحظة واحدة ، وتوقفت على مقربة ، وراحت تتطلع إليهم الواحد بعد الآخر ، دون أن تتوقف عيناها البنيتان عند واحد منهم . ثم غمزت حصانها بكعب قدمها غمزة رفيقة ، وراحت تدور به حولهم ، وهي تقول : تدربوا جيداً ، وكونوا أبطالاً ، فأنتم ، أيها الفرسان ، غساسنة ، والغساسنة أبطال ، لقد قاتل آباؤكم دفاعاً عن أرض الوطن ، ضد أعدائنا المناذرة الطامعين ، فكونوا مثل آبائكم أبطالاً ، إن الوطن ينتظر دوركم البطولي ، فالمناذرة على الأبواب من جديد . وتوقفت حلية ثانية بحصانها الجامح ، ثم استدارت به ، وقالت : استمروا على التدريب . وانطلقت حليمة بحصانها الجامح ، وكأنه حصان طائر من أحصنة الأساطير ، مبتعدة عن ساحة التدريب ، لكنها لم تبتعد مطلقاً عن شمر ، فقد بقيت ايقونة جميلة في عينيه ، وشعلة لا تنطفىء في قلبه الغض . وسرعان ما اشتعل القتال مجدداً ، بين الحارث ملك الغساسنة في الشام ، والمنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة في الشام ، واستمر القتال بينهما مدة طويلة ، دون أن ينتصر أحدهما على الآخر ، ويحسم الحرب لصالحه ، حتى توقف القتال ، وانسحب كلّ فريق إلى مواقعه ، انتظاراً للجولة القادمة .
" 4 " ــــــــــــــــــــــ تطلعت الأميرة حليمة إلى وجهها في المرآة ، وابتسمت فرحة : آه قمر .. هذا ما تقوله أمها ، عينان بنيتان بلون القهوة اليمنية ، أخذتهما من جدتها لأمها ، وخداها تفاحتان من تفاح الجبال ، نعم ، هذا ما تقوله أمها ، لكن أمها مهما كان .. أمها ، وهي امرأة . وأبعدت الأميرة المرآة عنها ، حين تناهى إليها وقع أقدام خفيفة ، لابدّ أنها أمها ، نعم إنها هي ، فقد جاءها صوتها الأمومي يهمس : حليمة . واستدارت الأميرة ، وقالت : نعم ماما . وتوقفت الأم أمام حليمة ، وقالت : رأيتك من بعيد كالعادة تتمرين . وألقت الأميرة المرآة جانباً ، وقالت : سأبعد كلّ المرايا عن غرفتي . وابتسمت الأم قائلة : المرأة والمرآة رفيقتان ، لا ينبغي أن تفترقا أبداً . ونظرت الأميرة إلى أمها ، وقالت : أنا لا أريد أن أكون امرأة فقط . ومدت الأم يدها ، وداعبت برفق وجنة الأميرة ، وقالت : تفاحة ، تفاحة من تفاح الجبال . وأبعدت الأميرة خدها عن أنامل أمها ، فقالت الأم مبتسمة : عندما كنت في عمرك ، كانت المرآة لا تفارقني ، وكنتُ لا أرى وجهي وحده فيها ، فقد كان إلى جانبه وجه فارس شاب . وحملقت الأميرة في أمها ، فتابعت الأم قائلة : أبوك الملك طبعاً ، كان هو الفارس الشاب ، وحين التقيت به أشعلتُ في أعماقه البطولة والشجاعة والرجولة . وصمتت الأم لحظة ، ووقف عند النافذة ، وراحت تتطلع إلى البعيد ، ثم قالت : الرجل بركان خامد ، لا تثيره ، وتشعله إلا شرارة امرأة . ونظرت الأميرة إلى أمها ، وقالت في نفسها : أنا الشرارة ، وسأشعل البراكين ، التي لن تخمد ، إلا بتحقيق .. النصر .
" 5 " ــــــــــــــــــــ لم تنم الأميرة حليمة تلك الليلة ، في موعدها الذي اعتادت عليه ، وعند منتصف الليل تقريباً ، خرجت من غرفتها ، ولاحظت أن قاعة العرش مضاءة ، ويقف ببابها حارس مدجج بالسلاح . واقتربت الأميرة من الحارس ، وقالت : أرى قاعة العرش مضاءة ، الليل يكاد ينتصف . فأحنى الحارس رأسه ، وقال بصوت خافت : مولاي الملك في الداخل ، يا مولاتي . ومدت الأميرة يدها ، ودفعت الباب برفق ، ودخلت القاعة بخطى هادئة ، وإذا أبوها الملك يقف قرب النافذة ، محدقا في الظلام . والتفت الملك ، حين تناهى إليه وقع خطواتها في صمت القاعة ، وقال مندهشاً : بنيتي ، حليمة ! وبنفس الدهشة ، قالت الأميرة : أبي ! وابتسم الملك ، فتابعت الأميرة قائلة : نحن في منتصف الليل ، يا أبي . قال الملك : أنتِ لم تنامي . وقالت الأميرة : وأنت أيضاً لم تنم . وسار الملك نحو العرش ، وجلس على الكرسي ، وقال : أنا الملك . وفي أثره سارت الأميرة ، وقالت : وأنا ابنة الملك . وصمت الملك لحظة ، ثم غزت عينيه ابتسامة ، راحت تتسع ، حتى كاد يضحك ، فنظر إلى الأميرة ، وقال : قالت لي جدتي مرة ، وجدتي كانت امرأة حصيفة ، الرجل عضلات ، والمرأة هي العقل . وصمت الملك لحظة ، ثم قال : ضحكتُ وقتها ، وقلت لها ، أنتِ تقولين هذا ، يا جدتي ، لأنكِ امرأة . ومالت الأميرة على أبيها الملك ، وقالت : نعم ، قالت هذا لأنها امرأة ، لأنها العقل . وقال الملك : حليمة ، أنتِ مثل جدتك . فقالت الأميرة : أنا امرأة . ولاذ الملك بالصمت ، فقالت الأميرة : ما لم يؤخذ بقوة العضلات ، يمكن أن يؤخذ بقوة العقل . وحدق الملك فيها صامتاً ، فقالت : الأفعى إذا قطعنا ذنبها ، لا تموت ، لكنها تموت إذا قطعنا رأسها . وتساءل الملك : وهذا الرأس ، كيف نقطعه ؟ فردت الأميرة : هذا ما علينا أن نفكر فيه ملياً ، وسنصل إلى حلّ ، ونقطع الرأس .
