|
التشريح السِّيرْذاتي قراءة في رواية -نارة- لـدينا سليم حنحن
دينا سليم حنحن
الحوار المتمدن-العدد: 7454 - 2022 / 12 / 6 - 16:02
المحور:
الادب والفن
التشريح السِّيرْذاتي قراءة في رواية "نارة" لـدينا سليم حنحن صالح لبريني - المغرب
توطئة : تميزت الرواية العربية بمنعطفات متنوعة، وانفجارات على المستوى السردي، كان لها الدور الفعّال في رسم معالم سردية عربية أساسها التعبير عن اللحظة التاريخية، والثقافية، والحضارية التي تمر منها المجتمعات العربية، في تجاسر مع ما يعرفه الإبداع السردي الإنساني، ولعل انفتاح الروائيين العرب على المنتوج السردي الغربي المتحول والمتبدل، أسهم في صوغ نص روائي يخلق كينونة نصية تستجيب لهذه الانهيارات على مستوى البنى الثقافية، والمجتمعية، والسردية. فجاء النص الروائي العربي مطعَّما بهذه السمات التجديدية، ومحمَّلا ببنية سردية لا ترتكن إلى الوعي الثابت في النص الروائي، بقدر ما تجاوزت هذا الوعي منتصرة لوعي الإبداع. ومن هذا المنطلق سوف نحاول مقاربة نص روائي لمَسْنا فيه، فيما نعتقد، ملامح الرغبة الجموح في ارتياد بنية سردية متجددة، وخالقة لكينونتها السردية، بتقنيات وآليات حكائية مختلفة لما هو كائن في المتن الروائي، يتعلق الأمر برواية " نارة " للروائية الفلسطينية دينا سليم حنحن التي تُعَدُّ صوتًا روائيًا متفردًا لكونها نذرت جل كتاباتها، وهذا ما لاحظناه ، من خلال متابعاتنا للنتاج الروائي والقصصي ، للمجتمع الفلسطيني، وقد تجلى ذلك في النص الروائي "الحافيات" و"" قلوب لمدن قلقة" و "بائع السمسم" وكذا بعض القصص الكثيرة "أسير" ثم "دبابيس" وغيرها والتي دافعت فيها عن الحق الفلسطيني في إعادة أراضيه السليبة والمغتصبة، وتحقيق دولة مستقلة، لكن في العمل السردي، نجدها تملصت من هموم قضيتها/ قضيتنا ولو مجازًا، بل هو صلبه، لا يحيد عن هم الانشغال بالقضية، لتبدع رواية تصنف ضمن الكتابة النسائية بلسان أنثى مغتربة تبحث عن هويتها كامرأة، عانت من ثقافة ذكورية جعلتها تتوارى إلى الخلف. 1)التشريح السيرذاتي: لا نقصد من وراء هذا اعتبار هذه الرواية عملا يندرج ضمن فن السيرة الذاتية، بقدر ما سعينا من ورائه الحديث عن تجربة كل شخصية من النص الروائي، "نارة " التي كانت منطلقا رئيسا للساردة استثماره سرديا لبناء الخطاب الروائي المزمع تجذيره، بتعبير آخر إن شخصيات الرواية تمحور وجودها السردي حول سيرها الذاتية. هذه الرواية، من حيث الأحداث، التي تتواتر بطريقة سردية، فيها نوع من لذاذة السرد المفضي إلى معانقة شخصيات سردية من دم ولحم ، كل شخصية تحاول قدر الإمكان أن تروّض ذاتها عبر سيرتها، للإفصاح عما يكتنف وجودها السردي، داخل رواية تعج بمستويات مختلفة للحديث عن مصائرهن، للتعبير عن ذواتهن بعيدا عن أية رقابة دينية أو مجتمعية، بل إن كل واحدة تحمل في جوانحها حكاية تتسم بالتمرد والعصيان، والوقوف في وجه من يسعى إلى كبح سلطة الجسد، من أجل التعبير سرديا عن واقع الذات المسيج بجملة من المعيقات التي تحد من إرادة هذا الجسد. وقد استطاعت الساردة "نارة" أن تتعقب سيرة شخصياتها عبر عملية تشريحية معتمدة على البوح الحكائي، والحوار، والسرد والمونولوغ، والتداعي، لتمنح للقارئ عالما