|
نقض مفهوم السلوك البشري لدى روبرت سابولسكي
هيبت بافي حلبجة
الحوار المتمدن-العدد: 7404 - 2022 / 10 / 17 - 10:10
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ماهي حقيقة السلوك البشري ، وهل فعلاٌ البشر يتصرفون وفقاٌ لمقتضيات المنطق ، ومادور العقل في هذه المسألة في حال وجوده ، ومادور النفس في هذا الخصوص في حال وجودها . ثم مادور الغدد الصماء ومادورها في حال إختلالها ، ومادور الهرمونات التي تفرزها تلك الغدد ودورها في حال نقص واحد منها ، ومادور الأملاح المعدنية ودورها في حال نقص واحد منها أو فقدان التوازن مابين هذا وذاك ، ومادور الجهاز العصبي المركزي ، والجهاز العصبي الطرفي . ثم مادور الجمال والقباحة والشخصية الجذابة ، والمركز الإجتماعي ، والمركز الإجتماعي للأسرة وللعائلة الكبيرة ، وسيطرتهم على مواقع الحياة وأبواب الحركة الإجتماعية . ثم مادور الأمراض ، السكري السرطان الضغط التصلب اللويحي ، ومن ثم الضعف البدني ، ثم ماهو دور وعي الشخص في التصرف مع هذه الأمراض ، ودور الوعي العام إتجاهها . ثم مادور هرمون التستوستيرون وهرمون الإستروجين ، الفحولة والأنوثة ، وكيف يتعامل الشعور الباطني مع هذين الهرمونين ، ودور كل ذلك بالعلاقة الحميمية مابين الأب والأم . ثم مادور الطفولة ، ودور مرحلة الفتوة والشباب ، ودور الأم والأب وتصرفهما إتجاه الطفل ، ودور شخصية الأم والأب ومستوى وضعهما الإجتماعي والمادي ، ودور المشاكل العائلية ومشاكل المنطقة . وأحداث الطبيعة من عواصف وأمطار وثلوج وفيضانات ، ثم مادور الشمس والقمر ، والليل والنهار . ثم مادور ماضينا وأحداثها ، ودور أجداد البشرية وأجدادنا ، ودور العقائد والعادات الموروثة ، والأهم هو كيف يتصرف الناس مع بعضهم ، وكيف يتصرفوا مع الإله والعبادات والطقوس ، وكيف ينظرون إلى بقية الأقوام ، أي دور الثقافة العامة في تحديد مضمون العلاقة الأصلية والطقسية مابين الفرد والجماعة وكافة تلك المجالات . ثم يبقى السؤال المكمل ماهو دور الوعي ، ودور ضبط التصرفات من خلال الشخص نفسه ، أي من خلال موضوع كيف يتصرف الشخص مع ذاته ، ثم ماهو دور الأصدقاء والمحيطين بنا ، وكيف يتصرف الشخص إتجاه هذه الأحداث ، وثم مادور الفشل هنا والنجاح هناك ، ودور اللغة والسيطرة عليها أم الركاكة في مجالاتها . وتبقى النقطة المحورية : ماهي علاقة السلوك البشري مع مصدر نشوئنا ، من التراب والماء والهواء ، من الأرض كجرم ، من عوامل الفضاء والكون ، وهل نحن ، فعلاٌ ، من نتاج هذه الأرض كنشوء طبيعي كما النباتات والأشجار والورود . كان لابد من هذه البانوراما الماكروسكوبية لإدراك إحداثيات تلك المحاور المتداخلة والمتشابكة فيما نحن بصدده ، إشكالية السلوك البشري ، ولتبيين مدى قرب تلك العوامل من مركز هذا السلوك . والآن من الضروري أن