|
البرغي ، ليبيديف كوماتش
محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث
(Mohammad Abdul-karem Yousef)
الحوار المتمدن-العدد: 7407 - 2022 / 10 / 20 - 01:30
المحور:
الادب والفن
البرغي للكاتب الروسي: ليبيديف كوماتش ترجمة محمد عبد الكريم يوسف أصيب الموظف تشيريبانوف بألم شديد في معدته لمدة يومين. وفي اليوم الثالث لم يستطع الحضور إلى وظيفته وبقي طريح الفراش.
لم يكن لديه ما يقرأه، وكانت السماء تبدو رمادية مملة من النافذة. كانت الساعة تدق بصورة رتيبة فوق رأسه، ولم يشعر برغبة في النوم. أثناء رقوده مغمض العينين، أخذ تشيريبانوف يمارس ما كان يعيقه عنه في الأوقات العادية، عمله ومواعيده وخلافاته مع صديقته (فيروشكا)، والسينما وصوت بابور الكاز، والكسل عموماً.
استغرق تشيريبانوف في التفكير. اتخذت أفكاره في البداية طابعاً غير عادي. لم يفكر براتبه في الشهر القادم، ولا بقطع علاقته بفيروشكا والزواج من (تانيا)، ولا بإجازته، ولا حتى بربح مئة ألف. وباختصار، لم يفكر أبدأ بما يفكر به الإنسان عادة في أوقات الفراغ. كانت أفكار تشيريبانوف غير متوقعة، بالنسبة له نفسه، كانت أفكاراً مجردة، وسامية. سأل نفسه: من أنا؟
فكر تشيريبانوف، متسائلاً فيما بينه وبين نفسه – أنا مواطن في الاتحاد السوفييتي، موظف في الاتحاد الصناعي للمعادن غير الحديدية. أنا برغي في آلة الدولة الجبارة. وليكن صغيراً وغير ملحوظ، لكنه برغي على أية حال. واليوم، هذا البرغي لا يعمل، وتتراكم على طاولته رزم من الأوراق غير المسجلة وغير المصنفة في أضابير وسجلات...
فكر لحظة، قد تقوم بجزء من عملي (فرفارا بتروفنا)، عوضاً عني.
ولكن كيف ستنفذه؟
ثم لدي، في درج طاولتي أوراقا لا يعرفها أحد غيري. ومفتاح طاولتي معي وحدي. إذن، لن تسير الأمور على ما يرام دون البرغي. لا، لن تسير.
فتح تشيريبانوف عينيه ودخن سيجارة. لقد كانت أفكاره اليوم مُرضية بالنسبة له. وأثارت في نفسه الشعور بالفخار.
- أجل!... أنا برغي. والدولة تهتم بهذا البرغي وتفكر فيه. فاليوم صباحاً، اتصلت صاحبة الشقة بإدارتي وأعلمتها أنني مريض. وقد زارني الطبيب، وهو أيضاً برغي. والآن، في الصيدلية، ثمة براغي أخرى تحضر لي الدواء. تحضر لي، أنا، تشيريبانوف، الكاتب في الإدارة العامة، الذي توقف مؤقتاً عن العمل بسبب مرضه. وفجأة، سيطرت صحوة مؤثرة على روح تشيريبانوف.
ثم تخيل البناء بكامله الذي يقيم فيه، ثم الشارع كله الذي يقع فيه منزله، ثم موسكو كلها، ثم أخيراً، وبصورة ضبابية وبصعوبة، تصور الاتحاد السوفييتي كله، بأنهاره وجباله، وبحيراته المختلفة، وجمهورياته: قرغيزيا وبشكيريا و... في كل مكان ثمة براغي صغيرة وكبيرة. وكل برغي يعمل ما يجب عليه، على هذا البرغي، أن يعمله، حسب المركز الذي يشغله، وحسب جدول التعرفة. وجميع البراغي، إن صح القول، يدعم أحدها الآخر وتشكل آلة واحدة... وإذا ما انتزعت هذه البراغي وفرطتها، ووضعتها في الفراش فإن الآلة كلها ستتعطل، وكل شيء يتوقف: الخطوط الحديدية، والإدارات، وحافلات الترام...
أخذ تشيريبانوف نفساً طويلاً من سيجارته، وفجأة حرك حاجبيه بصورة جدية: - نعم... نعم... على كل برغي أن يعرف من هو، وأين موضعه.