سرديا سِمَتُهُ المفارقات والمتناقضات، ولعل هذا ما أفضى بالساردة إلى تقصي الأحداث حول كل شخصية . يفتتح السرد بفعل عائد للذات الساردة "نارة"، التي تمثل الشخصية المحورية في الرواية، وهي التي تشكل المحرّك الرئيس للأحداث وتطورها، ونمو شخصياتها، خصوصا أنها تعلن، منذ بداية السرد، عن النية الكامنة في دواخلها عن خوض مغامرة سردية جديدة مع أبطالها تقول: " ما أوسع باب النهار اليوم، يظهر ملهاة العيوب، وسعهُ يأخذني للإبحار في مغامرة جديدة لعل أبطالي لا يعتبرون حضوري ضغينة " ص7 ، فحسب المشهد الافتتاحي، فالساردة تحاول القبض على خيط الحكاية بالمزاوجة بين ما هو واقعي وتخييلي، لتمنح للنص طراوته السردية، عبر الاشتغال على الكتابة كهاجس خامرها ويخامرها منذ البداية، بل يمثل مشروعًا وجوديًا لها، لكن هذه الكتابة الروائية، في ظني، ذات نزوح تخييلي، الشيء الذي يفضي بنا إلى التساؤل حول ما العلاقة التي تربط المؤلفة "دينا سليم" بالساردة في "نارة" ؟ لنجد الجواب في كون الرواية تفتح " المجال أمام التخييل ليبني العالم الحكائي للنص، ويتضح ذلك من كون أن الكتاب/ الرواية لم يشر في الغلاف إلى ما يدل على أن الحكاية مرتبطة بالمؤلفة ( سيرة ذاتية) ، كما أنه في داخل الحكاية السردية لم ترد أية علامة تحيل على واقعية ما يحكى " ، وبالرغم من أن الرواية تبدو في بدايتها أنها ذات نفس سردي كلاسيكي الملمح، إلا أن الأمر سيكون بمثابة خدعة حكائية اعتمدتها الساردة للإيقاع بالقارئ في شرك الرواية وغوايتها، إذ تتمحور الرواية حول عقدة العلاقة التي تربط آدم وشروق وهيام وندى وميس ونارة، لكن في العمق، تدور أحداثها حول تيمة مركزية تتمثل في قضية المرأة، مبرزة مكانة الرجل في حياة كل من المرأة الشرقية والمرأة الغربية، وهذا ما كشفت عنه صديقة الساردة جنيفر التي تمثل هنا إلى جانب شخصيات أخرى( مارلين، كوليت، ميري...) نموذج المرأة الغربية من خلال قولها " من لا تبحث عن رجل تعشقه ويعشقها تكون شاذة أو معقدة " ص24، وقد تبنته الساردة. ثم بعد ذلك تدخل هذه الأخيرة في حوار مع الطبيب حسين، ذي الأصول الإيرانية، كمهاد سردي للولوج إلى عوالم شخصيات كلهن نساء، أي عوالم بطعم أنثوي باذخ بأحداث مهولة، قاسية، وصادمة، عوالم تقول حقيقة المعاناة التي تأسر إرادة المرأة العربية بفعل مواضعات اجتماعية، وثقافية، وتاريخية، وحضارية، كان لها الأثر في جعل المجتمع العربي مشلولا لكون نصفه الآخر في قبضة أعراف بالية ومتهالكة " تختزل المرأة في صفة الدونية كوضع سلبي" . من هذا المنطلق، فكل شخصية من شخصيات رواية "نارة" تسرد حياة الجسد، إذ الجسد هو النواة الجوهرية التي تدور حولها أحداث النص الروائي، بمعنى أن كل شخصية تعبّر عن وجودها عبر الجسد كحمولة للإغراء، والغواية، والفتنة، وكذلك كإطار مرجعي لمنظومة من الأحكام الاجتماعية الملتصقة بالمرأة. وبالتالي استطاعت هاته الشخصيات أن توظف هذا الكيان الأنثوي للتمرد والمروق عما هو سائد في البنية المجتمعية، خالقة بذلك ثورة ضد هذه السياجات الاجتماعية، والتقاليدية التي تحد من التعبير عن كينونة مضطهدة ومستغلَّة بفعل عوامل التخلف والجهل . ولتكسير هذه النمطية السائدة في العقلية العربية ستلجأ الساردة" نارة" إلى نسج، عبر التخييل السردي، سِيَرَ كل من (شروق، ميس، وفاء، هيام، ندى....) فكل شخصية من هذه الشخصيات تفتح كتابها السيري لتقرأه بصوت عال وصارخ في وجه واقع متردي، موبوء بأمراض وعلل، مرتبطة أشد الارتباط ببنية مجتمع منخور ومريض، لتقول نزيفها الداخلي وجرحها الأبدي، بل لكل شخصية علبة السرد السوداء التي تخفي فيها أسرارها الدفينة، وأحلامها الموؤودة، تقول الساردة " ماذا تكون هذه الصناديق يا ترى، ألكل واحد منا صندوقه الخاص يعلقه على ظهره ويسير به" ص10 ، فشروق تكشف علبة السرد لديها كونها امرأة شبقة للجنس، تخلى عنها من لدن زوجها القديم (طالب) الذي ينعم بحياة هادئة مع زوجة أخرى ونسيها، و(عبد) عشيقها الذي رفضته ويستعد للزواج، تقول الساردة " غريزة الجنس داخلها حية . وربما كانت تبحث عن حب حقيقي آخر بعد انهيار علاقتها بزوجها السابق طالب وعشيقها عبد" ص43، وكانت مرتبطة مع الدكتور رأفت، الذي ملك قلبها ثم تخلصت منه، وغيره من الرجال، فكان جسدها ملكا للآخرين، وأصبحت أستاذة بالعشق، إذ عرّت حقيقة الرجال الذين يعانون من إعاقات جسدية، أو نفسية من خلال لغة التهكم على بعضهم الذين لا يملكون القدرة الجنسية، بل إن عالمهم عالم ممسوخ. تقول شروق: " نصف رجال الكون ضعفاء صدقيني" ص.47 فالمقول السردي يبرز، في جوهره، الرؤية الجسور التي غدت تسم المرأة تجاه الرجل الذي ينتمي إلى بنية ذكورية كانت تواري عيوبه، ومن ثم فشروق التي لم تعد تملك جسدها، حسب الرواية ، امتلكت الجرأة لتعرية هذا المخبوء بلغة سردية نستشف فيها نوعا من التشفي، رغم أننا نشعر بكونها شخصية مجروحة مهمومة و"لسانها مخزن بوح"ص46، وهو اعتراف قاس وقاصم لظهر مجتمع يدّعي ما ليس فيه، وخسرت كل شيء تقول: "لم أدرك أني خسرت أجمل رجلين في حياتي إلا متأخرًا، لقد خسرتهما" ص 49، لذلك تختار في النهاية العودة إلى الشرق بحثا عن الكينونة المفتقدة، تقول: "عدت لكي أبحث عن ذاتي، ولكي أجمع أشلائي في أكيال ماء ملوثة في بلاد بلا ماء فيها حتى لو كثرت فيها الأنهار، أشتاق إلى الشرق " ص 50، فشخصية شروق اختارت الطريق الذي بمُكْنِه التعبير عن ذاتها التي تلطخت بـ "ماء الحرمان" الذي صبَّه الرجال فيها - كما تقول الساردة - وبالتالي فهي شبيهة بما قاله كوسدورف " فإنني أختار الطريق الأبعد، ولكنه طريق الذي يمثل مسار حياتي ويقودني، بكل يقين إلى ذاتي" . و أما اختيار شخصية ميس يتمثل في الانتقام كوسيلة لتحقيق حلمها، وهو الهروب من الوطن للبحث عن وطن آخر، فهي تمكنت من تكسير التصور المجتمعي المتمثل في سلطة الأب، والعشيرة من خلال العيش مع طليقها حتى يستطيع الزواج من امرأة أجنبية لإنجاز أوراق الإقامة، وفي هذا السلوك سُبّة لسلطة المجتمع، الشيء الذي حكم عليها العيش في عزلة ووحدة تقول: "أشعر أني وحيدة تماما لا كنف رجل يحميني ولا سقف يقيني من برد الشتاء، وإن حدثت أي غارة وسقط صاروخ على سقف بيتي سينتهي كل شيء. لم تعد بلادي آمنة وأنا وحيدة" ص61 .