|
أدب القضاة 11
خالص عزمي
الحوار المتمدن-العدد: 1697 - 2006 / 10 / 8 - 11:08
المحور:
الادب والفن
محمد السماوي
كان صديقي الاديب الصحفي الراحل مشكور الاسدي ؛ خريج كلية الآداب ـ جامعة الملك فؤاد ـ القاهرة فيما بعد ـ اديبا مرموقا وكاتبا صحفيا موهبا و موسوعة في المكتبات الخاصة والعامة ؛ فكنت الجأ اليه لمعرفة ما تكتنزه بعض المكتبات من مخطوطات وكتب نادرة احتاج الى بعضها كمصادر اعتمدها في بعض ما أكتب من دراسات وبحوث . وذات مرة .... تطرق بأسهاب الى مكتبة فريدة في النجف تعود للشيخ محمد السماوي ؛ واعتبرها من المكتبات ذات المستوى الرفيع فيما حوته من كنوز قل نظيرها بين المكتبات النجفية الخاصة على كثرتها وتنوعها ؛ ثم عرج على حياة السماوي ومؤلفاته ؛ وقام الى مكتبته فأعارني كتابا من كتب ذلك الشيخ الجليل بعنوان ( ظرافة الاحلام ) .
وذات مرة ؛ التقيت بالقاضي الاديب توفيق الفكيكي في مكتبة المثنى في في بغداد ؛ وقد أستفسر من صاحبها الكتبي المعروف قاسم الرجب ؛ فيما اذا كان قد أشترى مخطوطـــات او كتبا مما بيع من مكتبة الشيخ محمد السماوى بعد وفاته ؟ فأجاب بالسلب لعدم معرفته بما انتهى اليه امر البيع لذي تولاه الشيخ محمد الرشتي . ولما خرجنا من المكتبة توجهنا الى نقابة المحامين في بناية المحاكم القريبة من المكان ؛ فحدثني الفكيكي عن ذلك المحقق الشاعر والقاضي العالم النزيه ؛ والذي كان يضرب به المثل بالعلم والعدل والعفة والقدرة الخارقة على استنساخ عشرات المجلدات بخط رائق وهواية ملكت عليه كل حواسه ؛ فقد كان ينكب على الكتاب جمعا وخطا فينجزه باسرع وقت ؛ ليتفرغ الى غيره وهكذا ؛ بل واكثر من ذلك ؛ فقد كان يبحث في المصادر والمراجع المؤصلة عما يمكن ان يضيفه الى هذا الكتاب او ذاك من خلال ما يعثر عليه من مادة اثناء بحثه الدؤوب ؛ ومن ذلك ما اضافه الى مخطوطة ديوان ديك الجن من ابياته العلوية التي بلغت 156 بيتا سها عنها ناسخه. ولم يستطع الفكيكي ؛ ان يجزم بما آلت اليه تلك المكتبة الفريدة بعد رحيل الشيخ العلامة السماوي عام 1950 ؛ اذ لم تتح له الفرصة لمتابعة موضوعها من مصادر موثوقة . لقد دفعني كل ذلك الى مراجعة بعض المصادر الدقيقة التي سجلت له تقديرا مميزا لمسيرة حياته القضائية والادبية الخصبة كاضبارته الشخصية في وزارة العدل ؛ وبعضا من قراراته وآرائه الفقهية المنشورة في الصحف والمجلات المتخصصة ؛ ومجموعة من كتبه واشعاره وما كتب عنها او نشر منها ؛ فكانت المحصلة ما وددت تثبيته في هذه اللمحة عن مسيرة حياته الغنية بما يفيد القاريء.