أنا، على سبيل المثال، كم من المرات خرجت قبل انتهاء الدوام بنصف ساعة من الدائرة، بسبب هذه الفتاة فيرا، والأوراق مكدسة فوق مكتبي. في حين أن برغياً آخر لن يتمكن من العمل دون هذه الأوراق. أو يسيطر علي الكسل، فأجلس وأتقاعس عن العمل: وماذا وراء الوظيفة؟ فليأخذها الشيطان. وعلى أية حال، تستلم راتبك في الخامس عشر من كل شهر، سواء عملت أم لم تعمل. والمهم أن تهتم بنفسك، لا بالوظيفة...أما الأوراق والمعاملات فتتكدس وتتراكم...
والناس يلاحقونها ويتابعونها ...آه نحن أناس غير واعين. ما أن تقف في الطابور حتى تتأوه وتتضجر، وكأنك واقف على شوك! ونحن أنفسنا لا ندرك أننا السبب في تشكل هذه الطوابير، لأننا براغي!... قرعت الساعة عدة مرات فوق رأسه، ولم يلحظ تشيريبانوف ضرباتها، وكان يدخن ويفتح عينيه ويغلقهما، ويتقلب، وهو مستلق، من جنب لآخر، وبقي مشغولاً بأفكاره حتى المساء.
بعد أن بقي طريح الفراش أربعة أيام، عاد تشيربانوف إلى وظيفته وأذهل جميع زملائه على الفور. فقد غدا قليل الحديث، جافياً، وكان يقلب في أوراقه دائماً، ولا يرغب بالإجابة عن سؤال لا يتعلق بواجباته المباشرة. أصبح يأتي إلى الوظيفة قبل الجميع، في الصباح الباكر، ويخرج من وظيفته آخر الموظفين دوماً. وأخذ يبدي أقصى درجات الاحترام واللباقة في معاملة جميع المراجعين، بينما أصبح يتبع أسلوباً غريباً مع زملائه: فيؤنبهم لتأخرهم، ولقتلهم الوقت عبثاً، دون عمل، وأخذ يتحدث باستمرار عن البراغي.
أخذ زملاؤه الموظفون يتبادلون النظرات فيما بينهم، ويهزون أكتافهم ويبتسمون باحتقار، ويتسارون من وراء ظهر تشيريبانوف: - وماذا يريد؟ ومن هو؟ ربما يكون عميلاً سرياً لجهاز الرقابة؟
يتدخل في كل شيء، ويقدم مواعظه للجميع! إنها شناعة بلا حدود. وإذا ما استمر أمره على هذا النحو فسيكون من المستحيل العمل معه. ربما نتحدث بأمره مع رئيس الديوان العام – أليس من الممكن فصله أو نقله إلى مكان عمل آخر؟
- حاولي، انقلي إليه ذلك. ربما يكون قد عيّن فعلاً، مفتشاً سرياً؟ بالأمس، وبسبب هذا الشيطان، جلست نصف ساعة إضافية بلا داع. لم يكن هناك أي عمل، ومع ذلك بقيت في الدائرة. إنني أخافه.
- ماذا؟ عثرت على من تخاف منه. أما أنا، فأعتقد أن شيئاً من الخبل أو الجنون قد مسه بعد مرضه، ولا شيء غير ذلك. لقد سمعته: إنه يتحدث دوما عن براغ ولوالب. هذه هي المسألة: أظن أنه فقد أحد براغي عقله. اسمع، إنني سأخرج علناً، قبل نهاية الدوام بنصف ساعة.
- هكذا كنت تخرجين في السابق يا فرفارا بتروفنا. - وماذا في الأمر، كنت أخرج سابقاً قبل نصف ساعة، بصورة عادية، أما الآن فسوف أخرج بصورة استعراضية! من أجل إغاظة هذا الأبله.
- تريثي قليلاً، ربما تنتهي عنده هذه الأزمة. فهو لم يكن سابقاً على هذا الشكل إلا أن تشيريبانوف، بوجهه المستنير، تشيريبانوف المرهق، الذي أصيب بالنحول والضعف، تابع العمل الجدي عن ثلاثة موظفين، وأوجد نظاماً جديداً سريعاً لتسجيل الوثائق والأوراق. وتابع النظر إلى زملائه غير المتعظين باستهجان واستنكار. أما رئيس الديوان العام (ألكسي ستيبانوفيتش) الذي أيد في البداية غيرة تشيريبانوف كثيراً، ودافع عنه من هجمات الموظفين الآخرين، فقد أخذ التردد يسيطر عليه، هو نفسه، في نهاية الأمر.