الشيء الذي يقودنا إلى القول إن ميس مثال المرأة المتحدية لكل المتاريس الاجتماعية داخل المجتمع العربي، الذي ينظر إليها نظرة دونية مترتبة عن ترسبات لبنية متخلفة، ولكن المبطن هو كونها تعبّر عن الرغبة الأكيدة في إثبات الذات المطوقة بأغلال الأعراف والتقاليد، لذلك صنعت قدرها بيدها تقول ميس:" كل إنسان يصنع قدره بيده" ص62، ليبقى قدر شخصيات وفاء وندى وهيام شبيه بقدر ميس، لكن في الفعل السردي يكمن الاختلاف، هذه الشخصيات عبر الحكي الاعترافي الذي مارسنه يقدمن صورة حية لإرادة المرأة الشرقية في تجاوز الصورة المبتذلة حولها، والتأكيد على كينونة منبعثة من وعي خارق للوعي القائم. الوضعية ذاتها تتكبَّدها الساردة نارة، فكان هاجسها تشريح سيرة كل شخصية من شخصياتها، الذي هو ما إلا تشريح لذاتها عَبْرَ صَبِّهَا في ذوات الشخصيات، لتتوارى خلفهن، فهي الأخرى تمُرُّ من ظروف نفسية واجتماعية ملمحها المكابدة، والإحساس باللاجدوى، والضياع والانكسار تقول نارة: "لكني أشعر بالضياع، الحياة ضياع، ضياع في ضياع(... ) سوف أسير في دربي منكسرة وسأعود إلى بحري الهادئ الذي يحيط بي" ص 68 ، وهي ساردة " تجتمع حولها الأحداث، كما تشكل موضوع حوارات، إنها ملتقى البؤر السردية وملتقى الأحداث والعلاقات والأخبار... كما تقوم بوظائف التقديم والتأخير سواء للأحداث أو الشخصيات " . إن نارة تجسيد حقيقي للمعاناة الدفينة التي تخفيها المرأة العربية، وتحاول قدر الإمكان البحث عن السبل الكفيلة للتخفيف منها، فكانت الإيمان بجدوى الكتابة كوسيلة لتنتصر على الغالب وتكتب تاريخ وجودها، عكس ما قاله غرامشي الذي يرى أن التاريخ يكتبه المنتصر. هذا التاريخ الذي" هو امتداد لمؤامرة الذكورة على الأنوثة، وهو جزء من تاريخ البشرية المأهول بالعنف والقتل وخسران البشر، فمنذ فجر التاريخ انسحبت الأنوثة من التاريخ، وخلّفت العالم وراءها مرتعًا للسطوة والغلبة والعنف" لكن رواية "نارة" تعيد للمرأة وجودها المغتصب بفعل عوامل كثيرة ممتدة في تاريخ البشرية منذ القدم. 2) استراتيجية الكتابة السردية في الرواية: إن الروائية دينا سليم حنحن تؤسس لمشروع خطاب روائي سِمَتُهُ فتح منافذ جديدة في جدار الكتابة السردية، وذو طابع جمالي حقق للرواية بُعْدها الإبداعي، حيث وظفت المؤلفة زمرة من الأدوات التعبيرية لتجسيد رؤيتها للعالم، عالم المرأة العربية، التي تتجسد في الحوار الذي أراه – فيما أعتقد – هو المهيمن والسائدة، لأن الساردة بوساطته استطاعت استغوار أعماق كوامن شخصياتها، ومواقف كل واحدة، فغاية السادرة كان منحصرًا حول ما مدى قدرة المرأة الإفصاح عما تحلم به، وسنكتفي بنموذج حواري يبرز الاختلاف في المواقف: "- لماذا لا تجربين الحب، الحب ممارسة سخية تخلصنا من وعينا قليلا . قالت - بل الحب هو مكمن الوعي الكامل . أجبتها. - الحب رداء الشوق العاري. قالت. - بل الحب رداء الجنون الحقيقي؟ أجبتها. - تعالي نُجَنُّ إذن؟ - تريدين نُجَنُّ معا، ألا يكفي ما نراه كل يوم في هذا الزمان ؟ ألا يكفيك تشرذمًا وتفككًا؟ هل نضيف المزيد من النكسات إلى نكساتنا؟ " ص53. هذا الحوار الذي دار بين الساردة " نارة " و"شروق" يُعَرِّي التمزُّق الذي تحياه كل واحدة، " فشروق " غايتها – رغم الانتكاسات – أن تعبِّر عن الرغبة الجموح في ممارسة الحب، في الوقت الذي نجد "نارة" مثقلة بالمرجع الخارجي والمتجلي في واقع عربي منذور للخيبات، وهذه سمة طاغية على خطاب الرواية. إضافة إلى الحوار الداخلي الذي لعب دورًا مهما في إبراز المشاعر والأحاسيس لشخصيات الرواية تقول الساردة، في حوار مع نفسها معبرة عن الغيرة التي تأكل دخيلتها " بدأت أشعر بالغيرة من الأخريات لأني لم أحظ حتى الآن بحبيب يلغي عني صحراء روحي، ويمنحني ماء العشق على شكل قطرات متتالية لا تتوقف من التدفق كما تخيلت ..." ص34 وهذه التقنية هي الأخرى مهيمنة بشكل كبير على مسار أحداث الرواية، ثم الوصف الذي يشكل بؤرة للفعل السردي وبناء ملامح الشخصيات والفضاءات المؤثثة لعوالم الرواية ، تقول "نارة": " عدت إلى مكان الحدث بعد غياب طويل، وبعد أن أمضيت سنوات في البعيد أتلظى حرقة، أحاول أن أبحث عن لنفسي عن نفسي، يا لمساحات الكون الشاسع، لم تعد تكفيني ملامح البشرية التائهة. ها أنا أتجول مع قلمي حاملة همومي على أكتافي، أسير في الربوع لا أعرف أين تركتها ومن يرتديها، ترى من سيتحملها بعدي، وعندما وجدت نفسي أنانية جدًا في البحث حيث البحث لم يكفني، كلما بحثت أكثر أبقى عطشى جائعة. قررت العودة إلى الشرق" ص 7. فشخصية "نارة" تبدو منشغلة بكينونتها المفتقدة، بأسلوب وصفي يكشف الرغبة في العودة إلى مكمن تحقق الكينونة، الشرق، لتبقى ( شروق ، ميس ، وفاء، ندى، هيام ) شخصيات يعبرن جميعهن عن هواجس "نارة"، هذه الأخيرة التي كانت بارعة في الغوص في سيرهن التي هي سيرتها في الأصل، لتكشف رغم محاولات التخلص من الثقافة السائدة تجاه المرأة الشرقية، إلا أنهن يظلن ظامئات للشرقK أي للرجل حتى يحققن كينونتهن، ما دامت الشخصيات، على لسان الساردة التي تقول: " نحمل في دواخلنا أنوثة قاتلة غير مستغلة، أعيننا تكشف عنها وتفضحنا، أنوثة مكبوتة لا يفهمها سوى الجنون"ص25. وتتصف الرواية بتعددية في الأصوات السردية التي " لن يستطيع امتلاكها أي كاتب يتبنى رؤية شمولية، يجهل ما عداها، أو يحتقر من يخالفها، فينطق شخصياته لغة واحدة" إلا روائي يمتلك رؤية واضحة للكتابة الروائية، هذه التعددية مكنت الشخصيات من التعبير عن وجهات نظرهن وأتاحت لهم الفرصة " للتعبير عن صوت أعماقها، والانطلاق بحرية لتقديم اعترافاتها، التي ترتكز، غالبا، على مواجهة الذات" . ثم نجد التسريد المشهدي الذي هو استفادة واضحة من الفن السينمائي، ذلك أن الساردة كانت بارعة في تصوير مشاهد غاية في الجمالية التصويرية، بغية شحن، وخصب، وتطعيم السرد، فهذا التزاوج بين السرد الروائي، والسرد السينمائي هو "كاستجابة جمالية و دلالية، يصوب السارد من خلالها كاميرا الرواية بحس شاعري، لتصوير مواقع، وأحاسيس معينة، مع التركيز على الصورة وايحاءاتها( كما يفعل المخرج السينمائي) وتحويلها إلى منبع للانسياب السردي " . تقول الساردة " نظر داخل عيني، تفرسني، وبدأ يقترب مني، وقبل أن يلتقط شفتي وضع يده خلف رقبتي فأسندها، سَرَت بي قشعريرة أزالت عني جميع الوساوس. انحنى بجسده وكأنه ينحني للصلاة. مسّد شعري بحنان فاغرورقت عيناه بالدموع، داعب رقبتي فارتجفتُ بين يديه. عانقني فاختفيتُ داخله، تركتُ جسدي داخل جسده، لفّني بذراعيه، تضوعت منه رائحة الحنان والرحمة كم هو دافئ "ص 214. هذا التجسيد الحكائي لهذه اللقطة السينمائية التي تصور ذوات العشاق وهم يُصَلُّونَ في محراب العشق والصبابة، درجة الحلول الجسدي