أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جعفر المظفر - ثقافة لحظة المغادرة وثقافة لحظة الانبهار














المزيد.....

ثقافة لحظة المغادرة وثقافة لحظة الانبهار


جعفر المظفر

الحوار المتمدن-العدد: 7432 - 2022 / 11 / 14 - 16:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


أولئك الذين هاجروا من العراق وظلوا بعيدين عنه لفترة طويلة قد يكونوا أسرى لثقافةٍ أسميتها سابقاً (ثقافة لحظة المغادرة).
كان السيد (س) قد غادر العراق هرباً من جحيم الحروب والحصار والإحتلال وأيضاً سنوات العصف الطائفي يوم كان القتل يجري على الهوية ويوم صار البقاء على قيد الحياة هو الإستثناء وليس القاعدة. وفي مهجره ظل الرجل حبيس اللحظة التي غادر بها العراق غير قادرٍ على نسيان ما رآه أو عايشه فهولا يلتقي سوى برجال من نفس الطائفة, يأكل ويعمل معهم ويتداخل إجتماعياً ويصلي معهم في نفس الجامع أو الحسينية.
بعد مغادرته العراق بعدة سنين اجتاز الناس المحنة الطائفية المرعبة التي عصفت بالبلد والتي دفعته للهجرة. وجد العراقيون فرص التنفس من جديد من خارج حلبة الصراع والمواجهات الطائفية التي كانت تغذيها أحزاب الدين السياسي قبل وصول هذه الأحزاب إلى تحاصصها المُرْضي والمَرَضي.
أما السيد (س) فقد ظل في مهجره الطائفي يعيش (ثقافة لحظة المغادرة). لقد تشكل وعيه ولا وعيه وذاته الشخصية والجمعية من خلال حالة صراع طائفي دامي, وفي مهجره حمل السيد (س) معه أيضاً حشداً من المشاهد التي تؤكد له أن العراق قد دخل مرحلته السريرية البائسة نتيجة تفشي الفساد والسرقة والرشوة والانهيار الاجتماعي والقيمي والبطالة والفقر والعوز ثم انعدمت فيه كل فرص التغيير بعد أن تمزقت وتعطلت الإرادة الشعبية وجرى تغييب المؤسسة العسكرية التي عادة ما كان يخرج من بين صفوفها عسكريو البيان رقم واحد.
ولم يعد السيد (س) قادراً على تصور العراق إلا بهيئة البلد الذي يعيش آخر أيامه وغالباً ما كان يشارك اصحابه القول: ما كو فايدة ! فالعراق في نظرهم قد بات بحكم الميت سريرياً, وقد كان يكفيه تصفح الصور التي تعرض مآلات شارع الرشيد, رئيس شوارع العراق, لكي تنطبع في ذهن (س) ما يؤكد له على ان ذلك الشارع الذي ظل طوال عمره يقطعه يومياً بلا ملل قد صار مكباً للزبالة. وقد عادت الناس إلى عصر الشمعة والفانوس, أما مدنه فقد خرّبت معظمها الحروب المتناوبة, وصار البلد على ابواب الحرب الأهلية, وقد خضعت ثروته النفطية بشكل اساسي للنهب والسرقة. وبالنتيجة لم يعد العراق في نظره سوى خرابة تلعب فيها الضباع والغربان.
بعد عقدين من الزمن, ولسبب ما, قرر (س) أن يقوم بزيارة سريعة إلى العراق طالباً من اصدقائه الدعاء له بسلامة العودة وأن يبرؤه الذمة. لكن ومنذ اللحظة الأولى التي وطأت أقدامه مدينة بغداد, التي تركها مخربةٌ يعبث فيها اللصوص وأدعياء الدين وعصابات القتل على الهوية, فقد خطفت أنظاره صور مدينة غير تلك التي إحتلت ذاكرته طوال زمن الغربة.
ها هي بغداد تتزين بألوان اللافتات الضوئية لمحلات تجارية تمتد على طول البصر وبينما كان الناس في زمنه يغادرون تلك الشوارع قبل غروب الشمس وكأنهم يهربون من شبح (فرانكشتاين) رأهم يظلون في تلك الشوارع حتى ساعة متأخرة جداً من الليل. والنساء اللواتي كُنّ على أبواب الدخول في عصرهن (القندهاري) أذهله منظرهن وهن يتجَولْن في شارع بغداد ويعملن في مقاهيها ومطاعمها وفنادقها ويشاركن الرجال تدخين النارجيلة, كما وأذهلته بشكل خاص مطاعم بغداد المرمرية ونظافتها ووجباتها العراقية الشهيرة كذلك فعل منظر السيارات الفخمة التي راحت تزيح من ذاكرته صور الفوكس واكن البرازيلي التي إعتاد الناس على تسميتها بـ (وحش الشارع).
وحينما عاد السيد (س) إلى مهجره الغربي بعد زيارته الخاطفة إلى بغداد فقد راح يتحدث لأصحابه عن العراق الجديد الذي لا يشبه مطلقاً العراق الذي هجروه ويدعوهم إلى التخلي عن أحكامهم السابقة التي تأسست على (ثقافة لحظة المغادرة) المثقلة حد التخمة بصور الموت والمعاناة المدمرة ويستبدلوها بأخرى مرمرية زاهية وفاتنة.
في الحقيقة لقد انتقل السيد (س) من النقيض إلى النقيض دون أية استراحةٍ بين النقيضين, فمن (حالة لحظة المغادرة) إلى (حالة لحظة الإنبهار) كلاهما صارا يؤسسان لأحكام خاطئة وإن جرت الأولى عكس الثانية. الأولى كانت قد حرّمت عليه النظر إلى العراق من خارج مساحة الدمار والثانية منعته من رؤية العراق من خارج حدقته المتحجرة على مشهد المطاعم المرمرية ونساء الشيشة والنارجيلة.
لم يعد راغباً برؤية العراق من خارج حالة الانبهار, وهي حالة حرمته من تقديرأن يكون المشهد الذي حسبه تقدماً بمثابة دليل مضاف على قائمة التخلف التي يطول تعداد ووصف مكوناتها.
لقد كان عليه أن يحسب أن الأموال التي شيدت أغلب تلك المطاعم المرمرية والبنايات السكنية والتجارية العالية هي أموال مسروقة أُعيد تبييضها في نشاطات تجارية مضمونة وسريعة الفائدة بدلاً من المساهمة في بناء قاعدة اقتصادية حقيقية تساهم في إعادة بناء الوطن من جديد لا بناء حارات (كلمن إيدو إلو).
وهو لم يلتقي بآلاف العراقيين الذين دخلوا عالم التحشيش بعد أن فقدوا القدرة على مجابهة واقعهم المؤلم. ولا حَسَبَ إنهيار التعليم الذي تضخم عدد جامعاته الأهلية وتحولت إلى مجرد دكاكين تجارية. ولم يكن لديه الوقت الكافي لزيارة مخيمات الهجرة والإطلاع على بؤس ساكنيها ولم يتعرف على حقيقة أن السكون السياسي على السطح يخفي تحت قشرته الهشة عوامل صراع سياسي وميليشياوي قد يتفجر في أية لحظةِ إختلالٍ داخلي أو إقليمي, وإن القوى التي تقاسمت السلطة غير راغبة بالأصل ببناء دولة لذلك فهي غير مهتمة ببناء بنىً تحتيةٍ متماسكة.
في حقيقتها تشكل (ثقافة لحظة المغادرة) حالة انقطاع عن واقعٍ بدأ يتشكل بإتجاهات جديدة, إذ أن هناك أجيالا قد ولدت من خارج المعاناة القديمة. أما الكاتب والإعلامي الذي لا صلة حقيقية له بمعطيات الداخل العراقي المتغيرة فقد يجد نفسه يخاطب جيلاً على أبواب الإنقراض ويكتب بلغة سياسية لم تعد تناسب إدراك المتلقي.
أما (ثقافة لحظة الإنبهار) فهي حالة هروب إلى الأمام قد يكون عقل السيد (س) قد لجأ إليها دفاعاً عن ذات أرهقتها ثقافة لحظة المغادرة وجعلتها تعيد إنتاج نفسها بطريقة سلبية خاطئة.
إنها بمثابة الهروب من النقيض إلى النقيض دون أية استراحة بين النقيضين.