" 6 " ــــــــــــــــــــ وخلال الأيام التالية ، التقت الأميرة حليمة ، مع أبيها الملك الحارث ، وكان حديثهما دائماً ، يدور حول الأفعى المنذر بن ماء السماء ، والطريق للوصول إليه ، والإجهاز عليه ، في عقر ملكه . وفي عصر أحد الأيام ، خرج الملك يتمشى في حدائق القصر ، وبعد حين شعر بالتعب ، وكيف لا وقد تجاوز الستين ، وهموم الأفعى ، وأنيابها السامة القاتلة ، لا تفارقه ، لا في الليل ، ولا في النهار . وتوقف عند إحدى النافورات ، ثم جلس على مصطبة هناك ، لعله يسترد أنفاسه ، ويرتاح بعض الشيء ، ومن ثم يقفل عائداً إلى داخل القصر . وانتبه الملك إلى وقع أقدام تقترب منه ، إنها ابنته الأميرة حليمة ، هذه خطواتها ، وبالفعل جاءه صوت الأميرة ، تقول : أبي ، ماذا يشغلكَ ؟ فرفع الملك عينيه المتعبتين إليها ، وقال بصوت واهن : ما يشغلكِ أنتِ أيضاً ، يا بنيتي . وجلست الأميرة إلى جانبه ، وقالت : رأس الأفعى .. وقال الملك : ابنتي حليمة .. فتابعت الأميرة قائلة : سيقطع ، يا أبي . ونظر الملك إليها صامتاً ، فقالت الأميرة : اختر العضلات ، وسترَ . وابتسم الملك ، وقال : أيتها العقل .. وقالت الأميرة : كلما كان العدد أقل كان أفضل . ونهض الملك ، وقال : حددي العدد ، وسأعهد إلى من هو جدير بمثل هذا الاختيار . ونهضت الأميرة بدورها ، وقالت : ثلاثة ، لا أكثر . ولاذ الملك بالصمت لحظة ، ثم قال : ليكن ، ثلاثة ، وسنختارهم ، وندربهم ، في أسرع وقت ممكن .
" 7 " ــــــــــــــــــ في أول الليل ، دخل رئيس الحرس ، قصر الملك الحارث ، واتجه مباشرة إلى قاعة العرش ، إنه على موعد مع الملك ، لابد أن الأمر غاية في الأهمية ، ترى ماذا يكون الأمر ؟ هذا ما فكر فيه ، منذ أن بلغه به حاجب الملك نفسه . وفتح الحاجب له باب قاعة العرش ، وهمس له : الملك ينتظرك ، يا سيدي . ودخل رئيس الحرس قاعة العرش ، وإذا الملك يقف وسط القاعة ، وما إن رآه حتى قال : تعال ، تعال واجلس هنا . وجلس الملك فوق كرسيّ العرش ، وجلس رئيس الحرس على مقعد قريب منه ، ونظر الملك إليه ، وقال : لديّ لك مهمة خاصة وسرية للغاية ، ويمكن أن تغير مصير دولتنا برمتها . وقال رئيس الحرس ، وقد بدا عليه الاهتمام الشديد : أنتَ تأمر ، يا مولاي ، وعليّ الطاعة . وحدق الملك فيه ، وقال : هناك عقبة كأداء أمامنا ، ولكي نبقى كمملكة ، ونتطور ، ونأخذ مدانا ، علينا أن نزيل هذه العقبة . وتطلع رئيس الحرس إلى الملك صامتاً ، متوجساً ، فقال الملك : المنذر بن ماء السماء . وتساءل رئيس الحرس : ما له ، المنذر ، يا مولاي ؟ فقال الملك : إنه هو العقبة الكأداء .. وصمت لحظة ، ثم قال : وعلينا أن نزيل هذه العقبة . ولاذ رئيس الحرس بالصمت ، وقد ضجت عيناه المذهولتان بشتى الأسئلة ، فقال الملك ، كأنما يجيب على أسئلته : نقتله . وتعكرت عينا رئيس الحرس ، وقد اختفت منها الأسئلة ، وحلّ محلها الذهول والدهشة ، فهو لم يستطع أن يستوعب بعد ، كيفية قتل المنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة ، الذي لم تستطع جيوش الغساسنة الجرارة الوصول إليه ، وقهره . وصمت الملك برهة ، ثم قال : إنها مغامرة جسورة ، خطرة للغاية ، ومن سيقوم بها ، يجب أن يتحلى بالقوة والجرأة والذكاء . وتساءل رئس الحرس : أنا جندي من جنودك ، لكن ما هو دوري في هذه العملية ، يا مولاي . فقال الملك : بسرية تامة ، اختر ثلاثة أشخاص ، وقم بتدريبهم تدريباً عنيفاً ، لكن لا تخبرهم بطبيعة مهمتهم ، واترك هذا الأمر لي ، وسأخبرهم أنا بطريقتي في الوقت المناسب . " 8 " ـــــــــــــــــــــ منذ أن غادر رئيس الحرس قاعة العرش ، بعد أن التقى بالملك الحارث ، وعرف طبيعة المهمة الموكلة إليه ، وهو يستعرض في مخيلته حرس القصر الملكي ، الذين سبق وأن اختارهم بنفسه ، من بين آلاف الفرسان المقاتلين الأشداء . المنذر بن ماء السماء ، ملك المناذرة ، الفارس ، المقاتل ، الجريء ، هو المهمة ، ويا لها من مهمة ، إن الوصول إليه وحده عمل يكاد يكون مستحيلاً ، فكيف والمطلوب هو رأس المنذر نفسه ؟ ترى من يصلح لهذه المهمة ؟ وتوقف رئيس الحرس ، بدون إرادة منه ، عند باب القصر من الداخل ، وهو مازال يتساءل في داخله ، هذه المهمة المستحيلة ، من يصلح لها ؟ من يمكنه أن يحاول انجازها ، ناهيكَ عن النجاح في تنفيذها ، والإجهاز على المنذر بن ماء السماء ؟ وأفاق رئيس الحرس ، على حارس مدجج بالسلاح يقترب منه ، ويتوقف متردداً على مقربة منه ، ويقول : سيدي . والتفت رئيس الحرس إليه ، وقال : ماذا ؟ فتراجع الحارس قليلاً ، وقال : عفواً سيدي ، رأيتك تتوقف هنا ، منذ فترة طويلة ، وخشيت أن تكون بحاجة إلى شيء ، و .. . وقاطعه رئيس الحرس بحزم : عد إلى مكانك ، هيا . وعلى الفور ، مضى الحارس مبتعداً ، فواصل رئيس الحرس سيره ، فاجتاز بوابة القصر ، مواصلاً تفكيره وتساؤلاته ، وتراءى له وجه مجدور ، ثابت النظرات ، فتوقف متمتماً : شمر . واصل رئيس الحرس سيره ، وعادت التساؤلات تلح عليه ، ولاح له هذه المرة ، وجه على عكس وجه شمر المجدور ، وجه فتيّ ، وسيم ، مشرق ، لا تغيب الابتسامة عنه ، وتوقف ثانية ، وصاح : قيس . وتلفت حوله ، خشية أن يكون قد سمعه أحد ، فيظن به الظنون ، وواصل سيره ، وهو يقول في نفسه : إنني بحاجة إلى فارس ثالث ، ذكي ، مخطط ، واسع الحيلة ، ترى من يكون هذا الفارس ؟ مهما يكن ، سأجده ، لابدّ أن أجده ، وسيضطلع بهذه المهمة مع شمر وقيس .
