|
العقل بين الأرض والسماء
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7445 - 2022 / 11 / 27 - 11:48
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ذكر محمد عابد الجابري في كتابه "تكوين العقل العربي" أن كلمة "عقل" لم تورد مطلقا ولو مرة واحدة في القرآن بصيغة الإسم، رغم أنها وردت مرات عديدة بصيغة الفعل لتشير للتمييز أو لعدم التمييز بين الحق والباطل وبين الخير والشر وما هو صالح أو غير صالح .. "ومن هنا يمكن القول أن "العقل" في التصور الذي تنقله اللغة العربية المعجمية يرتبط دوما بالذات وحالاتها الوجدانية وأحكامها القيمية. فهو في نفس الوقت عقل وقلب، وفكر ووجدان، وتأمل وعبرة.. أما في التصور الذي تنقله اللغات الأوربية فالعقل مرتبط دوما بالموضوع، فهو إما نظام الوجود، وإما إدراك هذا النظام، أو القوة المدركة." ويستنتج الجابري من هذا التمايز اللغوي بين العقلين، أن العقل العربي تحكمه النظرة المعيارية للأشياء أي "ذلك الإتجاه في التفكير الذي يبحث للأشياء عن مكانها وموقعها في منظومة القيم التي يتخذها ذلك التفكير مرجعا له ومرتكزا". وهو ما يشبه التأكيد على هذه المفارقة الصورية بين الذات والموضوع أو بين العقل المنكفيء على نفسه والعقل المتجه إلى الطبيعة في الخارج كما حددها توفيق الحكيم في روايته عصفور من الشرق، "الغرب يستكشف الأرض، والشرق يستكشف السماء"، حيث السماء تصبح إلها يمثل هذه الذات المحاصرة التي استحوذ عليها الله وأصبحت تمثله وتتكلم بإسمه. وقد حاول محمد عابد الجابري صياغة هذه النظرة الثنائية في كتابه "تكوين العقل العربي" صياغة جديدة، من وجهة نظر ابستيمولوجية أو معرفية، "إذا صح تكثيف العلاقات داخل العقل اليوناني ـ الأوربي حول قطبين اثنين، هما الإنسان والطبيعة، فقد يصح تكثيف العلاقات داخل العقل العربي ـ الإسلامي حول قطبين إثنين أيضا، هما الإنسان والله". ورغم أنه يجب أخذ هذه المفاهيم المجردة بحذر شديد، إلا أن هذه الإضاءة قد تساعدنا على رؤية الصورة العامة، وجعلها أقل عتمة ولو مؤقتا، وتمكننا من فهم الواقع الديني والروحي الذي يهيمن على المجتمعات العربية الإسلامية من جهة، والواقع التكنولوجي الذي يطغى على مجتمعات الغرب الصناعي الديمقراطي. فرغم أن فكرة الله، أو الخالق، أو الموجود المتعالي، هي فكرة تسيطر على كل الحياة الروحية والفكرية في كلا الواقعين المذكورين، فإن الإله اليوناني القديم كان أيضا نتاجا للطبيعة، مصدر كل الآلهة اليونانية القديمة، والتي خلقت من الفراغ الكوني، والذي تشكل من عنصرين هما النور والظلمة، ومن التقائهما ولدت كل الآلهة التي تخيلها اليونانيون على صورة المواطن اليوناني ذاته، تأكل وتشرب وتمارس الحب، تولد وتموت وتحب وتكره، وتجتمع في حفلات صاخبة في سماء أثينا. ومن الواضح أن الطبيعة هي الأساس والمصدر الرئيسي في خصوبة وغنى القبائل الإلهية المتعددة، والتي تسكن السماء والأرض والبحر والجبال والمغارات والكهوف اليونانية. ومن الواضح أيضا أن الإنسان في مواجهة الطبيعة يكتشف قدرته على التعامل مع الظواهر الطبيعية، أو على الأقل فهمها واستـئناسها، وليس له في مواجهة هذه الظواهر الخارقة سوى العقل من أجل تفسيرها، والمجهود العضلي من أجل