نعرف بإقتضاب وجيز من هو هذا البروفسور روبرت سابولسكي سيما وإنه غير معروف في منطقة الشرق الأوسط : له مؤلفات عديدة : ألعاب التستوستيرون ، بيولوجيا الخير والشر ، بسيكولوجيا الإجهاد ، من نحن الجينات جسدنا والمجتمع . وهو يبحث في : تصميم إستراتيجيات العلاج الجيني ، إنتكاس خلايا الدماغ ، الإجهاد العصبي ، حماية الخلايا العصبية من الأمراض . وهو يلقي محاضراته في جامعة ستانفورد في قسم الجراحة العصبية والأمراض العصبية ، وقسم العلوم العصبية والبيولوجية . ولقد نال درجة البكالوريوس من جامعة هارفرد بإختصاص أنثروبولوجيا الحيوية ، وعمل تحت إشراف الطبيب المختص بالغدد الصماء ، بروس ماكوين . المقدمة الأولى : من الضرورة ضرورة وعي موضوع الجهاز العصبي ، المكون من الجهاز العصبي المركزي ، الدماغ والنخاع الشوكي ، والجهاز العصبي الطرفي ويشمل كافة التفرعات العصبية الصادرة سواء من الدماغ ، أعصاب دماغية أو مخية ، سواء من النخاع الشوكي ، أعصاب شوكية . والدماغ يتألف من المخ والمخيخ والبصلة السيسائية . والمهم هنا أن ندرك : من ناحية ، إن هذا الجهاز هو المسؤول الأول والأخير والمسؤول القاتل عن كل شاردة وواردة من الجسم إلى الدماغ ، ومن الدماغ إلى الجسم ، فثمت مليارات الرسائل القادمة إلى الدماغ ، ومليارات الرسائل الصادرة منه . من ناحية ، إن كافة عمليات التنظيم والتنسيق في داخل الجسم ، من حركة وتفكير وإحساس وتنفس يتم عبر هذا الجهاز وبواسطته ، ولولاه ماكانت الحياة وماكان يجري أي شيء داخل الجسم . ومن ناحية ، إذا ما تعطب أي عصب في أي موقع في أي موضع ، إنصاب ذلك الموضع بالشلل وعدم الإحساس بأي شيء كان ، أي وفي الأصل إذا ما تهتك الإتصال مابين الدماغ وأي جزء من الجسم ، فقد ذلك الجزء محتوى الإحساس والألم والوجع . ومن ناحية ، إن الخلية العصبية ، العصبون ، يتألف من ثلاثة أجزاء رئيسية ينضاف إليها جزء رابع يسمى غمد المايلين ، وهو الغمد الذي يحمي المحور العصبي ، الجزء الأول وهو جسم الخلية ويحتوي على نواة الخلية ويوجد فيها الحمض النووي ، الجزء الثاني وهو المحور العصبي وهو الذي يوصل مابين جسم الخلية والنهايات العصبية ، الجزء الثالث مؤتلف من التفرعات العصبية والنهايات العصبية ، التفرعات العصبية تحيط بجسم الخلية ، والنهايات العصبية تنوجد في نهاية المحور . المقدمة الثانية : من الضرورة ضرورة معرفة موضوع الهرمونات التي تفرزها الغدد الصماء ، تلك الغدد ، الغدة النخامية ، الغدة الصنوبرية ، الغدة الدرقية ، الغدة الكظرية ، غدة البنكرياس ، غدة الخصيتين للذكر وغدة المبيضين للأنثى . والمهم هنا أن ندرك : من ناحية ، إن هذه الغدد الصماء تفرز هرموناتها مباشرة في الدم ، وأي أمر يؤثر في تركيب الدم ينتقل بضرورته وبمفهوم حاجته إلى الدماغ الذي يحث هذا الشخص على التصرف