" 9 " ــــــــــــــــــــ في نفس الوقت الذي حُدد له ، وصل شمر إلى مقرّ قيادة الحرس الملكي ، وسار في ممرات المقر ، دون أن يعترضه أحد ، ودخل الغرفة المحددة للقاء ، وتوقف وسط الغرفة متسائلاً : سبع أم ضبع ؟ وغمز بعينيه ، اللتان كانتا تلمعان ، وسط وجهه الكالح المجدور ، وقال : سبع ، أسد ، ولابدّ أن تكون المهمة مهمة أسود ، وليس ضباعاً . وفتح الباب ، وأطلّ قيس بوجهه الصبوح ، المبتسم ، فنظر شمر إليه ، وقال : أهلاً بصائد الغزلان . ودخل قيس مبتسماً ، وقال : أهلاً بكَ شمر . واقترب شمر منه ، وقال : ما آخر غزال صدته ؟ فردّ قيس : لا يشبهك بالتأكيد . وهنا فتح الباب ، ودخل عامر ، وما إن وقع نظره على شمر وقيس ، حتى راح يحدق فيهما مهمهماً : هم م م م . وقال شمر : جاء الثعلب . وقال عامر : أنتما قمر . وبدا التفكير على قيس ، فقال شمر ، دعكَ منه ، هذا الثعلب اللعين ، فأنت الوجه المضيء من القمر ، وأنا الوجه الآخر . وهمّ عامر أن يتكلم ، حين أطل الحارس من الباب ، وقال : انتبهوا ، جاء رئيس الحرس . وعلى الفور ، دخل رئيس الحرس ، وجلس في مكانه ، وراح يحدق في شمر وقيس وعامر ، ثم قال : اخترتكم لمهمة خاصة ، صعبة ، تكاد تكون مستحيلة ، قد تدفعون فيها رؤوسكم نفسها .. وتبادل شمر وقيس وعامر نظرات متسائلة حائرة ، فأضاف رئيس الحرس قائلاً : هذه المهمة تقتضي أولاً السرية التامة ، ومن يفشي منكم سراً من أسرارها ، سيقطع رأسه فوراً .. وصمت رئيس الحرس ، ثم قال : من يرد الانسحاب منكم فلينسحب الآن ، ولا جناح عليه ، وبعدها لا انسحاب ، فإما النصر أو الموت .
" 10 " ــــــــــــــــــــــ أوكل رئيس الحراس ، الضابط الشاب فارس ، لتدريب الفرسان الثلاثة ، شمر وقيس وعامر ، وعمل الضابط فارس على تدريبهم ، كما وجهه رئيس الحرس ، دون أن يعرف هو نفسه ، المهمة الخطيرة ، التي يدربهم من أجلها . وما إن انتهى من تدريبهم ، الذي استغرق عدة أشهر ، حتى أخبرهم ، بأن رئيس الحرس ، يريد أن يراهم يوم غد ، في نفس المكان ، الذي التقى بهم سابقاً . وتوقع الفرسان الثلاثة ، أن رئيس الحرس ، سيوضح لهم غداً ، وبعد أن أنهوا تدريباتهم ، المهمة الخطيرة ، التي سيوكل لهم تنفيذها . لكنهم فوجئوا ، حين حضروا في اليوم التالي ، إلى مقر الحرس الملكي ، برئيس الحرس ، الذي كان ينتظرهم في غرفته ، يقول لهم : تهيأوا ، سيأتي الحرس إليكم اليوم ليلاً ، ويأخذكم إلى السجن ؟ وصاح الفرسان الثلاثة مذهولين : السجن ؟ وعبس رئيس الحرس ، وقال : لقد خنتم الوطن ، وعملتم سراً مع المناذرة . وصاحوا ثلاثتهم بنفس الذهول : نحن ! وقال عامر : سيدي ، هناك أمر لا نفهمه . وابتسم رئيس الحرس ، وقال : أنت محق . وتبادل الفرسان الثلاثة نظرات سريعة مندهشة ، فقال رئيس الحرس : ستهربون بعد أيام من السجن ، وتلجأؤن إلى ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء . وهمهم عامر : هم م م م . فقال رئيس الحرس : وعندها تعدون العدة لتنفيذ المهمة ، التي دربناكم من أجل انجازها .. وصمت رئيس الحرس لحظة ، ثم قال : تصلون إلى المنذر بن ماء السماء ، وتجهزون عليه . وصمت رئيس الحرس ثانية ، وراح يتأمل الفرسان الثلاثة الواحد بعد الآخر ، ثم قال لهم : قبل أن يأتيكم الحرس عند منتصف الليل ، ليأخذكم إلى السجن ، سيأتي إليكم الملك الحارث نفسه سراً ، ليتحدث إليكم .
