|
رواية للفتيان طفل من خرق
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7454 - 2022 / 12 / 6 - 10:18
المحور:
الادب والفن
رواية للفتيان
طفل من خرق
طلال حسن
" 1 " ــــــــــــــــــــ دفع الجد الباب ، ودخل الكوخ ، وأحكم إغلاق الباب ، وتقدم بخطواته الثقيلة البطيئة ، وقال كأنما يحدث نفسه : البرد شديد في الخارج . لم ترفع الجدة رأسها ، فقد كانت منكبة على خياطة دميتها ، على ضوء القنديل الشاحب ، ورمق الجد الجدة بنظرة سريعة ، وقال : خُلق العالم في ستة أيام ، وأنت لم تنجزي دمية الخرق هذه ، رغم أنك تعملين فيها منذ حوالي الشهر . وغرزت الجدة الابرة بأناة ، في دمية الخرق التي أوشكت أن تكتمل ، وقالت : أريدها دمية جميلة ، متكاملة ، وليست كالعالم الذي نعيش فيه . وجلس الجد في مكانه أمام الموقد ، ورمق الدمية بنظرة خاطفة ، وقال : الدمى عادة تُصنع فتيات جميلات ، وهذه الدمية لا يبدو أنها فتاة . ورفعت الجدة الدمية ، وقد اكتملت على ما يبدو ، وأرتها للجد ، وقالت : أنت محق ، إنها ليست فتاة ، وإنما هي فتى ، فتى جميل . وسكتت لحظة ، وهي تتأمل الدمية بحنان ومحبة ، ثم قالت : طالما تمنينا ، أنا وأنت ، أن يكون لنا فتى ، مثل هذا الفتى الدمية الجميل . وبدا الحزن العميق على الجد ، وتنهد من أعماقه ، ثم قال : هذه كان أمنية ، أحبّ أمنية من أمانينا الكثيرة ، لكنها للأسف لم ولن تتحقق . وحدقت الجدة في الدمية ـ الفتى طويلاً ، ثم رفعت رأسها إلى الجد ، وقالت : انظر ، انظر إليه ملياً ، وقل لي ، ماذا ترى فيه ؟ ونظر الجد إلى الدمية ـ الفتى ، وتنهد ثانية ، وقال : أرى ما لا ترينه ، أرى دمية . وهزت الجدة رأسها ، وقالت : حقاً ، أنت ترى ما لا أراه ، آه إنه فتى . وضحك الجد ، وقال : فتى .. فتى من خرق . وحدقت الجدة متأملة الدمية ـ الفتى ، وقالت بصوت رقيق حالم : آه لو تتحقق أمنيتي ، فتدب الحياة في هذه الدمية ـ الفتى . وسكتت برهة ، ثم رفعت رأسها إلى الأعلى ، وهتفت بحرقة : اينانا ، حققي أمنيتي ، وانفخي الحياة في هذه الدمية ، وستعيدين لي الحياة . ونهض الجد متحاملاً على نفسه ، وهو يقول بصوته المرتعش : إنها أمنية أخرى ، تضاف إلى أمانينا العديدة ، التي لم تتحقق . وتمدد في فراشه متأوها ، وقال : الأفضل أن أنام ، فغداً سأذهب مبكراً إلى الغابة . ونهضت الجدة بهدوء ، وتمددت في فراشها ، وقد وضعت إلى جانبها الدمية ـ الفتى ، وقالت : بني ، منذ الليلة ستنام إلى جانبي ، فتدفئني وأدفئك ، فليل هذا الشتاء طويل وبارد .
" 2 " ــــــــــــــــــــ أفاقت الجدة كالعادة ، قبل أن يفيق الجد ، وما إن همّت أن تناديه وتوقظه ، حتى اعتدل في فراشه ، وقال : أه الشمس لم تشرق بعد . وابتسمت الجدة ، وقالت : لكن ديكنا يصيح . ونهض الجد من فراشه ، وقال : لابد أن دجاجاته المدللات لم يفقن بعد من النوم . وراحت الجدة تعد سفرة الفطور ، وهي تقول كأنما تكلم نفسها : حتى الدجاجات يبضن ، ويحضن البيض ، ويكون لهن فراخ صغيرة . ثم التفتت إلى الجد ، وقالت له : تعال ، وتناول طعامك ، قبل أن تذهب إلى الغابة . وجلس الجد أمام سفرة الطعام ، وراح يأكل بعجالة ، وقال : قد أتأخر اليوم في الغابة قليلاً . ونظرت الجدة إليه ، وهي تأكل ، وقالت : سأجيؤك بطعام الغداء ، عند منتصف النهار . ونهض الجد ، وهو مازال يلوك لقمته في فمه الخالي من الأسنان تقريباً ، وقال : أنت عجوز متعبة ، والطريق طويل ، لا أريد أن تأتي . ونهضت الجدة بدورها ، وقالت محتجة : أردت أن تقولها ، وقلتها أنت عجوز ، كلا ، لست عجوزاً ، انتظرني عند منتصف النهار . وضحك الجد ، وخرج من الكوخ ، حاملاً عدة العمل ، ومضى مبتعداً ، وهو يقول : سأنتظرك في الغابة ، يا غزالتي العزيزة . وكتمت الجدة ضحكتها ، وقالت : اذهب الآن ، غزالتك لم تعد غزالة . واستدارت الجدة ، وقبل أن تغلق الباب ، سمعت الجد يهتف ، وهو يمضي بخطواته الثقيلة البطيئة : ستبقين غزالتي مهما مرت الأيام . وخلال ساعات الصباح الأولى ، راحت الجدة بحركاته البطيئة الشائخة ، تعد طعام الغداء ، لتأخذه عند منتصف النهار ، إلى الجد في الغابة . ووقع نظرها على الدمية ـ الفتى ، التي صنعتها بصبر وأناة ومحبة من الخرق ، واستغرقت في إعدادها وخياطتها حوالي الشهر ، وخيل إليها أن الدمية ـ الفتى تنظر إليها ، فمدت يديها المرتعشتين إليها ، وأخذتها إلى صدرها ، وقالت : بنيّ ، إنني أمكَ . ووضعت الدمية ـ الفتى جانباً ، وقالت : ابقَ هنا إلى جانبي ، إنني أعد طعام الغداء لأبيك العجوز ، الذي يعمل الآن في الغابة . وفي الغابة ، توقف الجد أمام مجموعة من الأشجار ، وتطلع إليها ملياً ، ثم قال : فلأبدأ بقطع بعض الأغصان ، من هذه الأشجار ، وستأتي غزالتي عند منتصف النهار ، ونجلس أنا وهي كما في الماضي ، تحت هذه الظلال ، ونتناول معاً طعام الغداء .