وفقاٌ للك المقتضيات الجديدة ، ويؤثر ذلك سلباٌ وإيجاباٌ على سلوك الشخص . ومن ناحية ، إن الغدة النخامية هي التي تفرز إلى جانب هرمون النمو ، رسائل خاصة إلى بقية الغدد بإفراز هرموناتها الخاصة . ومن ناحية ، إن هرمون التستيرون يشكل ، ومن حيث التأصيل ، الأساس الفعلي لمسألة التصرف بنوع من العدائية أو بنوع من العصبية الزائدة أو بنوع من التمرد الباطني . المقدمة الثالثة : وفي موضوع الجينات ، المورثات ، فإن االصبغيات الوراثية ، الكروموزوم ، تتألف من ضفيرة بروتينية تتجابه فيها أربعة أحماض أمينية على شكل سلسلة طويلة ، بحيث أن كل قطعة صغيرة منها تمثل جينة وراثية ، بأعداد كبيرة ، وكل مورثة مسؤولة عن أمر معين في الجسم وتؤلف أجسام بروتينية معينة في هذا الخصوص . والمهم هنا أن ندرك : من ناحية ، من المستحيل التطابق مابين المخزون الوراثي ، الجينوم ، لدى الأشخاص ، لإن لكل شخص مخزون وراثي خاص به من جراء التركيبة الفريدة لتلك الأحماض الأمينية الأربعة ، أدينين ، تيمين ، غوانين ، سيتوزين ، وأدينين لايتقابل إلا مع تيمين أو بالعكس ، وغوانين لايتقابل إلا مع سيتوزين أو بالعكس . ومن ناحية ، ثمة جينات عاملة وجينات غير عاملة ، ومع الأحداث والتطورات في الجسم ، تتكاسل بعض الجينات وتنشط بعضها الآخر ، مع المعرفة إن جينة معينة تكون هي المسؤولة عن هذا المرض أو ذاك ، أو عن هذا الوضع أو ذاك ، ومع المعرفة إن الكيمياء قد تكبح عمل هذه الجينة وقد تنشط عمل تلك الجينة ، فالكيمياء قد تكون سبباٌ في حدوث عواقب وخيمة . ومن ناحية ، إن العوامل البيئية تؤثر ليس فقط على آداء هذه المورثات إنما قد تغير من محتواها في حدود أولية ، وكذلك المعادن الثقيلة مثل الكاديوم ، والزرنيخ ، والزئبق ، والرصاص ، والألمنيوم . ومن ناحية ، تبين مؤخراٌ إن الحب يساهم في تنشيط بعض الجينات ويثبط عمل بعضها الآخر . كما إن المواد الكيميائية قد تحرك النشاط في تلك المورثات غير العاملة ، وحين تغدو عاملة فقد تكون خطيرة جداٌ في موضوع السلامة الشخصية . ومن ناحية ، وهذا أمر قد يكون خطيراٌ ، فقد أستطاع بعض العلماء إستنساخ جينوم الحيوانات ، مثل نعجة الدوللي والفرس ميثرا وبعض القطط ، وفيما يخص البشر فقد أودع عالم صيني في السجن من جراء تلاعبه في موضوع قص جزء من تلك الأحماض الأمينية ، فكانت النتيجة طفلتين سييامنيتين . المقدمة الرابعة : يؤكد روبرت سابولسكي إن للسلوك البشري ، وبالأدق للحدث في هذا السلوك أسباب تكمن في مستويات عديدة لايمكن الجزم لا بحدوثه ، ولابكيفية حدوثه ، ولابالأسباب الفاعلة الحقيقية ، إنما هو هكذا وهي هكذا . ولندرك المعنى السليم لهذه الفكرة ، لامندوحة من ضرب هذا المثال ، فلو حدثت أحداث شغب خطيرة في هاهنا وكنت أنت موجود فيها وبيدك مسدس ، ثم وعلى حين غرة إتجه نحوك شخص ما