أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالرزاق دحنون - حسيب كيالي وعالم العتالين















المزيد.....

حسيب كيالي وعالم العتالين


عبدالرزاق دحنون
كاتب وباحث سوري


الحوار المتمدن-العدد: 7447 - 2022 / 11 / 29 - 20:36
المحور: الادب والفن
    


ما أصعبِك يا عيشةِ العتّال
‏عامود ضهري مْتختَخ ومِهري
وْما أصعبِك يا مَوْتةِ العتّال
‏خايف بعد ما موت من قَهري
يْقولوا : منِ التابوت قوم انْزال
‏تا إحمل التابوت عا ضَهري
الشاعر اللبناني إبراهيم شحرور

في أوائل العقد السابع من القرن العشرين، كنتُ ألمح على الدروب نساء الريف القادمات من القرى القريبة من مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية، وهن يحملن طناجر لبن الغنم (الزبادي)، والمصنوعة من الخشب قبل استعمال طناجر الألمنيوم. وكنت أتعجب من توازنها على رؤوسهن أشدّ العجب. ولكن أدركتُ بعد حين، أنهن يستعملن الحيلة في صنع هذا التوازن، يصنعن ما نسميه كارة أو كعكة من قماش، يضعنها على أمّ رؤوسهن تحت الطنجرة ليتوازن حملهن الثقيل. تسير ابنة الريف عدّة كيلومترات منتصبة القامة، مرفوعة الرأس، مشدودة الصدر، واثقة الخطوة، رشيقة، شامخة، تمشي كأنها تتريّض. هل تتعب من حملها الثقيل هذا؟ أكيد تتعب! ولكنها تتجمّل بالصبر لتصل إلى وجهتها في سوق الهال.

كنتُ مفتونًا دائماً بالعتالين على اختلاف أحمالهم. وقد تعاملتُ في حياتي مع الكثيرين منهم، فوجدتهم من أظرف الناس وأمرحهم، نعم يأكلون خبزهم من عرق جبينهم، ويرضون من مباهج الحياة بالقليل. وفي نهاية نهارهم يحملون إلى منازلهم أكياساً فيها أرزاقهم من أجرة عملهم، هم يعيشون من أجرهم اليومي الذي يتفاوت بين يوم سعيد وآخر نحس، ورزقهم على ربِّ العباد. وهنا تخطر في بالي أغنية جميلة من عمل بديع خيري وسيد درويش عن العتالين التي يقول مطلعها:

شِدّ الحزام على وِسْطَك غيرُه ما يفيدك
لا بد من يوم بَرْضُه ويعدِّلها سيدك
إن كان شِيل الحمولة على ظهرك يِكيدك
أَهْوَن عليك يا حر من مدِّة إيدَك

أغنية شد الحزام:
https://www.youtube.com/watch?v=Wr_phAuVJMk

هل يمكننا أن نعدّ هؤلاء الكادحين ضمن جموع "البروليتاريا" في علوم الاقتصاد السياسي؟ لا بد في هذا الشأن من العودة إلى المفكر والفيلسوف كارل ماركس في كتابه الأشهر رأس المال. ولا عجب في هذا المقام، أن تجد أنّ الأديب حسيب كيالي، ابن مفتي بلدة إدلب في تلك الأيام زهدي كيالي، كان مفتوناً بمشاهد العتالين وتصويرهم في رواياته ومسرحياته وقصصه ومقالاته. نعم، العتالون في أدب حسيب كيالي ظاهرة اجتماعية لافتة. ما سرُّ هذا الحب الذي يكنه لهم حتى يأخذوا هذا الحيّز الواسع من أدبه؟

من ذا الذي أصدر حكمه بجعل هذا الإنسان عتالاً أبدياً يبدّد حياته في حمل أكياس مربوطة، مغلقة، لا يدري ما فيها؟ أجل، نحن عتالون، نحمل الماضي والحاضر والمستقبل. نحمل الأمنيات الميتة والأحلام السعيدة في كيس واحد (مع علمنا أن ذيل السعادة أملس) ونلهث، من المهد إلى اللحد، لهاثاً كسيحاً، عاجزاً لا طائل تحته. أنا مثلاً عتال تفاهة وأحزان صغيرة وخيبات، أحزمها وأضعها في كلمات تنتظم في مقالات، أظنّها ستُغيّر العالم، نعم، أُحاول ملكاً ضائعاً، وأترحّم على الملك الضليل.

لماذا نحكي قصص العتالين؟ ولماذا نستمع إليها؟ على مدار العصور تأمّل الكثيرون منّا في هذه المسألة التي لها صلة وثيقة بعملية النقل؛ أليس النقل مسألة مرتبطة بحمل البضائع؟ ألا يرغب العتالون في شيء سوى التخلّص من الحمولة ومن الثقل والعبء الذي يرزحون تحته؟ سأحاول أن أثير هذه المسألة مع الأديب السوري حسيب كيالي، والذي حين يذكرهم يخفض لهم جناح الذّل من الرحمة، ويهتف من قلب موجوع: ربي ارحمهم في دنياهم وخفّف عنهم في آخرتهم يا أرحم الراحمين.

عتّالون يحتمون بالصبر ويحتملون جور الوجع الذي يسري في مفاصل أجسامهم. نعم، عتالون هنا في إدلب، المدينة التي ولد فيها حسيب كيالي عام 1921، عتالون في سوق الخانات، خان الرز وخان الشحاذين، وساحة البازار عند بير الشهيد على كتف التلة الغربية. يحمل الواحد منهم أكثر من مئة كيس حنطة أو شعير أو جلبان كلَّ يوم ولا يقول: آخ يا ظهري. بينما تكسر ظهره امرأة جميلة مرّت مرور الكرام في الطريق، على حدِّ تعبير حسيب كيالي في إحدى قصصه.