" 11 " ــــــــــــــــــــــــ في ساعة متـأخرة من الليل ، اندفعت مجموعة من حرس الملك ، يتقدمهم الضابط المدرب ، إلى مأوى الفرسان الثلاثة ، فهبّ الفرسان الثلاثة من أماكنهم ، وقد أدركوا أن موعد لقائهم بالملك قد حان . وتوقف الضابط المدرب أمامهم ، وقال : قفوا بانتظام ، سيأتي الملك حالاً . ووقف الفرسان الثلاثة ، الواحد إلى جانب الآخر ، فقال الضابط المدرب : لا ينطق أحدكم بكلمة واحدة ، إلا إذا طلب الملك منكم ذلك . ووقفوا صامتين جامدين ، وأقبل الملك الحارث ، ومعه فتاة تضع خماراً على وجهها ، وتوقف الملك في مواجهتهم ، وتوقفت الفتاة إلى جانبه ، وراح الملك يتمعن في الفرسان الثلاثة ، ومن وراء نقابها ، راحت الفتاة أيضاً تتمعن فيهم الواحد بعد الآخر . والتفت الملك إلى الضابط المدرب ، وقال : أيها الضابط ، إنهم الآن يعرفون مهمتهم . فقال الضابط : نعم ، يا مولاي . ونظر الملك إلى الفرسان الثلاثة ، وقال : نحن ، في مملكتكم العظيمة ، مملكة الغساسنة ، نتطلع إليكم ، ونضع كلّ آمالنا فيكم ، فلا تخيبوا آمالنا . وكما أوصاهم الضابط المدرب ، لاذوا بالصمت ، ولم ينبس أحدهم بكلمة ، وإن بدا عليهم التأثر ، وأشار الملك الحارث إلى الفتاة ، وقال : ابنتي .. حليمة . وران صمت عميق ، ولم يند من الفرسان الثلاثة ، ولا من الضابط المدرب ، نأمة واحدة ، وتابع الملك قائلاً : جاءت معي لتودعكم ، وتتمنى لكم النجاح في مهمتكم ، التي ستقرر مصير مملكتنا . ورفعت الأميرة النقاب عن وجهها ، ووقفت تنظر إليهم مبتسمة مشرقة ، وقالت وهي تلوح بقنينة طيب : هذا طيب خاص لكم ، أنتم فرسان الحيرة ، وسأطيبكم به بنفسي ، فأنتم من ستأتون لنا بالنصر . ووقف الفرسان الثلاثة فرحين مزهوين ، فمال الملك عليهم ، وقال : لكم بشرى عظيمة عندي ، بعد أن تطيبكم ابنتي الأميرة حليمة بنفسها . وتقدمت الأميرة حليمة منهم ، وطيبتهم مبتسمة الواحد بعد الآخر ، وحين وصلت شمر ، توقفت تنظر إليه ، وقد اختفت ابتسامتها ، وسرعان ما استدارت ، وتوقفت صامتة إلى جانب أبيها الملك . ولاحظ الملك ما جرى من ابنته الأميرة ، لكنه تجاهل الأمر ، ومال على الفرسان الثلاثة باشاً ، وقال : لتعلموا جميعا ، أن من يقتل المنذر بن ملك السماء ، ملك المناذرة ، ستكون الأميرة زوجة له .
" 12 " ـــــــــــــــــــــــ قبل أن يصل الملك الحارث ، وابنته الأميرة حليمة ، إلى القصر الملكي ، انقض مجموعة من الحرس يتقدمهم الضابط المدرب ، على الفرسان الثلاثة ، واقتادوهم مخفورين إلى السجن . لم يفاجأ الفرسان الثلاثة بما جرى لهم ، فهم يعرفون أن هذا الأمر ، هو جزء من الخطة ، التي رسمها الملك الحارث لهم ، لعلها توصلهم إلى ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء ، والإجهاز عليه . وجاءهم الضابط المدرب ، تحيط به ثلة من الحراس ، وراح يُؤنبهم ، ويتوعدهم قائلاً : هذا البلد الذي أنبتكم ورعاكم ، تخونونه ، ومع من ؟ مع المنذر ملك أعدائنا ، الويل لكم ، لن يسامحكم الملك الحارث ، وسينزل بكم أشد العقاب ، عاجلاً وليس آجلاً . وفي هذه الحالة ، لم يكن أمامهم ـ وهذا ما خطط لهم ـ إلا الهرب ، واللجوء إلى ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء ، وهذا ما فعلوه ، وبغفلة من الحراس ـ وهذا أيضاً خطط لهم ـ تسللوا من السجن ، ولاذوا بالفرار . وحين علم الملك الحارث ، بهروب السجناء الثلاثة من السجن ، استشاط غضباً ، وأمر أن يُحقق في الأمر فوراً ، هذا ما رآه الحرس ، والخدم ، والجواري ، ورووه للآخرين خارج القصر . وبأمر من رئيس الحرس ، انطلق الضابط المدرب ، على رأس ثلة من الحرس المدججين بالسلاح ، وطوال ساعات الليل ، ظلوا يبحثون عن الفرسان الثلاثة ، الذين هربوا من السجن ، دون جدوى . وفي اليوم التالي ، كان جميع من في مدينة الحيرة ، قد علموا ، أن السجناء الثلاثة ، الذين هربوا من السجن ، كانوا من عملاء ملك الأعداء ، المنذر بن ماء السماء ، وأنهم ربما سيلوذون به .