" 3 " ـــــــــــــــــــ انكبت الجدة ، طوال ساعات الصباح ، على ترتيب وتنظيف الكوخ ، وانصرفت قبيل الظهر إلى إعداد طعام الغداء للجد ، ووضعته في صرة نظيفة . وحملت الجدة الصرة ، التي ستأخذها إلى الجد ، الذي يعمل في الغابة ، لكنها توقفت عند الباب ، وأغمضت عينيها الشائختين ، وتمتمت متألمة : آه هذا الدوار اللعين ، لا يكاد يفارقني . وصمتت لحظة ، وقلبها يخفق مضطرباً في صدرها ، ثم قالت : لو أن لي ولداً ، لناديته في هذه اللحظة ، التي أحتاج إليه فيها ، وهتفت .. يا بنيّ . وندّ صوت طفولي من ورائها : نعم ماما . لم تلتفت الجدة للصوت الطفوليّ ، وتابعت كلامها قائلة : تعال ، يا بنيّ ، تعال وخذ صرة الطعام هذه إلى أبيك ، الذي ينتظرك الآن في الغابة . وجاء الصوت الصفولي واضحاً هذه المرة ، يقول : هاتيها ، يا ماما . وتوقفت الجدة مذهولة ، ماذا تسمع ؟ يبدو أنها خرفت ، وراحت أذناها الشائختان ، تلتقطان أصوات لا وجود لها في الأساس ، وجاءها الصوت مرة أخرى يقول : ماما ، هاتي صرة الطعام . وعلى الفور ، التفتت إلى مصدر الصوت ، وإذا الدمية ـ الفتى ، تقف على مقربة منها ، وقد رفعت رأسها إليها ، ورأتها تتكلم قائلة : أنت متعبة جداً ، يا ماما ، وتعانين من الدوار ، أعطيني صرة الطعام ، سآخذها إلى أبي في الغابة ، هذه مهمتي منذ الآن . واتسعت عينا الجدة ذهولاً ، وحدقت فيه بعينين يغرقهما الدمع ، وقالت : بنيّ ، أنت تتكلم . ومدّ الفتى ـ الدمية يديه ، وأخذ الصرة من الجدة ، وقال بصوته الطفولي : أنتِ قلتها ، يا ماما ، بنيّ ، أنا ابنك ، نعم ابنك ، وطالما تمنيتني . وقدمت الجدة صرة الطعام إلى الفتى ـ الدمية ، وقالت : لنذهب معاً إلى الغابة ، يا بنيّ ، وسيفرح أبوك بك جداً ، فهو أيضاً طالما تمناك . وهزّ الفتى ـ الدمية رأسه ، وصرة الطعام بين يديه ، وقال بعناد الأطفال وثقتهم بأنفسهم : كلا ، سأذهب وحدي ، أنا ولد ، وستبقين أنت هنا في الكوخ ، فأنت امرأة عجوز ، وتعانين من الدوار . وكتمت الجدة ضحكتها الفرحة ، وقالت : الأمر لك ، يا بنيّ ، فأنت .. الولد . وخرج الفتى ـ الدية من الكوخ ، حاملاً صرة الطعام ، وسار مبتعداً كما يسير أي صبي بثقة ، وخطوات منتظمة ، والتفت إلى الجدة ، ولوح لها بيده ، وقال : انتظرينا ، سنأتي أنا وبابا ، قبيل المساء .