غاضب جداٌ ومنفعل للغاية وبيده مايشبه المسدس ، وضغطت ، أنت ، على الزناد فأكتشفت على أثرها إن هذا الشيء كان هاتفه الجوال . فالذي حدث قبل ثانية ونصف من الضغط على الزناد إن جزءاٌ معينا من الدماغ ويسمى باللوزة الدماغية وهي جزء مهم في موضوع الخوف والعنف ، قد حدثت فيها عمليات عديدة أسفرت عن قرار إطلاق النار . والأسئلة العديدة هي ، مامستوى النشاط الكيميائي البيولوجي للوزة الدماغية في تلك الثواني . ثم ماالذي أثر على اللوزة الدماغية قبل دقيقة من الضغط على الزناد ، هي بالتأكيد سماع تلك الأصوات المتعلقة بأعمال الشغب ، ومشاهدة مايجري تحت ناظريك ، ثم وسيما إذا كان الشخص ضخم الجثة ينتمي إلى عرق آخر . ثم إذا رجعنا عدة دقائق إلى الوراء ، فإذا كنت تعاني من ألم ما أو إذا كنت جائعاٌ أو إذا كنت مرهقاٌ فقشرتك الجبهية ستكون عرضة لإتخاذ قرار خاطىء . ثم لو رجعنا ساعات قبل الحدث ودخلنا في مرحلة الهرمونات ، وإذا كانت نسبة هرمون التستوستيرون عالية ، ونسبة هرمون التوتر الكورتيزول عالية ، حينها سيكون نشاط اللوزة الدماغية كبيراٌ بعكس الخمول في القشرة الجبهية . ثم لو رجعنا أسابيع وأشهر إلى الوراء ولاحظنا قدرة المرونة العصبية ، قدرة الدماغ على الإستجابة للتغيرات ، فإذا كنت تقاسي من التونر والصدمات النفسية فاللوزة الدماغية ستكون متضخمة ، والقشرة الجبهية مضمرة ، الأمر الذي يؤثر على مايجري في تلك الثانية . ثم لو رجعنا سنوات إلى الوراء ، حيث تلك العوامل التي تؤثر على القشرة الجبهية من أحداث وتجارب ومعطيات تتعلق بالأسرة والمجتمع ، سيما إذا أدركنا إن القشرة الجبهية لايكتمل نموها إلا بعد خمسة وعشرين سنة . ثم لو رجعنا إلى مرحلة الطفولة ، مرحلة الجينات والتغيرات التي تحصل في مايسمى بالإبيجينتك ، حيث إن الإيبيجينتك ومن خلال نشاطها الخاص وتأثيرات البيئية الحاصلة عليها تنشط بعض الجينات وتكبح عمل بعضها الآخر . ثم لو رجعنا لمرحلة الجنين فإن الجينات ورغم دورها القاتل فإنها تعمل بشكل مختلف في ظروف مختلفة ، سيما وإذا كانت نسبة هرمون التوتر عالية لدى الأم . ثم لو رجعنا إلى موضوع الأسلاف ، وأين كانوا يعيشون ، ففي الصحارى حيث الشدة والخشونة وقضايا الثأر والإنتقام ، تؤثر على موضوع سحب الزناد في تلك الثواني . ثم لو رجعنا إلى موضوع تطور الأنساب البشرية ، وموضوع تطور الجينات نفسها ، فالعدائية ليست متساوية لديها في هذا السياق ، فثمت أنساب أكثر عدائية وبعضها أقل . وهكذا فإن هذا الحدث يخضع لعمليات تمتد من الثانية الراهنة إلى ملايين السنين ، والذي يهم هنا أن ندرك ، حسب سابولسكي ، هي إن التغيرات الجذرية التي تحدث الآن أو التي حدثت قديماٌ قديماٌ تؤثر في عمل النشاط الدماغي من خلال خلق تفرعات جديدة في الخلية العصبية ، العصبون ، ومن خلال محتوى القشرة الجبهية . ويذكر أمثلة على تغير البيئة ، فالبيئات الصحراوية لم تكن كذلك بل كانت المنطقة مليئة بالأعشاب والأشجار والأنهار ، وأمثلة على تغير الثقافات . المقدمة الخامسة : يؤكد روبرت سابولسكي إن إرادة الإختيار لدى الفلاسفة ورجال الدين ليست إلا ضرباٌ من ضروب الوهم ، فإرادة الإختيار التي نعتقد إننا نملكها ونطبقها وهي مرهونة بشخصنا ليست في الواقع إلا نتيجة بيولوجيتنا ، إلا نتيجة مايجري في حدود دماغنا ، في حدود اللوزة الدماغية ، في حدود القشرة الدماغية ، في حدود القشرة الجبهية ، إلا نتيجة مالدينا في هذه الثانية وما إكتسبناه منذ ملايين السنين ، من البروتينات ، من الهرمونات ، هرمون التيستوستيرون ، من الجينات ، من الثقافة والطقوس ، من العوامل البيئية وتغيراتها ، من الحالة الجنينية وهرمون التوتر الكورتيزول ، من حالة الطفولة وظروف الأسرة والمجتمع ، من حالة التوتر مابين الأب والأم ، من مستوى الفيتامينات في أجسادنا ، من نوعية الأكل ، من نوعية الألعاب التي نمارسها ، من الحالة الجنسية وتجاربنا في حدود الفهم والممارسة ، من جاذبية الشخص والكاريزما ، من وضعية الشخص في العائلة والأسرة الكبيرة والمجتمع ، ومن ضمور القشرة الدماغية ، والقشرة الجبهية ، وتضخم اللوزة الدماغية ، ومن ومن إلى من ، يختزل الدماغ حقيقتنا البيولوجية ، ويقرر أمر الحدث قبل ثانية ونصف من وعينا به ، أي إن الدماغ يختزل الماضي السحيق بكل مراحله ، بكل تطوراته في موضوع الجينات ، في موضوع العقائد ، في ممارسة الطقوس ، إلى هذه اللحظة في حدود مايملك هذا الفرد من الجينات ، التي تعمل والتي لا تعمل ، من الأمراض ، من الأورام ، إلى هذه اللحظة في حدود الألم ، في حدود الجوع والعطش . ويضرب أمثلة منها ، إن القاضي الذي يكون قد أكل قبل ساعة من النطق بالحكم سيبدي إيجابية بحدود الستين بالمائة ، في حين إن القاضي الذي يكون قد أكل قبل أربعة ساعات من النطق بالحكم لن يبدي أية إيجابية ذات معنى . نكتفي بهذا القدر ، ونعترض بالآتي : أولاٌ : ثمة مفارقة كبيرة مابين مفهومين ، الأول هو مفهوم حرية الإختيار ، المفهوم الذي رفضه روبرت سابولسكي ، والثاني هو مفهوم حرية الإمكان ، المفهوم الذي يجهله سابولسكي . ولكي تتضح الصورة من الأساسي أن ندرك معطيات هذين الأمر . فضمن حرية الإختيار ثم جانب يتعلق بما أسميه منطقة الصفر الإيجابي التي حسبها إن الإرادة والعقل يختاران بماهو مناسب وموائم للحدث من حيث المنطق والروح الموضوعية ، ويمتاز هذا الجانب إنه يمكن أن يشع في عدد لا محدود من الإتجاهات شرط أن يخضع لتبرير العقلي ، وأتفق ، من حيث المبدأ ، مع سابولسكي في رفضه هذا الجانب من جذوره . ثم يوجد جانب آخرضمن حرية الإختيار ، وهو الجانب المتعلق بعدد محدود من الإختيارات ، للفهم ، ألف عدد ، ألف لون ، ألف قلم رصاص ، مائة كتاب ، ويمتاز هذا الجانب إن الإختيار لابد أن يقع على واحد من هذه الإختيارات ، وهنا أيضاٌ أتفق معه ، مع سابولسكي ، في رفضه هذا الجانب من حيث التأصيل والتأسيس . لكن ماذهب إليه سابولسكي ، إن الدماغ البشري لايتصرف ، ولايمكن أن يتصرف ، إلا من خلال بيولوجية الجسد البشري ، إلا من خلال كافة تلك العوامل التي ذكرناها في كل تلك المقدمات ، وتحديداٌ العوامل التي ذكرناها في المقدمتين الرابعة والخامسة ، لايؤصل ، أي إن ماذهب إليه سابولسكي لايؤصل ، فاعلية السلوك البشري إتجاه هذا الحدث او ذاك ولايحدد نوعيته ولاطبيعته ، لإنه يجعل من الدماغ البشري رهينة مرهونة بهذا العامل البيولوجي ، وذاك العامل البيولوجي ، والعامل البيولوجي الثالث ، كل عامل بمفرده ، أو حتى التأثير المتبادل مابين تلك العوامل . بينما ، إن الدماغ البشري يتجاوز موضوع ماهو جمعي في مسألة تلك العوامل ، مامعنى ذلك : لقد أعتمد سابولسكي على مفهوم العامل الأول ، العامل الثاني ، العامل العاشر ، العامل المليون ، وكأنها عوامل تجمع جمعاٌ في محصلتها ، وهذا يفضي إلى منطقة معينة في التحليل وكإن الدماغ البشري يتصرف ، بالنهاية ، بصورة آلية ، أو شبه آلية ، وهذا مرفوض بالقطع . الدماغ البشري وإن إستند إلى مليون عامل بيولوجي فإنه يتجاوز كل واحد منها بصورته الفردية وبصورته التجميعية ، ويخلق منها صورة جديدة ، صورة خاصة ، يحدد على أثرها السلوك البشري إتجاه هذا الحدث ، أو بالأدق إن هذا هو ، هو نفسه ، السلوك البشري . وهذا هو بالتحديد المدخل الحقيقي لمفهوم حرية الإمكان ، أي : من جانب ، لايوجد شيء أسمه الإمكان الأول ، الإمكان الثاني والعاشر ، إنما حالة تامة وكاملة ، حالة لاعلاقة لها بموضوع البيولوجية الصرفة . ومن جانب ثاني ، إن الدماغ البشري يتصرف بطريقة الكيف في حدود الكم ، لذلك هو يستخدم وعيه ، وذكاءه ، ويستفيد من تجاربه وخبراته . لنضرب مثلاٌ على ذلك يحدد طبيعة فهمنا من هذه المسألة ، لو كان لدينا مليون لون ، كافة درجات هذا اللون ، وكافة درجات ذاك اللون ، على غرار مليون عامل بيولوجي ، فروبرت سابولسكي ينظر إلى الموضوع ، هذا اللون الأبيض وهذه هي درجاته ، وهذا هو اللون الأخضر وهذه هي درجاته ، وفي الأصل فإن الدماغ البشري يمزج كافة تلك الألوان ، تلك العوامل ، مزجاٌ تاماٌ كلياٌ مطلقاٌ ، بحيث إن يحصل على لون لايمكن أن يتحدد فيه ، هذا اللون او ذاك ، لا أبيض ولا أخضر ولا أحمر . لنضرب مثلاٌ آخر ، لو كان لدينا مليون كيلو من الفواكه ، كافة أصناف الفواكه وأتينا بخلاطة تخلط هذا المليون كيلو إلى درجة من المستحيل الزعم إن هذا المذاق يعود إلى ذلك النوع من الفاكهة ، فالمذاق الجديد هو مذاق فاكهة ، جديدة ، فاكهة هي هذه . ثانياٌ : كما إن سابولسكي لم يميز مابين حرية الإختيار ومابين حرية