" 13 " ـــــــــــــــــــــــ حتى قبل أن يقع الفرسان الثلاثة ، وهم في أسوأ حال ، بيد المناذرة ، بدأت أنباء متواترة ، تصل إلى إليهم ، إلى أن وصلت الملك نفسه ، بأن ثلاثة فرسان متهمون بالتعاون مع ملك المناذرة ، فروا من السجن ، وجُند ملك الغساسنة ، يجدون في أثرهم ، دون جدوى . وأمر ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء ، بعض فرسانه بالانتشار قريباً من حدود الغساسنة ، والبحث عن هؤلاء الفرسان الثلاثة ، والإتيان بهم مباشرة ، إذا وقعوا في أيديهم . وذات مساء ، والملك المنذر بن ماء السماء ، يجلس في قاعة العرش ، ومعه مستشاره العجوز ، دخل عليه الحاجب ، وقال : مولاي ، فارس جاء بخبر هام . فقال الملك : أدخله . وعلى الفور ، أدخل الفارس ، فانحنى للملك ، وقال : مولاي ، سجناء الملك الحارث ، وقعوا في أيدينا ، وهم الآن في السجن . ونظر الملك إلى مستشاره العجوز ، وقال : هؤلاء السجناء الثلاثة ، سيكونون عوناً لنا ، في حربنا المستمرة مع المناذرة . وعلى عادته المعروفة ، لاذ المستشار العجوز بالصمت ملياً ، ثم قال بصوته الشائخ : هذا ممكن ، يا مولاي ، لكن الأفضل أن نتروى . وتطلع الملك إليه متسائلاً ، فتابع المستشار العجوز بصوته الشائخ : ليبقوا في السجن معززين مكرمين ، يا مولاي ، ولنحقق معهم ، ونقف على حقيقتهم . فقال الملك : هؤلاء السجناء هربوا من سجن الحارث ، وأنت تعرف الحارث . فقال المستشار العجوز : أعرفه ، يا مولاي ، ولا بأس أن نعرف هؤلاء السجناء الثلاثة على حقيقتهم ، ثم نتعاون معهم بما يخدم حربنا مع الحارث . وصمت لحظة ، ثم قال : لن نخسر شيئاً ، يا مولاي ، إذا استضفناهم في السجن عدة أيام ، ثم نطلق سراحهم معززين مكرمين ، ونضعهم في المكان الذي يستحقونه ، بعد التأكد من حقيقتهم .
" 14 " ـــــــــــــــــــــــ أجريت تحقيقات مع الفرسان الثلاثة ، وهم في السجن ، وأعيدت التحقيقات أكثر من مرة ، بصورة مباشرة وغير مباشرة ، حتى اطمأن الجميع إليهم ، عدا المستشار العجوز ، الذي لم تزايله الشكوك تماماً . وأبلغ الملك المنذر بن ماء السماء بنتائج التحقيقات ، بحضور المستشار العجوز ، فابتسم الملك ، وتطلع إلى المستشار العجوز ، وقال : حتى العمر لم يؤثر في حذرك ، وشكوكك المعهودة . وقال المستشار العجوز : الشكوك ، يا مولاي ، يجب أن تزداد مع الزمن ، لا أن تقلّ ، إنّ عدونا الحارث غدّار ، وعلينا أن نحذره تماماً . وقال الملك المنذر بن ماء السماء : أنت محقّ ، لكن هؤلاء الفرسان الثلاثة ، خرجوا على ملكهم ، ولجأوا إلينا ، وعلينا أن لا نخذلهم . فقال المستشار العجوز : نعم ، ولكن علينا أن لا نغمض عيوننا ، مهما كان السبب . وأخرج الفرسان الثلاثة من السجن ، وأسكنوا مؤقتاً في بيت قريب من القصر ، يقع بين بيوت بعض العاملين في قصر الملك المنذر بن ماء السماء . والتقى الملك المنذر ، أكثر من مرة ، بالفرسان الثلاثة ، بحضور المستشار العجوز ، ووجود حراس مدججين بالسلاح خارج القصر . وخلال هذه المدة ، راح الفرسان الثلاثة ، وعلى رأسهم شمر ، يدرسون ما يحيط بهم ، من بيوت ، وشوارع ، وحدائق ، وعاملين في القصر . وعند استقبالهم من قبل الملك والمستشار العجوز ، في قصر الملك ،حاولوا أن يعرفوا غرف القصر ، وقاعاته ، وممراته ، ومخدع الملك نفسه . وذات مرة ، همس عامر لقيس ، وقد رأى عينيه تطاردان خلسة إحدى جواري القصر : يا صائد الغزلان ، اصطد هذه الغزالة . وعن طريق هذه الغزالة ، عرف الفرسان الثلاثة ، الكثير من عادات الملك المنذر بن ماء السماء داخل القصر ، ومنها أنه يلجأ وحده ليلاً إلى قاعة العرش ، ويبقى فيها ، حتى ساعة متأخرة من الليل .
" 15 " ــــــــــــــــــــــــ تلك الغزالة ، التي اصطادها قيس في القصر ، والتي عرف من خلالها الكثير ، كان اسمها سلوى ، ووقتها حذره شمر قائلاً : حذار من غزلان القصر . فقال قيس : لا تخف عليّ ، إنني حذر . وقال شمر : لا تنسَ ، يا قيس ، ليس هدفنا قلب امرأة ، وإنما رأس المنذر . وغمز قيس لعامر ، وقال : عامر يعرف ، أنك إذا أردت أن تصل إلى رأس رجل ، فتسلل إليه عن طريق قلب امرأة ، وهذا ما أفعله . وابتسم عامر ، وقال : شمر ، لا تخف على قيس ، إنه يتسلل في الطريق الصحيح . وذات يوم ، اختلى قيس بسلوى ، وقال لها مازحاً : غزالتي .. سلوى .. ونظرت سلوى إليه مبتسمة ، وقالت : شبيك لبيك .. سلوى بين يديك . وقال قيس : أريد أن أجلس على العرش . وفغرت سلوى فاها ، وقالت : ماذا ! وقال قيس : ما سمعته . فقالت سلوى : العرش نار . وقال قيس : ليكن مادمت معي . وقالت سلوى : عندئذ سنحترق معاً . وصمت قيس لحظة ، وعيناه متعلقتان بعينيها ، ثم قال : حسن ، بدل أن أحترق ، حدثيني كلّ يوم عن قاعة العرش ، أريد أن أدخلها في خيالي . وتساءلت سلوى : وحتى والملك فيها ليلاً . فتظاهر قيس بالخوف ، وقال : لا ، يا سلوى ، حذريني ، قولي لي ، الملك المنذر بن ماء السماء اليوم في قاعة العرش ، حتى لا أدخل فيها ، في خيالي . وصمت قيس برهة طويلة ، ثمّ تنهد ، وقال : سلوى .. ردت سلوى : نعم . وقال قيس : حدثيني عن هذه القاعة ، حتى لا أضل فيها ، وأنا أدخلها ليلاً في خيالي . ولاذت سلوى بالصمت لحظة ، ثم قالت : هذه القاعة ، هي قاعة العرش ، ولا يدخلها بغياب الملك أحداً ، لا ليلاً ولا نهاراً ، عداي طبعاً . وتساءل قيس مازحاً : وتجلسين على العرش ؟ فردت سلوى : لا ، أنظفه فقط . وقال قيس : ليتني أستطيع أن أرى الملك ، ولو في خيالي ، وهو يجلس على العرش . وتلفتت سلوى حولها ، ثم قالت : عندما يأتي الملك إلى قاعة العرش مرة في الليل ، سأخبرك . وتهلل وجه قيس ، وقال لها ، وهو يعانقها : ستكون ليلة العمر ، سلوى . وانسحبت سلوى من بين ذراعيه ، وقد احمرّت وجنتاها ، فقال قيس : لن أدخل قاعة العرش في خيالي ، إلا وأنتِ معي ، يا سلوى .