" 4 " ـــــــــــــــــــ تناهى إلى الجد ، وهو يقطع أحد الأغصان ، ما يشبه وقع أقدام خفيفة ، أهو أرنب أم خشف أم .. أم ماذا ؟ إنه ليس دباً بالتأكيد . والتفت إلى مصدر وقع الأقدام الخفيفة ، واتسعت عيناه الشائختان ذهولاً ، وخفق قلبه الشائخ بشدة ، يا للآلهة ، أنه ليس أرينباً ولا خشفاً ولا حتى دباً ..ما هذا ! ولا عجب ، فقد رأى أمامه ، آخر شيء يمكن أن يراه هنا ، في هذا الطرف من الغابة ، أهذا ممكن ! لقد رأى الفتى ـ الدمية ، الذي انكبت زوجته العجوز على صنعها ، طوال شهر من الزمن ، وما أذهله ، وكاد يذهب بعقله الشائخ ، أن الفتى ـ الدمية يسير كما لو كان فتى حقيقياً من لحم ودم . وتوقف الفتى ـ الدمية ، أمام الجد ، وقدم له صرة الطعام ، وقال بصوته الطفولي : تفضل ، يا بابا ، جئتك بالطعام ، الذي أعدته لك ماما . لم يمدّ الجد يديه إلى صرة الطعام ، وظلت عيناه تحدقان في الفتى ـ الدمية في ذهول ، وقال : ماذا ! وبنفس الصوت الطفولي ، قال الفتى ـ الدية ، ويداه مازالتا ممدودتين بصرة الطعام إلى الجد : ماما لم تستطع أن تأتي ، يا بابا ، فأتيت أنا بدلها ، وجئتك بصرة الطعام هذه . ومدّ الجد يديه المرتعشتين ، وأخذ صرة الطعام من الفتى ـ الدمية ، وقال : لقد وعدتني الجدة أن تأتني بالطعام بنفسها ، أخشى أن تكون مريضة . وهزّ الفتى ـ الدمية رأسه ، وقال بصوته الطفولي : لا .. لا .. اطمئن ، إنها بخير . وجلس الجد تحت إحدى الأشجار ، وفتح صرة الطعام ، ثم نظر إلى الفتى ـ الدمية ، وقال : آه الجدة طباخة ماهرة ، تعال نأكل معاً . وجلس الفتى ـ الدمية قبالة الجد ، وقال بصوته الطفولي : شكراً ، يا بابا ، أنا لا آكل . وهرب الجد بعينيه الشائختين إلى الطعام حرجاً ، وقبل أن يأكل اللقمة الأولى ، جاءه صوت يعرف صاحبه جيداً ، يقول : أنا آكل معك ، أيها الجد الطيب . ورفع الجد رأسه ، ونظر نحو مصدر الصوت ، إنه فعلاً المتشرد " " ، يتطلع إليه بعينيه الغادرتين المتلصصتين ، لكنه لم يردّ عليه . وحدق المتشرد " " بالفتى ـ الدمية ، وقال له بنبرة خبيثة : مرحباً ، أيها ال .. وصمت المتشرد " " ، فرفع الفتى ـ الدمية رأسه إليه ، وقال بصوت الطفولي : أهلاً ومرحباً . ورسم المتشرد على شفتيه المسمومتين ابتسامة خبيثة ، وحدق في الجد ، وقال : أن لا يأكل ، هذا مفهوم ، فهو دمية ، لكن غير المفهوم ، والغريب جداً ، أن تتحدث هذه الدمية ، وكأنها فتى حقيقي . وأخذ الجد رغيف خبز ، ووضع فيه قليلاً من الطعام ، وقدمه إلى المتشرد " " ، وقال له زاجراً : خذا هذا الطعام ، وامضِ من هنا . وأخذ المتشرد " " رغيف الخبز وما فيه من طعام ، وعيناه الخبيثتان تلتهمان الفتى ـ الدمية ، وقال : أشكرك أيه الجد ، هذه الدمية معجزة ، ولا غرابة ، فآلهة اور العظيمة قادرة على كلّ شيء . ونهض الجد غاضباً ، ودفع المتشرد " " بقوة ، وهو يقول له : أخذت الخبز والطعام ، اذهب الآن بعيداً من هنا ، هيا اذهب . وتراجع المتشرد " " مبتسماً ، وعيناه مازالتا تلتهمان الفتى ، الدمية ، وهو يقول بصوت خبيث : دمية جميلة .. معجزة .. ترى كم تساوي .. المعجزة .
" 5 " ـــــــــــــــــــــ بفرح غامر وتلذذ غير مسبوقين ، تناول الجد الطعام ، الذي جاءه به الفتى ـ الدمية ، ربما لأن الجدة هي التي أعدته له ، أم لأن الفتى ـ الدمية ، الذي يناديه يا أبي ، هو وراء هذا الفرح الغامر والتلذذ بالطعام ؟ ونهض الجد ، بعد أن فرغ من تناول ما في الصرة من طعام ، وقال للفتى ـ الدمية : ابقَ أنت هنا ، سأذهب وأقطع بعض الأغصان . ونهض الفتى ـ الدمية بدوره ، وأخذ يرتب الصرة ، وقال : ماما تنتظر في البيت ، وهي تعد لك طعام العشاء ، والأفضل أن لا نتأخر . وسار الجد بتثاقل وبطء ، والفأس في يده ، وقال : لن نتأخر ، سأقطع بعض الأغصان ، فالشتاء بارد هذا العام ، والجدة بحاجة إلى المزيد من الوقود . وانتهى الفتى ـ الدمية من عمله ، وجلس تحت الشجرة ، ينتظر بفارغ الصبر ، أن ينتهي الجد من قطع المزيد من أغصان الأشجار ، ليعودا معاً إلى الكوخ ، حيث تنتظرهما الجدة . لكن كان هناك