تعال معي إلى مجموعته القصصية "الحضور في أكثر من مكان"، والصادرة في دمشق عام 1979 حيث يفتتحها بقصة العتالين، يحكي فيها عن عتّال هزيل الجسم، مرقوع الثوب، يحمل في يده حبلاً يساعده في حمل طاولة ضخمة إلى مبنى الوزارة الجديد. يسأله الموظف:
- أين رفيقكَ؟
- سيدي أنا مالي رفيق. أنا وحدي.
- رأيت الطاولة؟
- رأيتها سيدي.
- ثقيلة جداً يا أخي. كيف تحملها وحدك؟
- بعين الله سيدي. أنا أحملها وأخليك تشوف بعينك.
- ولكنها ثقيلة.
- يهونها الله. أنا حملت أكبر منها بكثير سيدي.

وبدا أنّ التحيّر انتقلت عدواه إلى الموظف. امتلأت نفسه كآبة وقال في نفسه: "والله يا ابني ثقيلة. يا أخي، والله أخاف أن تتقصّف تحتها مثل العود اليابس. يا قلبي، لماذا لا تصحب رفيقاً يُعاونك؟". قال للعتال شارداً:
- ثقيلة جداً.
- سيدي، بلا معلميّة على جنابك، هذي شغلتنا. نحن طول النهار نحمل، ونحمل.
قال موظف الوزارة في شبه همس:
- صحيح!

من الملاحظ أنّ حسيب كيالي خلّص السرد في رواياته وقصصه ومسرحياته، وحتى في مقالاته، من "رطانة" كانت تُعيق انطلاقه في رحاب الحياة اليومية بناسها البسطاء، أصحاب الوجدان والقيم العالية والفطنة والظرف... بلغتهم الماهرة الحاذقة. وهكذا يُصبح القصّ عيشاً مع الناس. وقد أفلح حسيب كيالي في أن يكون مع الناس، لذلك نجد أن أول مجموعاته القصصية الصادرة في بيروت عام 1952 كانت تحت عنوان: "مع الناس".

حياته وأعماله

ولد الأديب السوري حسيب كيالي في مدينة إدلب في الشمال الغربي من سورية عام 1921 وتوفي في دبي ودُفن فيها صيف عام 1993. تلقى تعليمه الابتدائي في إدلب، حصل على الثانوية العامة من مدارس حلب 1944، ودخل معهد الحقوق العربي بدمشق، وتخرج بإجازة في الحقوق 1947. عمل في الترجمة والصحافة والإذاعة. أبدع في القصة والرواية والمسرحية، إلى جانب إبداعه الشعري، ونشر أولى قصصه عام 1945. ويعد مثالاً للتجديد في القصة القصيرة، حيث كان يتابع تفاصيل الحياة اليومية الصغيرة بحثاً عن الجانب الإنساني الملحمي في حياة الناس.
من أهم مؤلفاته:
مع الناس، أخبار من البلد، مكاتيب الغرام، الناسك والحصاد، أجراس البنفسج الصغيرة، رحلة جدارية، حكاية بسيطة، المهر زاهد، تلك الأيام، مسرحيات في خدمة الشعب، مسرحيات ماذا يقول الماء ؟، الحضور في أكثر من مكان، المارد، قصة الأشكال، من حكايات ابن العم، نعيمة زعفران.

عن حسيب كيالي:
https://www.youtube.com/watch?v=HEZoXODdgag&t=20s



#عبدالرزاق_دحنون (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آخر أيامك يا مشمش
- شرط أن تكون رئيس دولة
- دبلوماسي ينشق عن الكرملين
- زعيم الحزب الشيوعي الصيني
- في رحيل عادل حبة
- طريق أوكرانيا إلى النصر
- رسالة مفتوحة إلى الرفيق توفيق كناعنة
- سجن جورين لـ-الاستعباد الجنسي- في سورية
- شي جين بينغ
- في وداع ميخائيل غورباتشوف
- العودة إلى فزَّاعة الطابور الخامس
- فيلسوف المعرَّة المعبِّر الأمثل عن منحى التنوير في الإسلام
- فلاديمير بوتين والرقص مع الذئاب
- مشاعيَّة الماركسيَّة
- رأيٌ يصبُ في أهوار العراق
- هل كان رحيل بوريس جونسون دستورياً؟
- هل يستطيع بوتين البقاء على قيد الحياة؟
- وما الحَربُ إِلاَّ ما علمتم وذقتم
- رسالة إلى الموت لم تكتبها شيرين أبو عاقلة
- حديث مع وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن


المزيد.....




- سنو وايت، فيلم أشعلت بطلته الجدل، ما القصة؟
- بجودة عالية..استقبال تردد قناة روتانا سينما على النايل سات و ...
- أجمل عبارات تهنئة عيد الفطر مكتوبة 2025 في الوطن العربي “بال ...
- عبارات تهنئة عيد الفطر بالانجليزي مترجمة للعربية 2025 “أرسله ...
- رحلات سينمائية.. كيف تُحول أفلام السفر إجازتك إلى مغامرة؟
- وفاة -شرير- فيلم جيمس بوند -الماس للأبد-
- الفنان -الصغير- إنزو يحسم -ديربي مدريد- بلمسة سحرية على طريق ...
- بعد انتقادات من الأعضاء.. الأكاديمية تعتذر للمخرج الفلسطيني ...
- “الحلم في بطن الحوت -جديد الوزير المغربي السابق سعد العلمي
- المدرسة النحوية مؤسسة أوقفها أمير مملوكي لتدريس علوم اللغة ا ...


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالرزاق دحنون - حسيب كيالي وعالم العتالين