" 16 " ــــــــــــــــــــــــ عادت سلوى ليلاً إلى بيتها ، القريب من بيت الفرسان الثلاثة ، وقبل أن تصل إلى بيتها ، توقف برهة ، ثم استدارت واتجهت إلى بيت الفرسان الثلاثة . ودارت حول البيت ، وطرقت الشباك ثلاث طرقات ، ولأن قيس يعرف طرقاتها ، هبّ من مكانه ، وفتح الشباك ، إنها سلوى فعلاً ، فمال عليها ، وقال بوله : غزالتي ، غزالتي الحبيبة . وابتسمت سلوى ، وقد غمرها الفرح ، وقالت : أردتك أن تحلم الليلة .. فقاطعها قيس قائلاً : إنني أحلم بكِ دائما ً . فقالت سلوى ضاحكة : ليس بي دائماً ، وإنما .. وتساءل قيس مفكراً : وإنما .. ؟ وكفت سلوى عن الضحك ، وقالت : العرش . وفغر قيس فاه ، فمالت سلوى عليه ، وقالت : أرجو أن تكتفي اليوم بغزالتك .. سلوى . واتسعت عينا قيس ، وقال : أتعنين .. ؟ فقالت سلوى ، وهي تبتعد مسرعة : نعم ، الملك في قاعة العرش الآن . وأغلق قيس الشباك ، وأسرع إلى غرفة شمر ، ودفع الباب دون أن يطرق الباب ، وإذا شمر متمدد في فراشه ، وقد أغمض عينيه المتعبتين ، فصاح قيس بصوت خافت : شمر . وفتح شمر عينيه الناعستين ، وقال : خيراً ؟ فقال قيس ، والكلمات تتدفق من بين شفتيه منفعلة : مرت غزالتي سلوى بي الآن ، وأخبرتني أنّ الغراب في القفص . وهبّ شمر من مكانه ، وقد طار النعاس من عينيه ، وهو يقول : حانت ساعة العمر ، أسرع إلى الثعلب عامر ، وقل له أن يتهيأ . وعلى جناح السرعة ، تهيأ الفرسان الثلاثة ، وتسللوا كأشباح الليل تحت جنح الظلام ، إلى قصر ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء .
" 17 " ـــــــــــــــــــــــ تسلل الفرسان الثلاثة ، كما لو كانوا أشباح الليل ، إلى حدائق القصر الملكي ، ويبدو أن القمر كان متحالفاً معهم ، فقد توارى وراء الغيوم الثقيلة السوداء ، التي راحت العواصف تتقاذفها في أعالي السماء . ودون أن يلمحهم أحد من حراس القصر ، ووسط جنون الطبيعة ، من رياح عاصفة وبروق وتفجر رعود مجنونة كتفجر حمم البراكين ، توغلوا في أعماق الحدائق الممتدة على مساحة واسعة من الأرض ، حتى بلغوا أشجاراً كثيفة ، تقع وراء القصر . وتوقف أشباح الليل ، الفرسان الثلاثة ، وسط الظلام التام ، وتشاوروا فيما بينهم ، وسرعان ما توارى قيس وعامر بين الأشجار الكثيفة ، وانسل شمر بخفة قط أسود ، وخنجره القاتل في وسطه ، وعالج شباكاً صغيرا حتى فتحه ، ومضى عبره إلى داخل القصر . وأسرع كالشبح في ممرات القصر ، لا يُرى وكأنه يضع طاقية الإخفاء على رأسه ، حتى وصل قاعة العرش ، وتوقف أمام أحد الشبابيك ، ثم عالجه بخفة ودراية ، دون أن يصدر عنه أي صوت ملفت ، حتى فتحه . وعبر هذا الشباك ، انسلّ شمر إلى داخل قاعة العرش ، وعلى ضوء قناديل القاعة ، رأى بغيته ، المنذر بن ماء السماء ، وتراءت له ، عبر الظلام ، الأميرة حليمة ، تمدّ يديها الملكيتين له ، فاستلّ خنجره ، وتقدم بخطوات سريعة ، وثابتة : نحو الملكِ . وأحسّ الملك المنذر بن ماء السماء به ، فالتفت إليه بسرعة ، وهمّ بمواجهته ، لكن شمر وثب عليه كالوحش الكاسر ، وأطبق على فمه بكفه الصلبة كالصخر ، وعاجله بطعنة من خنجره في صدره . وترنح الملك ، وتهاوى متوجعاً ، وتمتم بصوت تخنقه الدماء : شمر ! أيها اللعين .. الغادر . وبنفس قوة الطعنة الأولى ، طعنه شمر ثانية ، وهو يقول : هذه ليست يدي فقط ، وإنما أيضاً يد الحارث . وتهاوى المنذر بن ماء السماء على الأرض ، مضرجاً بدمائه ، وتمتم بصوت يحتضر : الويل لك .. يا شمر .. لن تفلت .. حتى لو ذهبت .. إلى آخر الدنيا .