#جعفر_المظفر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ذكريات بطعم الحنظل وأخرى برائحة الشَبوّيْ .. (4)
- العلمانية وبناء الدولة الوطنية
- 14 تموز : ثورة كانت أم انقلاب (2)
- 14 تموز ثورة كانت أم إنقلاب
- بين الدولة المدنية والدولة العَلمانية
- مقدمة كتاب (العلمانية وبناء الدولة الوطنية)
- السباحة عكس التيار
- صراع الأزمنة العراقية
- فن النوم على المسامير
- الطائفية في العراق والدولة العلمانية
- ميكافيلي .. الرجل المجني عليه
- (الإسلاسي) و (العُلَيْمانية) : مفهومان قيد الإنشاء
- الأقلية الأكثرية
- فكر المظلوميات من جيفرسون المؤسس إلى بوش الإبن المفلش
- عوامل ساعدت على إنتشار التشيع في العراق أثناء الحكم العثماني ...
- قاطعوا الإنتخابات ولا تكونوا كذابي زفة
- عوامل ساعدت على إنتشار التشيع في العراق أثناء الحكم العثماني ...
- عوامل ساعدت على إنتشار التشيع في العراق أثناء الحكم العثماني
- فشافيش*
- سياج بيتي (2)


المزيد.....




- في تركيا.. ماذا يُخبّئ هذا -الوادي المخفي- بين أحضانه؟
- جورج كلوني منزعج من تارانتينو بعد أن شكك بنجوميته
- فيديو جديد يظهر تحرك القوات الأوكرانية داخل روسيا مع تقدم تو ...
- الخارجية الروسية: نظام كييف الإجرامي يأمر بإطلاق النار على ا ...
- تدريبات بالذخيرة الحية للقوات الأميركية والكورية الجنوبية لت ...
- كيف يمكن أن تساعد -ممرات الهواء البارد- على خفض حرارة المدن؟ ...
- -البحر يغلي- ـ درجات حرارة قياسية في المتوسط للسنة الثانية
- سموتريتش يعلن إقامة مستوطنة جديدة جنوب القدس ويتعهد بمواصلة ...
- المخابرات الأوكرانية تعلن عن سرقة أموال مخصصة لتطوير حماية ا ...
- مصر.. تعديلات مفاجئة على عدد مواد الثانوية العامة


المزيد.....

- الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ / ليندة زهير
- لا تُعارضْ / ياسر يونس
- التجربة المغربية في بناء الحزب الثوري / عبد السلام أديب
- فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا ... / نجم الدين فارس
- The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun / سامي القسيمي
- تأملات في كتاب (راتب شعبو): قصة حزب العمل الشيوعي في سوريا 1 ... / نصار يحيى
- الكتاب الأول / مقاربات ورؤى / في عرين البوتقة // في مسار الت ... / عيسى بن ضيف الله حداد
- هواجس ثقافية 188 / آرام كربيت
- قبو الثلاثين / السماح عبد الله
- والتر رودني: السلطة للشعب لا للديكتاتور / وليد الخشاب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - جعفر المظفر - ثقافة لحظة المغادرة وثقافة لحظة الانبهار