الوجداني، دليل ساطع على أن الروائية دينا سليم تمتلك ثقافة بصرية متميزة، مما أغنى السرد وجعله أكثر حيوية، وقد أمعنت الروائية في تفاصيل مشهدية موحية تجعل القارئ منخرطا دون وعي في تشييد عوالم النص المتخيلة. فالكتابة الروائية في هذه الرواية " لا تصف واقعًا بل تتحول هي نفسها إلى واقع، إنها عبارة عن لملمة لمزق من حيوات مخافة أن يطالها النسيان، لذلك تتمرد الرواية على نفسها من جهة كونها حكاية، لا باعتبارها حكاية مبتدعة على سبيل الوهم، ومن قبيل التخيل، بل باعتبارها تدوينًا، وإشهادًا على ما يتكتم عليه التاريخ من وجع بشري" غير أن رواية "نارة" لدينا سليم تعري هذا التاريخ عبر أصوات نسائية تبحث عن وجودها داخل مجتمع عربي مشلول، ومريض بالعديد من العلل الاجتماعية والثقافية والحضارية، وأيضا " للتعبير عما يضطرم في الأعماق من مخاوف، وآلام، وأفكار (...) وقادرة على نبش أعماقنا وتجسيد أفكارنا ومشاعرنا و أحلامنا" . تنكشف لغة الساردة بتعانق الأسلوب بالتعبير الشعري، ولكن ما يميزها لغة الرواية تميزها بِعُدُولِهَا في مواضع كثيرة عن اللغة المعيارية، إلى لغة ذات نَفَسٍ شعري خصوصا أن شخصيات الرواية تعتمد البوح الداخلي، والرواية حابلة بهذا المعطى الجمالي، ومن النماذج نشير إلى قول الساردة: "سنوات الخمسين تداهمني بسرعة، يوم ميلادي يأتي سريعا، عقارب ساعات العمر تتعجل الوصول، سنة، سنتان، ثلاث سنوات، ثم وثم تأتي محملة بأحاسيس متناقضة متفاوتة" ص83 ، كما برعت المؤلفة في استثمار اللهجة العامية بتطعيم الرواية بعبارات محلية على لسان شخصياتها مما أسهم في تكسير رتابة السرد. على سبيل الختم: إن رواية نارة" نموذج للكتابة السردية التي تحاول قدر الممكن، التعبير عما يعتري الواقع من ارتجاجات، وهزات على مستوى الوعي القائم، من خلال، تبني وعي جديد، وهذا ما عبّرت عنه شخصيات هذا النص الروائي الذي كان ينتقد واقع المرأة الشرقية انتقادًا غايته تحقيق كينونة جديدة ومتجددة، متحررة من كل القيود للمرأة، وبالتالي فهذه الكتابة " سفر وجودي في تاريخ الذاكرة الذاتية والجمعية في صيرورتها المشتركة" . وعليه يمكن القول "إن الكتابة النسائية غدت تشكل أفق خلاص للمرأة عموما، من حيث إنها موضعة لتجاربها، وتصوراتها، وأحلامها، وآمالها، وآلامها، موضعة تبتعد عن النمطي، وتخترق السائد والمألوف بهدف إنتاج لغة جديدة" ورؤى سردية تعيد الاعتبار للكائن الأنثوي حتى تحقق هويتها وتعَمِّق سؤال الإبداع النسائي .
إ
#دينا_سليم_حنحن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في قهوة ع المفرق
-
من حكايا النكبة - أفدوكية.
-
د. جوزيف يوسف سليم حنحن، عطاءات مُشَرِّفَة.
-
عادات سيئة
-
مذكرات مهاجرة - البحث عن الذات
-
زكي غطّاس ومازل - قصّة عشق
-
مشهد الساندويتش
-
قراءة متأنية في رواية - ضيعة القوارير-
-
لن أنسى
-
طردتها العجوز من كوخها
-
الاعلان عن اصدار جديد
-
ريشة الغراب
-
النمل نديمي
-
طوقتني العقارب
-
نهر توود - أستراليا
-
البحث عن مفقودين
-
مسرح الخيالة - الفرسان في بئر السبع
-
استفزاز
-
أكيد الديك أخرس
-
الهزهزة الخالدة وفيضانات بريزبن / أستراليا 2022
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|