" 18 " ـــــــــــــــــــــــ في وقت مبكر من صباح اليوم التالي ، دخلت سلوى كالعادة إلى قاعة العرش ، لتتأكد من نظافتها ، وحسن ترتيب آثاثها ، وفوجئت بالملك المنذر بن ماء السماء ، ملقى على الأرض ، مضرجاً بدمائه . وعلى الفور ، أسرعت إلى رئيس الحرس ، وأخبرته بالأمر ، فأسرع ، هو وثلة من حرس القصر ، ودخلوا قاعة العرش ، وكما أبلغته سلوى ، رأى رئيس الحرس الملك على الأرض ، جثة هامدة . وسرعان ما انتشر خبر مصرع المنذر بن ماء السماء في القصر ، وفي دائرة المقربين منه في خارج القصر أيضاً ، ومنهم المستشار العجوز ، والتفوا حول الجثة المدماة ، وراحوا يتشاورون في الأمر . وتساءل أحد الأمراء : ترى من القاتل ؟ وتطلع المستشار العجوز إليه ، وقال : ما أخشاه أن يكون هؤلاء الفرسان الثلاثة ، الذين لجأوا إلينا ، هم من اقترف هذه الجريمة . فقال رئيس الحراس : فلنتأكد من الأمر . وقال المستشار العجوز : اذهبوا إلى بيتهم الآن . وعلى الفور ، أسرع رئيس الحرس ، على رأس ثلة من الحرس المدججين بالسلاح ، إلى بيت الفرسان الثلاثة ، وسرعان ما عاد إلى قاعة العرش ، وقال للمستشار العجوز : تخمينك كان في محله ، لقد هرب الفرسان الثلاثة من البيت . وهزّ المستشار العجوز رأسه ، وقال : هذا ما حذرت منه ، العدو عدو ، ولن يكون صديقاً . ونظر إلى رئيس الحرس ، وقال : الجريمة وقعت ، وخسرنا ما لن يتم تعويضه ، والمهم الآن أن لا يفلت الجناة من أيدينا . ورفع رأسه ، وأضاف قائلاً : بل لن يفلت من كان وراءهم ، وسننزل بهم العقاب ، الذي يستحقونه .
" 19 " ــــــــــــــــــــــــ على الطرف الآخر ، أقام الملك الحارث ، ملك الغساسنة ، وليمة كبيرة على شرف الفرسان الثلاثة ، الذين حققوا ما عجزت الجيوش الجرارة عن تحقيقه ، وأجهزوا على رأس أعدائهم ، ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء . وفي صدر الوليمة الباذخة ، جلس الحارث فرحاً مزهواً ، وجلس على مقربة منه الفرسان الثلاثة ، فرحين بما حققوه ، يختالون بالملابس الفاخرة الجميلة ، التي خلعها عليهم الملك الحارث . وقبل البدء بالوليمة ، وقف الملك الحارث ، وحوله وقف الفرسان الثلاثة ، شمر وقيس وعامر ، وتطلع إلى الحاضرين ، وقد غمره الفرح ، وقال : انظروا ، هؤلاء الفرسان الثلاثة ، هم نحن الغساسنة ، وباسمنا جميعاً ، وبأذرعنا القوية ، أجهزوا على ملك الأعداء ملك المناذرة ، المنذر بن ماء السماء . وصمت لحظة ، ثم قال : لقد أنزل هؤلاء الثلاثة ، ضربة قاصمة بالمناذرة ، حتى لن يقووا ، لا الآن ولا في المستقبل ، على مواجهتنا ، صحيح أنهم بعد مقتل المنذر ، جيشوا جيشاً ، وجهوه للانتقام لملكهم ، لكننا بدورنا أعددنا قوة ، ستتصدى لهم قريباً ، وتسحقهم . ثم التفت إلى الفرسان الثلاثة ، وقال : أنتم أديتم واجبكم ، وقد حان لأن يتم رفاقكم ما بدأتموه . والتفت الملك إلى الضيوف ، وأشار إلى موائد الوليمة ، المثقلة بالطعام والشراب ، وقال : تفضلوا ، واشكروا الأبطال الثلاثة ، فهذه الوليمة تقام على شرفهم ، لما حققوه من انجاز عظيم . وانهمك الجميع في الطعام والشراب ، حتى ساعة متأخرة من الليل ، وعندئذ نهض الملك ، متهيئاً للانصراف ، ومعه نهض الجميع ، والتفت الملك إلى شمر ، وقال : تعال يا شمر . وعلى الفور ، اقترب شمر منه ، وقال : مولاي . فمال عليه الملك ، وقال بصوت هامس : الأميرة حليمة ، تنتظرك صباح الغد ، ستراك أنت وحدكَ . وانحنى شمر ، وقد غمره الفرح ، وقال : أشكرك ، يا مولاي ، أشكرك .