من ينتظر ، في مكان قريب ، وبصبر نافد ، أن ينهمك الجد في عمله ، وينشغل عن الفتى ـ الدمية ، فينتهز الفرصة المناسبة ، للقيام بما قرر أن ينفذه في الوقت المناسب . نعم ، إنه المتشرد " بونو " ، فقد تحركت مطامعه السوداء ، حين رأى الفتى ـ الدمية ، يتحدث مع الجد ، وكأنه فتى حقيقياً وليس دمية ، فهو يرى لأول مرة في حياته ، دمية مصنوعة من الخرق ، تسير وتتحدث كالإنسان ، إن تماثيل الآلهة نفسها ، لم تقم بذلك حتى في المعابد ، هذا كنز ، وزنه ذهب . وأطل المتشرد " بونو " من وراء إحدى الأشجار ، آه لقد حانت الفرصة ، الجد منهمك في العمل ، والفتى ـ الدمية الذهب ، يجلس خالي البال تحت الشجرة ، هيا أيها المتشرد ، انتهز هذه الفرصة ، التي قد لا تتكرر ثانية في العمر كله . وعند العصر ، انتهى الجد من عمله ، وحزم ما قطعه من الأغصان ، ثم التفت إلى حيث ترك الفتى ـ الدمية تحت الشجرة ، وصاح بصوته الواهن : بنيّ ، هيا بنا ، لقد حان أوان العودة . لم يردّ الفتى ـ الدمية عليه ، فصاح ثانية بصوت أعلى : بنيّ .. بنيّ .. لكن الفتى ـ الدمية لم يردّ عليه ، فأسرع إلى الشجرة ، التي تركه تحتها حين انصرف إلى العمل ، غير أنه لم يجده ، ولم يجد له أي أثر . وكالمجنون ، انطلق الجد يدور بين الأشجار ، وينادي بصوت تغرقه الدموع : بنيّ .. بنيّ .. بنيّ . وتوقف الجد لاهثاً ، وقلبه يخفق بشدة ، ماذا يجري ؟ لعل كلّ ما حدث وهم ، ليس فيه شيء من الحقيقة ، آه لقد هرم ، وربما خرف وفقد عقله ، و .. وكجندي مهزوم ، ترك سلاحه في المعركة ، ترك الجد فأسه ، وما قطعه من أخشاب ، وسار نحو الكوخ ، والدموع تغرق عينيه ، يا للآلهة ، ماذا سيقول للجدة ؟
" 6 " ـــــــــــــــــــ سار المتشرد " " فرحاً ، والفتى ـ الدمية بين يديه ، وقال كأنما يحدث نفسه : اطمئن ، لن أوذيك ، أنت كنزي ، الذي دفعته الآلهة لي ، لأودع حياة الفقر والتشرد ، واحيا كالملوك عمري كله . ولاح قصر الأمير من بعيد ، فتوقف المتشرد " بونو " ، وراحت عيناه الخبيثتان الشرهتان تتنقلان بسرعة بين الفتى ـ الدمية وبين قصر الأمير ، وقال : هذه الدمية الناطقة ، تليق بالأمير العظيم ، وأنا ؟ أنا أليق بذهب الأمير ، هيا إلى الذهب . وعند باب القصر ، توقف المتشرد " " قرب حارس مدجج بالسلاح ، كان يتحدث إلى طفلة ، يبدو أنها متسولة ، بقوله : ادخلي من الباب الخلفي للمطبخ ، سيعطونك بعض الطعام . ومضت الطفلة متجهة ، نحو باب المطبخ الخلفي ، والتفت الحارس المدجج بالسلاح ، إلى المتشرد " " ، وزجره قائلاً : ابتعد ، لا تقف هنا ، فالوقواق هنا ممنوع للكلاب واللصوص والمتشردين ، وأنت إن لم تكن لصاً ، فأنت متشرد ، هيا ابتعد . واقترب المتشرد " بونو " على حذر من الحارس ، والفتى ـ الدمية بين يديه ، وقال : من فضلك ، أيها الحارس ، أريد مقابلة الأمير . وصاح الحارس مستنكراً : ماذا ! لابدّ أنك جننت .. وقاطعه المتشرد " " ، وهو يرفع الفتى ـ الدمية ، ويريه له ، وقال بنبرة الواثق : سأقدم له هذه الدمية الذهب ، وسيفرح بها أيما فرح . وشد الحارس يديه على رمحه ، وصاح بالمتشرد " " قائلاً : أنت مجنون ، اذهب ، اذهب بسرعة ، وإلا جعلت هذا الرمح يخترق جسمك القذر . ومن طرف حديقة القصر ، جاء صوت جمد الحارس في مكانه ، وجعل رمحه ينكس نحو الأرض ، إنه الأمير صاح به : أيها الحارس .. وتأتأ الحرس ، وهو يستدير نحو مصدر الصوت : نعم ، نعم يا مولاي . وتساءل الأمير : ما الأمر ؟ فرد الحارس بصوت مختنق : مولاي ، هذا المتشرد لديه دمية ، ويريد أن يريها لك . وقال الأمير : دعه يدخل . وابتسم المتشرد " بونو " بزهو وانتصار ، والفتى الدمية بين يديه ، وقال للحارس بثقة ، وعيناه تتطلعان إلى الأمير : قلت لك أيها الحارس ، هذه دمية ذهب ، مهما يكن ، لن أنساك ، سأعطيك نثاراً من الذهب ، الذي سيعطيه لي .. الأمير العظيم . وحدجه الحارس بنظرة غاضبة ، وقال له : اذهب .. اذهب .. وستلقى ما تستحقه . واتسعت ابتسامة المتشرد " " ، وهمس للحارس وهو يبتعد : استحق الذهب ، وهذا ما سأحصل عليه ، أيها .. الحارس .