تغييرها، والله هو أحد هذه الوسائل للسيطرة على الأغلبية الساحقة من البشر بواسطة رجال الدين والمؤسسات الدينية. علاقة عملية وفعلية تتطلب من الإنسان مجهودا عقليا وعضليا من أجل فهمها أولا،ً ومحاولة السيطرة عليها وترويضها لتعمل لصالحه ثانياً. ومن ناحية أخرى، نجد أن العلاقة بين الإنسان والله في المجتمع العربي الإسلامي، هي علاقة ذات طبيعة مغايرة، فهي علاقة سجود واستسلام وتأمل وعبادة. علاقة ستاتيكية روحية لا تتطلب الحركة أو المجهود العضلي الذي يحتاج إلى طاقة خارجية. والأداة التي يتعامل بها الإنسان في علاقته مع الطبيعة هي جسده، كوحدة طاقة تمكنه من تكسير الحجارة، وحفر الأرض، وزراعة السهول، وتحويل مجاري الأنهار والبناء والتشييد. وبواسطة الطاقة الجسدية والعقلية، تمكن من صناعة أدوات جديدة ساعدته على تنمية قدراته الذاتية، وطاقاته الأساسية. بينما للتعامل مع الله، فالإنسان ليس له سوى أداة وحيدة ـ اللغة. وكل المحللين من العرب والعجم الذين حاولوا تحليل الحضارة العربية والإسلامية، لم يفطنوا إلى هذه الأداة الغريبة التي مكنت العرب من اكتشاف الله والملائكة، ووصفه وعبادته وتسميته بتسعة وتسعين إسما. وقد بقيت هذه اللغة ملتصقة بجلود العرب لتشكل هويتهم الأساسية، ووسيلتهم القصوى، وسلاحهم الوحيد للتعامل مع العالم والطبيعة. على أساس أن هذه اللغة إذا كانت مناسبة وفعالة للتعامل مع عالم الغيب، فإنها كفيلة للتعامل أيضا مع عالم المادة. اللغة في عالم الفكر الغيبي تتخذ أشكالا مقدسة عديدة، فاللغة تغني عن الفعل وتصبح الكلمة "فعلا" له حقيقته الواقعية وآثاره الإجتماعية. غير أن هذا لا يعدو أن يكون ميراثا ثقافيا اهتم به العرب ويشكل نوعا من الشخصية العربية ولكنه لا يؤثر حقيقة في نهوض الفكر أو نكوصه بطريقة مباشرة، لأن لغة الشعر أو اللغة الشعرية متواجدة بدورها في الثقافات الأخرى وليست حكرا على العرب أو المسلمين. وكذلك النظرة التقييمية أو المعيارية لا يمكن أن تكون مقياسا وحيدا لتحديد طبيعة العقل عربيا كان أو من أي مكان آخر، لأن النظرة "الأخلاقية" نظرة مصاحبة وموازية وأحيانا مصدرا وأساسا لكل الثقافات وهي جزء لا يتجزأ من المنظومة الفكرية لجميع المجتمعات، وما هي إلا حقل من الحقول الفكرية العديدة التي قد تتفاوت درجة أهميته من مجتمع لآخر ومن زمن لآخر، ولكنه لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون إختزالا لمقولة العقل والتعبير عن طبيعته في أي مجتمع. وبما أنه لا توجد طبيعة مسبقة ووحيدة للعقل، فإنه أيضا من المستحيل تقبل هذه الثنائية التي كثيرا ما نراها عند المثقفين العرب "هنا في الثقافة العربية الإسلامية يطلب من العقل أن يتأمل الطبيعة ليتوصل إلى خالقها: الله. وهناك في الثقافة اليونانية - الأوروبية يتخذ العقل من الله وسيلة لفهم الطبيعة أو على الأقل ضامنا لصحة فهمه لها" إن المثال الذي ذكرناه سابقا والمتعلق بالنمل الأبيض الذي أكل مخطوطة القرآن دون أن يأكل الكلمات، يمكن أن يكون دليلا على مقولة الجابري هذه، حيث أن المسلم الهندي عند تأمله للمخطوطة وكيف أكلها النمل استنتج فورا قوة الله وإرادته، وحتى لو افترضنا قيامه بدراسة علمية دقيقة في المعمل فإنه بإمكانه الوصول إلى النتيجة ذاتها "سبحان الله"، ولكنه في الوقت ذاته، المقولة المقابلة قد تنطبق أيضا وعلى نفس المثال. حيث العقل يتخذ من الله وسيلة لفهم ما حدث للمخطوطة ولماذا النمل الأبيض لم يأكل الأجزاء المكتوبة وكلمة "سبحان الله" تأتي كختم الضمان لهذا الفهم. وهكذا نرى أنه من المستحيل تقبل هذا الشرخ في العقل وتطويعه ليتلائم مع كل مجتمع وثقافة، فليس هناك عقل عربي وعقل أوروبي وليس هناك عقل مسلم وعقل مسيحي، هناك عقل واحد مطلق يدرك بواسطته الإنسان بأنه إنسان وعليه أن يحيا في هذا العالم وفي هذه الطبيعة ومع هؤلاء البشر الذين يزاحمونه على كسرة الخبز. وحتى فيما يخص الفكر الغيبي، فإن تناقضه مع الفكر العقلي قد لا يبدو إلا تناقضا سطحيا أو ربما "تناقض ثقافي" وليس له أهمية جوهرية في عملية التفكير وبناء المفاهيم والتصورات. فالكثير من علماء الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة والرياضيات والجراحين والأطباء وعلماء الذرة لا يجدون أي تناقض بين معارفهم وعلومهم ومناهجهم العقلية وبين الإيمان بخرافات التوراة والإنجيل والقرآن وبكل التصورات الميتافيزيقية التي تشكل السور الذي أحاط العقل الغيبي به نفسه لحمايته من رعب الحرية. يبدو وكأن التقدم أو التخلف العلمي والتكنولوجي والإجتماعي والسياسي والإقتصادي لا علاقة له مباشرة بكون العقل غيبيا أم عقلا حرا يتجاوز الأسوار الميتافيزيقية ويهيم في عدم الكينونة. إن تشخيص الأزمة أو المحنة أو الكارثة التي تمر بها المجتمعات المتخلفة أدى بالكثير من المحللين السياسيين والمثقفين عامة إلى القول بأن الفكر الديني هو أحد أهم أسباب التخلف العلمي والتقني ومصدر الفقر والتعاسة الفكرية التي تعاني منها هذه المجتمعات. ونرى أن هذا التشخيص لمسببات الأزمة يحتاج إلى إعادة النظر لعدة أسباب، منها أن المجتمعات المتقدمة إقتصاديا وتقنيا مثل أمريكا وأوروبا واليابان وكندا وإسرائيل هي مجتمعات دينية بالدرجة الأولى، ويلعب فيها الدين دورا شديد الأهمية على المستوى الفكري والعملي ويساهم في دفع هذه المجتمعات نحو تكوين هويات مغلقة قوية وعنيفة يفتخرون بها في مواجهة الآخر. والسبب الثاني هو أن التقدم العلمي والتكنولوجي وحده ليس معيارا لقياس حدود العقل وإمكانياته والمسافة التي قطعها وراء الأسوار. ولاشك في أنه في حالة افتراض الفكر الديني كسبب للتخلف، فلابد لنا من افتراض النقيض الدياليكتيكي القائل بأن التخلف هو سبب إنتشار الفكر الديني، وهكذا نعود إلى نقطة البداية، وندور في نفس الحلقة المفرغة التي لم نستطع الخروج منها منذ عدة قرون.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإله البارد
-
الوجود بين الواقع والخيال
-
الإله اللامنتمي
-
تعايش العلم والخرافة
-
المثلية وحقوق الإنسان
-
مفارقة العقل والإيمان
-
النمل وكلام الله
-
الكلمات والكائنات
-
القرآن .. بين القراءة والفهم
-
-الحجر- بين العلم والفلسفة
-
الإنسان الآلي
-
الإنسان جسد أم جثة ؟
-
الإنسان بين المادة وال-الروح-
-
صمت الحروف
-
العدم والتجلي
-
عبادة العقل المتطرف
-
الكاثارسيس والفن كمطهّر إجتماعي
-
نشوة الفن ونشوة النبيذ
-
سياسة أوروبا العنصرية
-
الإله المجنون
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|