وعندما حدثه تشيريبانوف ذات مرة، في الممشى، عن مشروعه الجديد لتسجيل الأوراق وتبسيط الأعمال الكتابية، شعر ألكسي ستيبانوفيتش بالخوف فعلاً، وقرر في نفسه على الفور، أن هذا الموظف الكاتب يطمح لأن يشغل مركزه، وقال في نفسه: - إنها مسألة حساسة، فليأخذه الشيطان! ومن حسن حظي أنه حدثني بمشروعه أولاً. فقد كان بإمكانه التوجه مباشرة إلى مدير الإدارة ويصبح الأمر منتهياً. فيرشحه ويضعه مكاني وينتهي أمري. لا، أيها الأخ، إنك تلعب بالنار. ولم توفق في اختيار من ممارس عليه هذه اللعبة.
غير مدير الديوان العام موقفه على الفور من تشيريبانوف. وبعد يوم واحد، وأثناء تقديمه تقريره إلى رئيس الإدارة، نقل إليه مشروع تشيريبانوف، ونسبه إلى نفسه وكأنه مشروعه هو، وحصل على ثناء حار من الإدارة.
وبعد أن جمع أوراقه واستعد للخروج من مكتب رئيس الإدارة، أشار ألكسي ستيبانوفيتش إشارة عابرة:
- بالمناسبة، أيها الرفيق (أندرييف)، وبصدد مشروعي، من المحتملأن أقوم بتقليص الملاك... - رائع جداً.
- وقد فكرت بإقالة هذا الكاتب تشيريبانوف، إنه غير مناسب، فما رأيك؟
- أقل من تريد يا عزيزي. إنني لا أعرف لماذا تسألني. فانا لا أعرف موظفيك أبداً.
- حسناً.
وخرج ألكسي ستيبانوفيتش جذلاً مغتبطاً. وقال في نفسه:
- أي عميل هذا لدائرة التفتيش!...إنه مجرد صبي، غر، أراد أن يبرز... ونحن سنبرزه على طريقتنا. بعد أسبوع، أقيل تشيريبانوف من عمله، و لم يلحظ أحد أن الديوان العام للاتحاد الصناعي ينقصه برغي!
#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)
Mohammad_Abdul-karem_Yousef#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قهوة الصباح، رون بادجيت
-
تذكرني ، كريستينا روزيتي
-
روسيا بعد الحرب وبعد بوتين ، واشنطن بوست
-
مفاجأة تشرين الاول
-
من ألف عام ، كريسينا بيري
-
أسرار الكلمات ( في حلقات ، الجزء الأول)
-
لماذا يسمي الروس موسكو - روما الثالثة-؟
-
روما الثالثة والحرب الأوكرانية، ماثيو لينوي
-
ثلاثة وجوه للأوراسية الجديدة بالمفهوم الروسي
-
استدراج ، أنيسة عبود
-
ألكسندر دوجين ، الكاهن الأكبر للقومية الروسية
-
الامتداد العالمي للكسندر دوجين
-
الكسندر دوجين في دائرة الضوء؟
-
وهج ، أنيسة عبود
-
مقابلة مع نعوم تشومسكي - الإنسانية تواجه تهديدين وجوديين. أح
...
-
الكسندر دوغين ، فيلسوف بوتين
-
نعوم تشومسكي - الديمقراطية الأمريكية في خطر شديد
-
نستعير سماء ، أنيسة عبود
-
خيانة، بيناتياب
-
ذات يوم ، أنيسة عبود
المزيد.....
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
-
مركز أبوظبي للغة العربية يكرّم الفائزين بالدورة الرابعة لمسا
...
-
هل أصلح صناع فيلم -بضع ساعات في يوم ما- أخطاء الرواية؟
-
الشيخ أمين إبرو: هرر مركز تاريخي للعلم وتعايش الأديان في إثي
...
-
رحيل عالمة روسية أمضت 30 عاما في دراسة المخطوطات العلمية الع
...
-
فيلم -الهواء- للمخرج أليكسي غيرمان يظفر بجائزة -النسر الذهبي
...
-
من المسرح للهجمات المسلحة ضد الإسرائيليين، من هو زكريا الزبي
...
-
اصدارات مركز مندلي لعام 2025م
-
مصر.. قرار عاجل من النيابة ضد نجل فنان شهير تسبب بمقتل شخص و
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|