" 7 " ـــــــــــــــــــ انحنى المتشرد " بونو " أمام الأمير ، وقال : عمت صباحاً ، يا مولاي . وقال الأمير : أيها المتشرد .. واعتدل المتشرد " " بعض الشيء ، وعيناه منكستان إلى الأرض ، وتمتم خائفاً : مولاي . وتابع الأمير قائلاً : قيل لي ، أنك اقتربت أكثر من مرة إلى القصر ، وأنك تتطلع إليه . ورفع المتشرد " " عينيه الخائفتين إلى الأمير ، وقال : أنت أميري ، يا مولاي ، ولي أن أتباهى بعظمتك ، وبجمال قصرك ، وأدعو الآلهة جميعاً أن تحميك ، وتحمي قصرك العظيم . وحدجه الأمير بنظرة ثاقبة ، وقال : لنترك هذا جانباً ، أيها المتشرد ، وأظن أنك لست مجنوناً ، لتفكر مجرد تفكير ، بأن تمد يدك إلى قصري هذا . وانحنى المتشرد " " للأمير ، وقال : صدقت ، يا مولاي ، وسأقطع يدي ، إذا امتدت إلى أي شيء يعود لمولاي الأمير . وهمهم الأمير ، ثم قال : لو فكرت يدك في ذلك ، لما اكتفيت بقطعها ، وإنما لقطعت عنقك نفسه . وصمت الأمير ، فرفع المتشرد " " رأسه بعض الشيء ، وقال : لأني أحبك ، يا مولاي ، وأجلك ، جئتك بهذه الدمية المعجزة . وحدق الأمير في الدمية ـ الفتى غاضباً ، وقال : يبدو أن رأسك المجنون ، لن يبقى اليوم في مكانه .. واتسعت عينا المتشرد " بونو " رعباً ، وتمتم : مولاي .. وتابع الأمير قائلاً : هذه دمية من خرق . وحاول المتشرد " بونو " أن يبتسم ، وقال : هذا ما يبدو ، يا مولاي ، لكنها دمية معجزة . وحدق الأمير في الدمية ـ الفتى ، وقال : لا أرى أي معجزة ، وما أراه مجرد خرق ، خرق فقط . وربت المتشرد على رأس الدمية ـ الفتى ، وقال : معجزة هذه الدمية ، يا مولاي ، إنها تتحدث مثلي ومثل أي إنسان في أور والعالم . وبدا عدم التصديق على الأمير ، وقال : هذا مستحيل ، أرني ذلك ، إن كنت صادقاً . ووضع المتشرد " " الدمية ـ الفتى على الأرض ، وقال : حسناً ، يا مولاي ، سترى هذه المعجزة ، وستغرقني بكرمك و.. والذهب . وقاطعه الأمير قائلاً : دعني أسمعها ، لأصدق أنك لست كاذباً ، أيها المتشرد . وانحنى المتشرد على الدمية ـ الفتى ، وهو يقول : ستصدقني ، يا مولاي ، عندما تسمع هذه الدمية تتحدث إليك بصوت طفل آدمي . ولاذ الأمير بالصمت منتظراً ، وخاطب المتشرد " " الدمية ـ الفتى قائلاً : أيتها الدمية المعجزة ، قولي لأميرنا العزيز ، صباح الخير . وانتظر المتشرد " " ، وكذلك الأمير ، أن تتكلم الدمية ـ الفتى ، لكنها ظلت صامتة جامدة ، فربت المتشرد " " على رأس الدمية ـ الفتى ، وقال متوسلاً بصوت مضطرب : عزيزتي ، الأمير العظيم ينتظر ، أن تقولي له ، صباح الخير .. ومرة ثانية ، ظلت الدمية ـ الفتى صامتة جامدة ، فحدج الأمير الغاضب المتشرد " " بنظرة حارقة ، وقال : أيها القذر ، لا أريد أن ألوث حديقتي بدمائك العفنة ، خذ خرقك ، واغرب عني ، هيا . ورفع المتشرد عينيه الخائفتين المتوسلتين إلى الأمير ، وقال : مولاي .. صدقني .. وقاطعه الأمير ، قائلاً من بين أسنانه : يبدو أنني سألوث حديقتي بدمك القذر ، هيا وإلا .. وعلى الفور ، حمل المتشرد " بونو " الدمية ـ الفتى ، وأسرع خائفاً متعثراً إلى بوابة القصر ، ومرّ بالحارس ، في طريقه إلى الخارج ، دون أن يلتفت إليه .
" 8 " ــــــــــــــــــــ توقف المتشرد " بونو " ، والدمية ـ الفتى تتدلى من إحدى يديه ، حين رأى الطفلة الفقيرة ، بثيابها الرقيقة الرثة ، التي لا تقيها برد هذا الشتاء ، تقضم رغيف خبز ، محشو بقطع من اللحم . وتقدم المتشرد " بونو " منها ، وقد سال لعابه ، وقال : أيتها الفتاة ، أعطني هذا الرغيف . وضمت الفتاة الفقيرة الرغيف إلى صدرها ، رغم أن الدهن كان يسيل منه إلى ثيابها ، وقالت بصوت مرتعش : لا ، إنه رغيفي ، وأنا جائعة جداً . وتلفت المتشرد " " حوله ، واطمأن إلى أن الحارس بعيداً عنهما ، ثمّ قال للفتاة الفقيرة : اسمعيني ، أيتها الفتاة ، أعطيني هذا الرغيف ، حتى بدون لحم ، وسأعطيك هذه الدمية الجميلة . وهزت الطفلة الفقيرة رأسها الأشعث الشعر ، وقالت : كلا ، لا أحتاج إلى دمية ، إنني جائعة ، وأحتاج إلى طعام أسكت به جوعي . ويبدو أن المتشرد " " ، أيقن أن هذه الطفلة الفقيرة ، لن تتخلى له عن الرغيف بإرادتها ، بل ولن تعطيه منه ولو لقمة واحدة ، فانقض عليها ، وانتزع الرغيف منها ، وهو يقول : قلتُ لك إنني جائع .. جائع . وحاولت الفتاة الفقيرة أن تستعيد منه رغيفها ، المحشو بقطع دسمة من اللحم ، وهي تقول : وأنا جائعة جداً ، لم آكل أي شيء منذ البارحة . وتراجع المتشرد " بونو " عنها ، والرغيف في يده ، ثم نهش منه لقمة كبيرة ، وهزّ رأسه متلذذاً ، وقال : آه .. كم هو لذيذ هذا الرغيف . وبكت الطفلة الفقيرة ، وارتفع صوت بكائها ، وهي تقول متوسلة : أعطني الرغيف ، إنه لي . فألقى المتشرد " بونو " الدمية ـ الفتى إليها ، ومضى مبتعداً ، وهو ينهش بشراهة ما تبقى من رغيف الخبز ، وقال مدمدماً : خذي دمية الخرق هذه ، والعبي بها ، إنها رثة وقذرة مثلك . وتوقفت الطفلة الفقيرة ، وهي تبكي ، وتتابع بعينها اللتين يغشاهما الدمع ، المتشرد " بونو " ، وهو يجهز على البقية الباقية من الرغيف المحشو باللحم .