" 20 " ــــــــــــــــــــــــ قبيل منتصف النهار ، كانت أم شمر تسير متوكئة على عكازها ، مقتربة من قصر الملك ، قصر الحارث ، ملك الغساسنة . ورآها الحراس مقبلة ببطء ، فأسرع أحدهم إلى الداخل ، وأخبر الوصيفة ، التي جاءت أمس إلى البيت ، وطلبت منها أن تأتي للقاء الأميرة في القصر . وأقبلت الوصيفة مسرعة ، واستقبلت أم شمر عند مدخل القصر ، وقالت باشة : أهلاً ومرحباً أم شمر ، تفضلي ، إلى الداخل ، تفضلي . وتوقفت أم شمر لاهثة ، وقالت : أهلاً بكِ . وخطت الوصيفة تتقدمها ، إلى مدخل القصر ، وهي تقول : تفضلي ، الأميرة في غرفتها ، تنتظركِ . ودخلت الوصيفة بأم شمر ، إلى داخل القصر ، وسارت بها ببطء حتى وصلت غرفة ، ذات باب كبير مرتفع ، يقف على جانبيه حارسان مدججان بالسلاح ، وتوقفت الوصيفة ، وقالت : هذه هي غرفة الأميرة ، إنها تنتظركِ في الداخل ، تفضلي ادخلي . ودفع أحد الحارسين الباب برفق ، ودخلت الوصيفة ، وفي أثرها دخلت أم شمر ، ونهضت الأميرة باشة ، فقالت الوصيفة : مولاتي ، أم شمر . فقالت الأميرة : اخرجي أنتِ ، وأغلقي الباب . وترجعت الوصيفة ، ثم خرجت وقالت وهي تغلق الباب : أمر مولاتي . والتفتت الأميرة إلى أم شمر ، وقالت : أهلاً أم شمر ، أهلاً بأم بطلنا الخالد .. شمر . ولاذت أم شمر بالصمت ، فقالت الأميرة ، وهي تشير إلى مقعد قريب : تفضلي اجلسي ، يا أم شمر . وردت أم شمر بصوتها الواهن الشائخ : أشكركِ ، إنني أفضل البقاء واقفة . وقالت الأميرة ، وهي تجلس في مكانها : أردتكِ أن ترتاحي ، لكن .. كما تشائين . وحدقت فيها لحظة ، ثم قالت : أرسلتُ إليكِ ، لتتفضلي إلى القصر ، فأقول لكِ ، إن الملك ، إكراماً لشمر ، وتضحياته العظيمة ، خصص لكِ بيتاً مناسباً ، يليق بكِ وبابنك البطل شمر .. وصمتت لحظة ، ثم قالت : كما خصص لكِ راتباً شهرياً مجزياً ، فأنت أم البطل . ولاذت أم شمر بالصمت برهة ، ثم قالت بصوتها الواهن الشائخ : شكراً للملك الحارث ، على التفاتته الكريمة ، لكني أفضل البقاء في بيتي الصغير ، القديم ، الذي ولد فيه ابني شمر ، وعاش فيه عمره .. القصير . ونهضت الأميرة ، واقتربت من أم شمر ، وقالت : ابنك شمر ، هو واحد من أبناء هذا الشعب ، ابن الوطن الغالي ، افتدى بحياته شعبه ووطنه ومليكه ، وقتل من أجل هذا كله ، على أيدي أعدائنا المناذرة ، وملكهم الهالك المنذر بن ماء السماء . ورفعت أم شمر عينيها ، اللتين دبت فيهما شعلة غريبة متوهجة ، وقالت : مولاتي ، لا تغضبي مني ، إنني أم ، شمر ابني .. وحدقت الأميرة فيها صامتة ، فقالت أم شمر : صحيح أن ابني شمر .. مات بسيوف المناذرة .. لكن .. في الحقيقة .. أنتِ قتلته . وشهقت الأميرة مستنكرة : أنا ! فتابعت أم شمر قائلة : أنتِ دفعته إلى الموتِ ..وصمتت أم شمر لحظة ، ثم قالت : عندما عاد من لقائه معكِ ، كان محبطاً ، ممروراً ، يائساً ، فقرر أن لا يبقى ، ويعود إلى ساحة القتال . وبصوت متردد ، غير واثق ، قالت الأميرة : عاد ليقاتل حتى النصر النهائي . فقالت أم شمر : بل عاد ليموت ، وقد مات فعلاً . وتهاوت الأميرة جالسة في مكانها ، دون أن تنبس بكلمة واحدة ، وقد اربدّ وجهها ، فاستدارت أم شمر ، واتجهت إلى الخارج بخطواتها البطيئة ، متوكئة على عكازها وشيخوختها الواهنة .
20 / 3 / 2018
إشارات ــــــــــــــــــــــــــ
المناذرة : سلالة عربية ، حكموا العراق قبل الإسلام ، وكانوا حلفاء الرومان أول الأمر ، ثم تحالفوا مع الفرس . الغساسنة : سلالة عربية ، أسست مملكة في الشام ، ضمن حدود الإمبراطورية البيزنطية ، قبل الإسلام ، هاجروا في أوائل القرن الثالث من اليمن ، بعد انهيار سد مأرب .
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان طفل من خرق
-
رواية للفتيان البجعة
-
رواية للفتيان جبل الوعول
-
جزيرة كالوبيوك
-
رواية للفتيان هوفاك
-
رواية للفتيان الزرقاء رائية ديدان
-
رواية للفتيان الجاغوار سيلو
-
رواية للفتيان عينا نيال طلال حسن
-
رواية للفتيان البحث عن تيكي تيكيس الناس الصغار
-
رواية للفتيان سراب
-
رواية للفتيان جزيرة الحور
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة شبعاد
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة
...
-
رواية للفتيان عين التنين
-
رواية للفتيان مملكة أعالي الجبال المتجلدة
-
مسرحية من ثلاثة فصول الطريق إلى دلمون
-
مسرحية من فصل واحد الثلوج
-
مسرحية من فصل واحد السعفة
-
مسرحية من فصل واحد
...
-
مسرحية من فصل واحد البروفة
المزيد.....
-
أم كلثوم.. هل كانت من أقوى الأصوات في تاريخ الغناء؟
-
بعد نصف قرن على رحيلها.. سحر أم كلثوم لايزال حيا!
-
-دوغ مان- يهيمن على شباك التذاكر وفيلم ميل غيبسون يتراجع
-
وسط مزاعم بالعنصرية وانتقادها للثقافة الإسلامية.. كارلا صوفي
...
-
الملك تشارلز يخرج عن التقاليد بفيلم وثائقي جديد ينقل رسالته
...
-
شائعات عن طرد كاني ويست وبيانكا سينسوري من حفل غرامي!
-
آداب المجالس.. كيف استقبل الخلفاء العباسيون ضيوفهم؟
-
هل أجبرها على التعري كما ولدتها أمها أمام الكاميرات؟.. أوامر
...
-
شباب كوبا يحتشدون في هافانا للاحتفال بثقافة الغرب المتوحش
-
لندن تحتفي برأس السنة القمرية بعروض راقصة وموسيقية حاشدة
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|