|
مرايا الغياب/ أمينة4
محمود شقير
الحوار المتمدن-العدد: 7432 - 2022 / 11 / 14 - 14:03
المحور:
الادب والفن
7
لا أذكر من طفولتها إلا نتفاً متناثرة. مرت طفولة أمينة من أمام عيني، مثلما مرت طفولة أخواتي الأخريات، دون أن يرسخ شيء كثير في ذهني عن تلك الأيام. أذكر أننا اعتدنا النوم متجاورين حينما لا تكون جدتي لأمي في بيتنا. كانت لدينا دبّية (طولها أربعة أمتار وعرضها متران أو أقل قليلاً، لها هدب كثيف، وهي منسوجة من صوف الأغنام) ندخل أنا وأخواتي تحتها في ليالي الشتاء وننام. أنام في الطرف القصي وفي ذلك امتياز، حيث بوسعي أن أستفيد من الفراغ الممتد من جهة اليسار. أمينة تنام إلى جواري من جهة اليمين، تنحشر بيني وبين بقية أخواتي. أتجاذب أطراف الدبية مع أختي الكبرى التي تنام في الطرف المقابل لي. هي تريد أن تستأثر بأكبر مساحة منها، وأنا أريد أن أستأثر بأكبر مساحة. ونحول الأمر إلى مزاح صاخب، تساعدني أمينة في الجذب، ولا يهدأ صخبنا إلا بعد تحذيرات أمي، التي تدخل إلينا غاضبة من الباب الذي يفصل غرفتنا عن الغرفة التي تنام فيها هي وأبي. تطلب منا أن نلتزم الهدوء. ثم تغادرنا بعد أن تخمد الضجة وننام. لم أعد أذكر إن كنت جلست مرة لتناول الطعام معها. أذكر أنني اعتدت تناول الطعام مع أبي. نأكل طعامنا وحدنا أنا وأبي، وأمي وأخواتي يأكلن الطعام وحدهن. إنه تقسيم ظالم، إلا أننا مارسناه دون أي إحساس بأننا نظلم غيرنا (هل كان انتسابي للحزب احتجاجاً على هذا التقسيم الظالم؟ أم كان مجرد انسياق وراء احتمالات السياسة؟ ربما هذا وذاك). كان أبي يأكل وحده في بعض الأحيان. طبخت له أمي ديكاً بلدياً ذات يوم. فاحت الرائحة في أنحاء البيت، وامتدت نحو الخارج. منيت نفسي بوجبة شهية. خرجت إلى اللعب أنا وأمينة وعدد آخر من أولاد العائلة وبناتها. بعد ساعة عدت إلى البيت ولم يكن تبقى من الديك سوى قطع صغيرة بيضاء. أبي التهم الديك بتواطؤ تام مع أمي، ربما لأنه كان خارجاً من المستشفى، وأمي تريده أن يسترد عافيته. يومها شعرت باستياء من أبي لأنه لم يتذكرني وهو يلتهم لحم الديك. ولم أعرف إن كانت أمينة شعرت باستياء. كانت تخرج معي إلى اللعب. تخرج حافية القدمين، وأخرج أنا حافي القدمين. ترتدي فستاناً ملوناً بسيطاً وتخرج إلى اللعب. لها عينان عسليتان وشعرها ينسدل على كتفيها. نخرج إلى ساحة بئرنا الغربية، يأتي ابن عمي ومعه أخوه، يأتي نفر من أولاد العشيرة، كل ولد يأتي ومعه أخوه. أنا آتي إلى اللعب ومعي أختي. ليس لي أخ يخرج معي إلى اللعب، ويساندني إذا ما تشاجرت مع الأولاد. كان هذا الأمر يؤلمني. أغضب أحياناً من وجودها معنا نحن الأولاد. أغضب منها وأطردها لكي تعود إلى البيت أو لكي تذهب وتلعب مع البنات. في بعض الأحيان نلعب نحن الأولاد والبنات بشكل مختلط، فيكون وجودها معي مبرراً. لا أذكر شيئاً من كلامها في الطفولة. لا أذكر شكل ضحكتها، لا أذكر شيئاً من مطالبها. أعتقد أنها عاشت طفولتها دون مطالب، أو هذا ما تصوره لي أنانيتي. ولعلّ التمييز الذي مارسه أبي وأمي في البيت لصالحي، هو المسؤول عن امحاء طفولتها من ذاكرتي. ما حاجتي إلى تفاصيل طفولتها ما دامت محكوماً عليها بأن تحيا في الظل بعيداً من مجال امتيازاتي؟ وهي امتيازات طفيفة على أية حال. لا أذكر إن كانت مرضت في طفولتها. لا أذكر متى أخذتها أمي إلى المدينة لتطعيمها ضد الأمراض السارية. لا أتذكرها وهي على صدر أمي ترضع الحليب من ثديها (أمي قالت إنها أرضعتها سنة مثل بقية أخواتها. قالت إنها أرضعت كلاً من أبنائها الذكور سنتين كاملتين)، لا أتذكر إن كان أبي حملها بين ذراعيه وراح يهدهدها. لا أدري إن كان رفعها في الهواء ومن ثم تلقفها بيديه وهي تضحك من بهجة وفرح. لم يكن لطفولتها في طفولتي سوى حضور طفيف. كنت أراها وهي تلعب مع البنات. لها حضور مميز بينهن، سيتعزز هذا الحضور حينما تذهب إلى المدرسة، ستظهر قوة شخصيتها وهي تلميذة، ما سيجعل المدرسات يحببنها ويضعن ثقتهن فيها. تلعب مع البنات وتبدو أقدر منهن على ابتداع أساليب اللعب، وعلى التحكم في مسار كل لعبة. تجلس مع صاحباتها وتنهمك معهن في صنع عرائس من قماش، يصنعن العرائس ويحملنهن إلى صدورهن، كأنهن يتدربن على الأمومة التي سوف تأتي بعد زمن. في أحيان أخرى، كانت تتسابق مع صاحباتها وقريباتها، يركضن حول البيوت ثم ينطلقن نحو ساحة بئرنا الغربية، ولا يندر أن تأخذ كلبنا ذا الشعر الأبيض المرشوق ببقع حمراء، حماسة مفاجئة فيركض مع الراكضات، ثم لا تلبث العدوى أن تنتقل إلي وإلى غيري من الأولاد، فنظل نعدو أمام البنات وخلفهن حتى نفسد لعبتهن، ونحكم عليها بالانتهاء. يتبع...
#محمود_شقير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مرايا الغياب/ أمينة3
-
مرايا الغياب/ أمينة2
-
مرايا الغياب1
-
ظل آخر للمدينة61
-
ظل آخر للمدينة60
-
ظل آخر للمدينة59
-
ظل آخر للمدينة58
-
ظل آخر للمدينة57
-
ظل آخر للمدينة56
-
ظل آخر للمدينة55
-
ظل آخر للمدينة54
-
ظل آخر للمدينة53
-
ظل آخر للمدينة52
-
ظل آخر للمدينة 51
-
ظل آخر للمدينة50
-
ظل آخر للمدينة49
-
ظل آخر للمدينة48
-
ظل آخر للمدينة 47
-
ظل آخر للمدينة46
-
ظل آخر للمدينة45
المزيد.....
-
السعودية.. رحيل -قبطان الطرب الخليجي- وسط حزن في الوسط الفني
...
-
مصر.. كشف تطورات الحالة الصحية للفنان ضياء الميرغني بعد خضوع
...
-
-طفولة بلا مطر-: المولود الأدبي الأول للأكاديمي المغربي إدري
...
-
القبض على مغني الراب التونسي سمارا بتهمة ترويج المخدرات
-
فيديو تحرش -بترجمة فورية-.. سائحة صينية توثق تعرضها للتحرش ف
...
-
خلفيات سياسية وراء اعتراضات السيخ على فيلم -الطوارئ-
-
*محمد الشرقي يشهد حفل توزيع جوائز النسخة السادسة من مسابقة ا
...
-
-كأنك يا أبو زيد ما غزيت-.. فنانون سجلوا حضورهم في دمشق وغاد
...
-
أطفالهم لا يتحدثون العربية.. سوريون عائدون من تركيا يواجهون
...
-
بين القنابل والكتب.. آثار الحرب على الطلاب اللبنانيين
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|