في السماوة ؛ حيث مدينة الوركاء وأساطير ( أنو السموي ؛ والمعبودة الآلهة عشتار ) ؛ وملعب الحضارة السومرية بابعادها المذهلة في خط الحروف الاولى والزراعة وقهر النهر وغرف الملح .......في هذه المدينة التي تلفها العشائر العربية الاصيلة كبني حجيم ؛ وبني عارض ؛ والخزاعل ؛ وآل زياد ؛ والظوالم ؛ وبني زريج ؛ والبو حسان .... الخ ولد محمد طاهر الفضلي السماوي في بادية غرب نهر الفرات ؛حيث تعلم على يدي والده الشيخ طاهر وصفوة من رجال الدين واللغة بما كان يدرسه بعض اقرانه من دروس في حفظ اجزاء من القرآن الكريم ؛ والاملاء والخط وبعض مباديء الحساب ؛ فلما استكمل مراحل تعليمه الاولى ؛ الحقه والده بالدراسة العلمية بالنجف ؛ حيث مر بمراحلها المختلفة بدءا من دراسة السطوح ... الخ فلما استتبت له ناصية العلم راح يتنقل ما بين السماوة وسامراء والنجف مستزيدا من بحر الفقه ؛ ومفيدا غيره من ذلك الفضل العميم . وحينما ذاع صيته ؛ علما ونزاهة وكفاءة انتخب عضوا في مجلس ولاية بغداد عام 1913 .ولكن لما احتل الانكليز بغداد وسقط نظام الحكم العثماني فيها عام 1917 ؛ غادر الى النجف حيث اعتكف هناك وانكب على الكتب ينهل منها ويمنح طالبي المعرفة كل ما تيسر له منها حتى عام 1921حيث عين قاضيا للنجف وبقي في منصبه هذا ثلاث سنوات ؛ نقل بعدها الى ذات منصبه في كربلاء فلم يبق هناك الا عاما واحدا ؛ حيث نقل لكفائته ونزاهتهكما ذكرنا من قبل ؛ الى بغداد ؛ليسجل هناك صفحة مشرفة للقضاء بحسن الاداء ودقة وعدالة القرارات وبقي في بغداد حتى عام 1934؛ اعيد بعدها الى النجف ليحال على التقاعد عام 1935 لبلوغه الستين من العمروقيل ان وراء ذلك الامر كان السيد محمد الصدر بحجة ما تداولته المجالس الادبية من قول الشاعر السيد محمد على اليعقوبي بيتيه الشهيرين : قل للسماوي الذي فلك القضاء به يدور الناس تضربها الذيول وانت تضربك الصدور .وفي عام 1949 انتخب عضوا مراسلا للمجمع العلمي العراقي على عهد رئيسه العميد منير القاضي فسر بذلك الانتخاب سرورا بالغا واعتبره تكريما لايقدر بثمن بخاصة وان هذه المبادرة تمت في وقت كان فيه رئيس الوزراء السيد محمد الصدر ذاته ؛ مما دحض تلك الاشاعة من أساسها .
توزعت اهتمامات الشيخ السماوي في نتاجه الثقافي الضخم ؛ على اربعة محاور أساسية هي ؛ الفقه ؛ والتأليف الابداعي ؛ والشعر ؛وتحقيق بعض كتب التراث . ومن هذه النتاجات ما كتب له النشر ؛ والاخر ما ترك مخطوطا في خزانة الاسرة بعد رحيله . فمن المنشور والمتداول ؛ما كان اكثره في عام 1941؛ وهو : ظرافة الاحلام ؛ تاريخ المعصومين ؛ مجالي اللطف بأرض الطف وهي ارجوزة شعرية وصف فيها عشرين مرقدا ومقاما في مواقعها التأريخية , شرح قصيدة الفرزدق العلوية؛ وشائج السراء في شأن سامراء ... وفي عام 1961 طبع له كتابه التأريخي موجز تواريخ أهل البيت ؛وقد ذكرالقاضي والأديب الكبير احمد حامد الصراف ؛ انه اطلع عل كتب للسماوي منشورة في بداية القرن العشرين تدور في ذات المواضيع