" 9 " ـــــــــــــــــــ توقفت الطفلة الفقيرة عن البكاء ، لكن عينيها السوداوين الجميلتين ، ظلتا تسحان دمعاً ، راح يسيل على وجنتيها الجميلتين ، رغم أن الماء لم يلامسهما ، منذ أكثر من أسبوع . ويبدو أنها يئست من استرجاع رغيف الخبز الأبيض ، المحشو بقطع اللحم الدسمة ، فقد رأته يختفي شيئاً فشيئاً في فم المتشرد " بونو " اللعين ، كما يختفي الماء العذب في بالوعة نتنة . وسارت الطفلة الفقيرة حائرة ، لا تدري أين تذهب ، فهي لا تستطيع الذهاب ثانية إلى القصر ، حيث تصدقوا عليها برغيف الخبز الأبيض ، المحشو بقطع اللحم الدسمة ، وتطلب رغيفاً آخر ، ولا تريد أن تعود إلى الكوخ ، حيث تتربص بها صاحبته ، العجوز العمياء ، ذات اللسان السليط القذر . وتوقفت الطفلة الفقيرة مذهولة خائفة عن السير ، إذ سمعت صوتاً طفولياً يأتيها يخاطبها من ورائها ، وهي تعرف أن الطريق خال ، وليس فيه غير دمية الخرق ، التي رماها لها المتشرد " بونو " : أيتها الطفلة . لم تلتفت الطفلة الفقير نحو مصدر الصوت ، ربما خوفاً ، وانتظرت لحظات ، وقلبها يخفق بشدة ، من يدري ، لعلها واهمة ، و .. وتناهى إليها وقع أقدام ، مكتومة تتجه نحوها ، وجمدت في مكانها مرعوبة ، إذ رأت دمية الخرق تقف إلى جانبها ، وقد تلوثت بالتراب ، وقالت لها : امسحي دموعكِ ، أنت جميلة ، وعيناك جميلتان ، وستكونان أجمل من غير دموع . وبدون وعي منها ، مدت الطفلة الفقيرة كفيها غير النظيفين ، ومسحت الدموع عن خديها ، وقالت : عجباً ، أنت دمية ، لكنك تتكلمين مثلنا . وابتسم الطفل ـ الدمية لها ، وقال : في الحقيقة ، أنا طفل دمية ، صنعتني الجدة من الخرق . وتلفتت الطفلة الفقيرة حولها خائفة ، وقالت : رأيتك مع المتشرد قبل قليل . وزمّ الطفل ـ الدمية شفتيه ، وقال : هذا المتشرد اللعين ، لقد اختطفني من الجد المسكين ، حين كان منشغلاً في قطع أغصان الأشجار ، ليأخذها إلى الجدة ، التي تنتظره في الكوخ . وصمت لحظة ، ثم قال : ويبدو أنه أراد أن يبيعني للأمير ، وقال له إنني دمية أتكلم ، وطلب مني أن أتكلم أمام الأمير ، وأقول له صباح الخير ، لكني نكاية به ، لم أتكلم ، وبقيت جامدة مثل دمية حقيقية ، فغضب الأمير ، وطرده شرّ طردة . وتوقفت الطفلة الفقيرة قلقة حائرة ، ونظرت إلى الطفل ـ الدمية ، وقالت بصوت واهن : الليل يقترب ، وسيحل الظلام قريباً ، ما العمل ؟ ورفع الطفل ـ الدمية رأسه إليها ، وقال : إنني أعرف الطريق إلى كوخ الجد والجدة ، وأستطيع الوصول إليه وحدي ، قبل أن يحلّ الليل . ونظرت الطفلة الفقيرة إليه ، وقالت : أنت طفل دمية ، وسيستحوذ عليك أحد الأشرار ، وخاصة إذا عرف أنك تسير وتتكلم مثل البشر . وتلفت الطفل ـ الدمية حوله ، وقال : أستطيع أن أبقى ليلاً في العراء ، فأنا لا أشعر بالبرد ، لأنني مصنوع من الخرق ، أما أنتِ ، أنت إنسان من لحم ودم ، والبرد شديد جداً عليكِ في الليل . وفكرت الطفلة الفقيرة ملياً ، ثم حزمت أمرها ، ومدت يدها ، وأمسكت يد الطفل ـ الدمية ، وقالت : لا مفرً من الذهاب إلى بيت العجوز العمياء ، حيث أبات كلّ ليلة ، سآخذك معي ، رغم أنني أخشى عليك من تلك المرأة العجوز العمياء الشريرة .
" 10 " ــــــــــــــــــــــ توقفت الطفلة الفقيرة ، ومعها الطفل ـ الدمية ، عند باب كوخ صغير رث ، وانحنت الطفلة الفقيرة قليلاً ، وقالت بصوت خافت : سندخل الآن إلى الكوخ ، فلا تتحرك في الداخل ، ولا تتكلم ، وإلا طردتنا العجوز العمياء إلى الليل . وهزّ الطفل ـ الدمية رأسه ، دون أن يتفوه بكلمة ، فمدت الطفلة اليتيمة يدها المرتعشة ، ودفعت الباب بهدوء شيئاً فشيئاً ، ومن خلال شق الباب المتسع ، لمحت العجوز العمياء ، ترفع رأسها ، والشرر يتطاير من عينيها العمياوين ، وفحت كالأفعى : جئت أخيراً ، الويل لكِ ، لو أنك لم تأتني بشيء يؤكل . وسكتت لحظة ، وهي تنصت ، ولم تنطق الطفلة الفقيرة بشيء ، فقالت العجوز العمياء : إنني جائعة جداً ، ولابد لي أن آكل الآن ، وإذا لم تقدمي لي طعاماً فسآكلك ، وإلا متّ جوعاً . وسحبت الطفلة الفقيرة ، الطفل ـ الدمية برفق ، وأغلقت باب الكوخ ، وقالت : جئتك برغيف خبز أبيض ، محشو بلحم دسم .. وسكتت الطفلة الفقيرة ، فهمهمت العجوز العمياء متوجسة : نبرات صوتك لا توحي بالخبز واللحم ، أيتها اللعينة القذرة . وتابعت الطفلة الفقيرة قائلة بصوت مرتعش خائف : لكن المتشرد " " اغتصب الرغيف المحشو باللحم مني ، وأكله كله ، ولم يبقِ منه شيئاً . وهزت العجوز العمياء رأسها ، والغضب المجنون يتصاعد في نبرات صوتها ، وهي تقول : عرفت من صوتك الكاذب ، أن نبراتك لا تبشر بخير . وسكتت لحظة ، ثم قالت بصوت كفحيح الأفعى : لست غبية لأصدقك ، نعم ، لقد حصلت على رغيف خبز أبيض محشو بلحم دسم ، لكن المتشرد لم يغتصبه منك ، وإنما أنت بنفسك الدنية ، التهمته دون رحمة ، وتركتني للجوع ينهش في أمعائي ، أيتها اللعينة .. وصمت العجوز العمياء ، وهي تمدّ يديها متحسسة الهواء ، وقالت بصوتها الفحيح : آه أنت لن تخدعيني ، فإنك لستِ وحدكِ الآن معي في الكوخ .. وسحبت الطفلة الفقيرة ، الطفل ـ الدمية ، ودفعته برفق وراء ظهرها ، دون أن تتكلم ، فتابعت العجوز العمياء قائلة : معكِ قطة ، أو كلب صغير ، أو .. لا أدري ماذا ، مهما يكن ، فلا مكان لكِ عندي ، اخرجي ، وخذي من جئت به معك ، إلى الخارج ، حتى لو متما من البرد في هذا الليل القاسي الأعمى . وتراجعت الطفلة الفقيرة ، وهي تدفع برفق الطفل ـ الدمية نحو الباب ، وقالت متوسلة بصوت دامع : الظلام مخيم في الخارج الآن ، والبرد شديد قاتل ، دعيني أبقى الليلة هنا ، وغداً .. سآتيك بالطعام . ومدت العجوز العمياء يدها العظمية ، وأمسكت بعصا غليظة ، وراحت تلوح بها كما لو كانت سيفاً ، وتضرب يميناً ويساراً ، وهي تصيح غاضبة : سأقتلك أيتها اللعينة ، سأقتلك إذا لم تخرجي ، لا أريدك بعد اليوم في كوخي ، هيا أخرجي .. اخرجي .. وفتحت الطفلة الفقيرة باب الكوخ ، ودفعت الطفل ـ الدمية إلى الليل ، ولحقت به ، وأمسكت العجوز العمياء الباب ، ثم صفقته بقوة شديدة .