التراثية المار ذكرها ولكن لم يسمها لي . ولكن بنتيجة استقصائي وجدت انها (شجرة الرياض في مدح النبي الفياض ؛ وثمرة الشجرة في مدح العترة المطهرة ؛ وابصار العين في أنصار الحسين ...) اما آثاره في التحقيق فيتصدرها كتابه المدهش في علوم القرآن ( لابن الجوزي ) عام 1930؛ ومقتل الحسين ( للموفق للخوارزمي ) عام 1948 ؛ كما ترك في الشعر نتاجا ضخما تناقلته الصحف الادبية ومنها الهاتف النجفية للروائي الصحفي المعروف المرحوم جعفر الخليلي ؛ اضافة الى الاراجيز الكثر ومنها ( قرط السمع ) التي ظلت مخطوطة حتى وفانه . واذا ما انتقلنا الى ارائه واجتهاداته الفقهية وقراراته القضائية ؛ فقد أكد لي القاضي محمد امين كمونه رئيسنا في مجلس التدوين القانوني ( مجلس شورى الدولة حاليا ) يوم كنت عضوا فيه في السبعينات من القرن الماضي ؛ ان السماوي كان حريصا على تدوين نسخة ثانية من جميع آرائه الفقهية وقراراته القضائية بخط يده الجميل وتجليدها وحفظها في مكتبته ؛ ولا بد ان هناك عدة مجلدات منها لكثرة ما طرح من آراء من جهة ؛ ولكثرة القرارات القضائية التي اصدرها مدة توليه القضاء في النجف وكربلاء وبغداد وعضوية التمييز الشرعي .
عرف السماوي ؛ بحافظته الواسعة ؛ وتدفقه الفياض ؛ بخاصة في الكتب والمخطوطات ودواوين الشعر ؛ ويذكر عنه ؛ انه كان يحضر مجالس الادب ؛ فلا يكاد يطرح احد الحاضرين سؤالا عن كتاب ما ؛ حتى تراه يجيب عنه باسهاب محددا عدد صفحات ؛ وسنة كتابته و تاريخ نشره ؛ بل وحتى المطبعة التي تولته ؛ ثم ينتقل الى مؤلفه فيعطي المستمع تفاصيل عن حياته وما ترك من نتاج ... ومن شغفه بالكتب ؛ انه كان يستنسخ بخطه المتقن الجميل كثيرا من الكتب والمخطوطات ؛ ثم يقوم بتجليدها بنفسه على احسن وجه ويقدمها الى الباحثين وطلاب المعرفة اأوالى المكتبات العامة والخاصة التي كانت تتلهف على الاحتفاظ بها ؛ ولعل ما ذكره علامة النحو الشيخ جعفر الكرباسي في اكثر من مناسبة من افادته القصوى من مراجع ومصادر مكتبة الشيخ السماوي خير دليل على اهمية كنوز تلك المكتبة المتميزة . ولقد حدثني الشاعر صادق القاموسي ؛ صاحب المكتبة العصرية ؛والذي كان على معرفة تامة بمكتبة الشيخ السماوي فقال ( ما زرته مرة في مكتبته العامرة الا ووجدت حوله طلاب علم من من الموصل شمالا حتىالقرنة جنوبا ؛ يرعى الجميع ويمدهم بما يحتاجون اليه من صائب رأي ؛ او مرجع بحث مطبوع ؛ او مصدر تراث مخطوط .) لكل هذا وذاك فان جمعه وخطه لكثير من الكتب المعتبرة ؛(كالعمل بالاسطرلاب ؛ لعلي بن عيسى الاسطرلابي ؛ والبيان في تفسير القرآن للطوسي .... الخ ) او لدواوين شعر (العبدي ؛ والخطي ؛ والحداد ؛ والهرثي ؛ والناشيء الصغير ؛ ونجف ؛ وديك الجن الحمصي ... الخ ) انما هي ادلة اخرى ــ وغيرها كثير ــ على اهتماماه بنفائس الكتب الثمينة والحفاظ عليها والعناية بها وكأنها من فلذات كبده .. أما شعر السماوي فتغلب عليه صفة النظم الذي عرف به اقرانه ؛ وتبدو أساليب الصنعة ( كالجناس والطباق والاستعارة ... الخ ) واضحة في جل ما كتب ؛ كما كانت مواضيع المدح والثناء والرثاء والوصف المكرر والمعارضات والمطارحات هي السمة الغالبةعلى ذلك النظم ؛ وقد يتصور الكثيرون ان نظما من هذا الطراز لا بد وان يتجنب الغزل مثلا ؛ على انني وجدت في كثير من مطالع وافتتاحيات قصائده غزلا رقيقا عفا على طريقة شعر الاقدمين ؛ بل والمحدثين ايضا ومنهم الشاعر الكبير المجاهد السيد محمد سعيد الحبوبي ؛لذا فالسماوي في هذا اللون يدلل ايضا ؛ على قدرة ابداعية في الخيال الشعري وحسن السبك وقوة التعبير كقوله من قصيدة له : فديتك قدشربت بماء وجهي رضاك فما رضيت وما قبلت أتيتك أشتكي فصفحت عني كأنك ما رأيت وما سمعت تقولين السلو به حقيق عفا الرحمن عنك لقد ظلمت سلوي مثل وصلك مستحيل فان أسلو؛ ـ ولن أسلو ـ وصلت
او قوله في قصيدة اخرى : بسمت زهوا بشتيت اللمى فأي شمل لم تدعه شتات تقوّل الناس بتحقيقــــه والله قد انبت ذاك النبات
وقد كان السماوي مجودا في النثر ؛ وبخاصة ما يتعلق في التحليل والتدليل والاستقراء في مواضيع التراث والتحقيق ؛ ونظرة واحدة على ما ترك من مؤلفات مطبوعة او مخطوطة ؛ ستكفي للتدليل على باعه الطويل في المجالات التي تطرق اليها بكفاءة ومقدرة وأصالة في البحث ؛ ومنها المثال الذي اسوقه هنا في بحثه الاستنباطي الذي اجتزأه من كتابه ( ظرافة الاحلام ) الذي أشرت اليه في بداية المقال ؛ والذي تحدث فيه عن علاقة قوة الايمان بما جاء بالقصص والامثلة والاحاديث التي حفلت بها كتب التحقيق والتفسير ... الخ ومنها ما يتعلق بسفينة نوح وغرقها ونجاة فئة من ركابها دون غيرهم حيث يقول ( فحديث السفينة ؛ وأختلاف الامة ؛ وكون فرقة ناجية من مجموع هذه الفرق ؛ وتداول المسلمين هذه الاحاديث النبوية الشريفة بينهم ــ حتى في اغلب مجالسهم الخاصة ــ ليدل دلالة واضحة على لزوم تحديد المسلم موقفه عقلا وشرع .).
لقد كان السماوي شخصية جليلة القدر ؛ عالية الهمة ؛ نزيه اليد عف اللسان ؛ فضل العلم والادب على كل ما صادفه من مظاهر الحياة ؛ فكان له ذلك القدح المعلى والمكانة المرموقة التي سجلتها له صفحة التاريخ .
#خالص_عزمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
موسيقى أفلام المقاومة ورحيل الموسيقار أرنولد
-
أيها الخفاق في مسرى الهوى
-
ناتاشا كمبوش وأطفال العراق
-
لقائي الاول مع نجيب محفوظ
-
أدب القضاة 10
-
وردة الغربة على قبر البياتي
-
عزف لبناني منفرد
-
أدب القضاة 9
-
فما لك غير لبنان وتشفى
-
الجواهري في الذكرى التاسعة لرحيله شهادة وذكريات 4 4
-
الجواهري في الذكرى التاسعة لرحيله شهادة وذكريات 3 - 4
-
الجواهري في الذكرى التاسعة لرحيله 2 4 شهادة وذكريات
-
الجواهري في الذكرى التاسعة لرحيله شهادة وذكريات 1 4
-
عبير
-
المقدمات 3
-
الاهم : دولة حديثة معاصرة
-
أدب القضاة 8
-
هدى على شاطيء غزة
-
اثر المكان العراقي في ثقافتي العامة
-
حديثة وما قبلها .... وما بعدها
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|