" 11 " ــــــــــــــــــــــ الليل ، في الخارج ، عتمة شفافة ، فالسماء الواسعة ، تتغامز فيها النجوم ، والقمر بدر ساطع بينها ، لكن نوره المنعكس عن ضوء الشمس ، يصل الأرض بارداً ، والبرد في كل مكان . ولاح كوخ العجوز العمياء ، عماء لا ضوء فيه ، ولا دفء ، ولا نار في موقده تضيء وتدفىء ، والمرأة العجوز العمياء ، ترقد تحت فراشها الرث ، تكاد تتجمد من البرد والجوع . وفي كوخ الجد والجدة ، قنديل صغير يطارد بضوئه الظلمة ، وخشب فوّاح مشتعل في الموقد ، يبث الضوء والدفء في كل زاوية فيه . الجد في فراشه ، متعب ، مغمض العينين ، لكنه ليس نائماً ، إنه يفكر في الجدة ، التي طعنها بفقدانه للطفل ـ الدمية ، الذي عملت عليه شهراً كاملاً . والجدة ترقد في فراشها ، وعيناها الشائختان الذابلتان مفتوحتان على سعتهما ، لكنه لا ترى بهما ، حتى في هذا الكوخ الصغير ، إلا الطفل ـ الدمية ، الذي صنعته غرزة غرزة ، ونفخت فيه الآلهة نبض الحياة من أجلها ، إلا أن الجد أفقدها إياه ، آه من الجد . وفي عتمة الليل الشفافة ، خارج كوخ المرأة العجوز العمياء ، وخارج كوخ الجد والجدة ، وتحت النجوم المتغامزة ، والقمر البدر الساطع بنوره البارد ، كانت تدب الطفلة الفقيرة متعثرة ، وإلى جانبها كان يسير الطفل ـ الدمية . وتلفتت الطفلة الفقيرة في العتمة ، وقالت بصوت يرتعش من البرد والخوف والجوع : أيها الطفل الدمية ، يبدو أننا تهنا في هذا الليل . وتطع الطفل ـ الدمية أمامه بثقة ، وقال : لا ، لم نته ، إنني أعرف الطريق جيداً ، فقد سرت فيه صباح هذا اليوم ، حتى وصلت الجد في الغابة . وتباطأت الطفلة الفقيرة في سيرها ، وقالت شاكية : الجد والجدة لا يعرفاني ، وسوف يقبلان بك أنت ، لكني لا أظن أنهما قد يقبلان بي . وشدّ الطفل ـ الدمية على يدها ، وقال : سيرحبان بك ، ويحبانك ، كما أحباني ، إنني أعرفهما ، إنهما في غاية الطيب ، تعالي ، وسترين . وأنّت ريح في الخارج ، فأنصتت المرأة العجوز العمياء ، وقالت في نفسها : هذه المتشردة اللعينة ، إذا طرقت الباب في هذا الليل ، لن أفتحه لها ، فلتمت في البرد والظلام ، هي ومن كان معها ، مادامت قد التهمت رغيف الخبز الأبيض ، المحشو باللحم الدسم ، ترى من كان معها عندما جاءت إلى الكوخ ؟ وفي داخل كوخ الجد والجدة ، خيل للجدة أن الباب يُطرق ، فاعتدلت في فراشها ، وتمتمت : الباب . وفتح الجد عينيه ، وقال بصوته الشائخ المتعب : لا تنهضي ، لعلها الريح . وسمعت الجدة الباب يطرق ثانية ، فنهضت متحاملة على نفسها ، وهي تقول : الريح لا تطرق باب كوخنا مرتين ، فلأرَ من القادم . وما إن فتحت الجدة الباب ، حتى شهقت فرحاً ، والدمع ينبع من عينيها ، وصاحت : أيها الجد ، انهض ، انهض بسرعة ، وتعال انظر من القادم . ونهض الجد من فراشه ، وأسرع إلى الجدة الواقفة بباب الكوخ ، وإذا عيناه الشائختان تقعان على الطفل ـ الدمية ، دون أن ينتبه إلى الطفلة الفقيرة ، التي تقف إلى جانبه ، وهتف فرحاً : بنيّ ، بنيّ العزيز . وأشار الطفل ـ الدمية إلى الطفلة الفقيرة ، وقال : هذه الطفلة صديقتي ، لا بيت لها ولا أهل .فمدت الجدة يديها الشائختان إلى الطفلة الفقيرة ، وضمتها إلى صدرها ، وهي تقول بصوت مرتعش : لا تقل هذا يا بنيّ ، هذا بيتها ، ونحن أهلها ، ستعيش معنا في هذا الكوخ ، وبدل أن يكون لنا ولد واحد ، سيكون لنا ولد وبنت كالقمر ، هيا ادخلا ، هيا . ودخلت الجدة ، ومعها دخلت الطفلة الفقيرة ، ومعهما دخل الطفل ـ الدمية ، وعلى الفور ، مدّ الجد يده المرتعشة ، وبفرح غامر أغلق بقوة باب الكوخ .
5 / 1 / 2019
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان البجعة
-
رواية للفتيان جبل الوعول
-
جزيرة كالوبيوك
-
رواية للفتيان هوفاك
-
رواية للفتيان الزرقاء رائية ديدان
-
رواية للفتيان الجاغوار سيلو
-
رواية للفتيان عينا نيال طلال حسن
-
رواية للفتيان البحث عن تيكي تيكيس الناس الصغار
-
رواية للفتيان سراب
-
رواية للفتيان جزيرة الحور
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة شبعاد
-
رواية للفتيان عزف على قيثارة
...
-
رواية للفتيان عين التنين
-
رواية للفتيان مملكة أعالي الجبال المتجلدة
-
مسرحية من ثلاثة فصول الطريق إلى دلمون
-
مسرحية من فصل واحد الثلوج
-
مسرحية من فصل واحد السعفة
-
مسرحية من فصل واحد
...
-
مسرحية من فصل واحد البروفة
-
مسرحية مونودراما الرعب والمطر
المزيد.....
-
من باريس إلى نيويورك.. أهم متاحف العالم تُطلق خططا تجديدية
-
جائزة الكتاب العربي تكرم الفائزين في دورتها الثانية
-
لغة الكتاب العربي.. مناقشات أكاديمية حول اللسان والفلسفة وال
...
-
عاصمة الثقافة الأوروبية 2025.. مدينة واحدة عبر دولتين فرّقته
...
-
تحذيرات من تأثير الشاشات على تطور اللغة والذكاء لدى الأطفال
...
-
الأطفال والقراءة.. مفتاح لبناء مجتمع معرفي متطور
-
هل تؤثر الشاشات على ذكاء طفلك؟.. كشف العلاقة بين وقت الشاشة
...
-
-سنجعله عظيما مرة أخرى-.. ترامب يعين نفسه رئيسا لمركز -جون ك
...
-
قناة RT العربية تعرض فيلم -الخنجر- عن الصداقة بين روسيا وسلط
...
-
مغامرة فنان أعاد إنشاء لوحات يابانية قديمة بالذكاء الاصطناعي
...
المزيد.....
-
أدركها النسيان
/ سناء شعلان
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
المزيد.....
|