الإمكان ، أي مابين الإختيار كإختيار في الهواء وفي اللاتعيين ومابين الحصول على ماهو أمثل للشخص في خصوص ذاك الحدث بعينه ، فإنه لم يميز مابين الأسباب البيولوجية ومابين الحالة البيولوجية ، والبشر مثل كافة الكائنات الحية ليسوا إلا حالة بيولوجية ، ولايمكن أن يتصرفوا خارج حدود هذه الحالة البيولوجية ، فأنا وأنت وهو وهي لسنا إلا كتلة بيولوجية ، ولايمكن إلا أن نكون كذلك . والمفارقة مابين الحالة البيولوجية ومابين الأسباب البيولوجية تكمن في الآتي ، فالحالة البيولوجية تنشأ في ثانية تلقيح الحيوان المنوي الذكري والبيضة الأنثوية ، ثم تخضع للعوامل الأساسية التي تطبعها بما يوازي حجم التأثير الضمني ، مثل التربية والتوتر والجينات والهرمونات ، في حين إن الأسباب البيولوجية تؤثر على تلك الحالة دون أن تطبعها بطابعها . ويأتي سابولسكي بمثال مميز في هذا الخصوص : إن رجلاٌ من الولايات المتحدة الأمريكية إستخدم العنف مع المجتمع ومع إسرته ، وعند الفحص التشريحي تبين إن لديه ورم في الدماغ يضغط على اللوزة الدماغية ، الأمر الذي كان يجعل من اللوزة أن تكون في حالة هيجان زائد . وهنا نتساءل هل ذلك الورم هو من أصل تكوين الجسم البشري ، أم إنه حالة مرضية يؤثر في الدماغ طالما هو موجود بحيث يزول أثره بزواله ، لإن الأصل هو أن يكون الجسم سليماٌ ، بينما كل ماعدا ذلك حتى لو كان منذ الولادة فهو ليس شرطاٌ من شروط السلوك البشري ، مع إدراكنا إن هذه الأسباب لاتحدد نوعية السلوك البشري العام ولايحدد مستواه ولادرجته ، لإنه يؤثر فيه تأثيراٌ ليس إلا ، وهذا مايقودنا لثالثاٌ . ثالثاٌ : كما إن سابولسكي لم يميز مابين تلك الحالات التي ذكرناها في أولاٌ وثانياٌ ، فإنه لم يميز مابين موضوع السلوك البشري ومابين محتوى الحدث السلوكي . مع إدراكنا إننا نقصد بالأسباب البيولوجية تلك الأسباب الداخلية مثل ذلك الورم ، مثل الخلل الوظيفي في الغدة الدرقية ، بينما نقصد بالحدث السلوكي تلك الحالات التي تحدث خارج الجسم وتفرض عليه نوعاٌ من تحديد العلاقة البيولوجية ، مثل رؤية الطفل لأمه وهي تتعرض للخطر ، مثل رؤية العاشق لمعشوقته وهي تتعرض لموقف مؤلم . وإذا كان السلوك البشري هو كل ماذكره روبرت سابولسكي ، مع كافة شروط مآخذنا عليه في أولاٌ وثانياٌ وثالثاٌ ورابعاٌ وخامساٌ وسادساٌ ، فإن الحدث السلوكي يفرض شروطه الخاصة في داخل الحد البيولوجي وفي خارج الحد البيولوجي ، فالطفل الذي يرى أمه تتعرض للخطر ينبغي عليه أولاٌ أن يدرك الخطر وإلا كيف يمكن له أن يتصرف . وهذا مايقودنا لرابعاٌ . رابعاٌ : دعونا نعيد صياغة كل ماطرحناه حتى هذه النقطة بصياغة مختلفة ، ونميز مابين ثلاثة مجالات مختلفة من حيث التأصيل ، ونضيف إليها مجالاٌ رابعاٌ خاصاٌ ، لنشاهد كيف تغافل سابولسكي عن أمر خطير وهو ، حرية الإدراك : المجال الأول : المدارك الحسية الخارجية ، فكل مايورد الدماغ من الحواس الخمسة هي في الحقيقة يتم إدراكها من قبل الدماغ وفقاٌ لما لديه ، هو ، من معطيات أولية ، لذلك أي خلل سواء في الحواس الخمسة ، سواء في الأعصاب الحسية الموازية ، سواء في الدماغ الموازي ، ينفي عملية الإدراك بصورة سليمة . المجال الثاني : العمليات البيولوجية المرافقة لوصول المعلومات إلى الدماغ حول حدث سلوكي معين ، مع كل العمليات البيولوجية المرافقة التي تحدث في داخل الجسم لاحقاٌ . المجال الثالث : كيفية ونوعية التصرف إزاء هذا الحدث في شرط كافة العوامل البيولوجية البنيوية التي ذكرها سابولسكي ، منذ الماضي السحيق إلى الثانية الراهنة . المجال الرابع : مجال التصورات اللاحقة أو الرديفة ، ويتعلق بكل تلك الإفرازات البيولوجية التي تحدث فيما بعد نتيجة تصورات داخلية إضافية ، مثل عملية الإستمناء ، مثل تصور الطالب نفسه مهندساٌ وهو يقدم إمتحانات الباكلوريا . والآن لنعد إلى المثال السابق ، رؤية الطفل أمه وهي في خطر ، ولنبدله بمثال أوضح يتماثل ويتطابق معه كلياٌ ، شخص يسير في الغابة فيشاهد أمامه ذئباٌ ، فهل ركض ثم خاف ، أم خاف فركض ، والمفارقة كبيرة ، ففي الأولى إن الركض هو الذي أفرز الإفرازات البيولوجية للخوف فخاف ، وفي الثانية إن الخوف هو الذي أفرز الإفرازات البيولوجية للركض فركض . المنطق يقول إنه خاف فركض لإنه لابد من عملية إدراك الخوف أولاٌ وإلا ليمكننا القول إنه ركض من الأشجار ، من الورود ، من النهر ، وهكذا رأى ثم أدرك ثم خاف ثم ركض ، أي حدوث المجال الأول ثم الثاني ثم الثالث وربما ترافق مع تصورات المجال الرابع . والآن لنذكر مايتطابق مع هذا المثال ، ففي مقابلة معه ، يقول مقدم البرنامج في خصوص إرادة الإختيار ، ألم أكن مختاراٌ في إجراء هذه المقابلة معك ، فيجيب سابولسكي لا ، فقبل أسابيع جرى حديث أو شيء من هذا القبيل يتعلق بي فإنفرزت لديك حالة بيولوجية أثرت فيك فأتصلت بي . وهكذا يتغافل سابولسكي ليس فقط عن حرية الإمكان التي ذكرناها سابقاٌ ، إنما تغافل عن حرية الإدراك أيضاٌ ، وهذه النقطة القاتلة والحرجة في نقض تأصيل موضوع السلوك البشري لدى روبرت سابولسكي ، فمقدم البرنامج قرأ فعلاٌ له ، وهذا صحيح تماماٌ ، لكنه بعد ذلك أي بعد المجال الأول ، أدرك أهمية إجراء مقابلة معه ، مثل إدراك الخوف في المثال السابق ، وهذا هو المجال الثاني ، ثم تحقق المجال الثالث وتم الإتصال معه ، ومن ثم ربما تحقق المجال الرابع لدى مقدم البرنامج في تصور الفوائد العلمية من هكذا مقابلة مع هكذا بروفسور . خامساٌ : لنعد إلى المثال الأثير والمفضل لدى روبرت سابولسكي ، وهو مذكور في المقدمة الرابعة ، فلو حدثت أحداث شغب في هناك ، وكنت أنت موجود فيها وبيدك مسدس ، وعلى حين غرة إتجه شخص غاضب جداٌ ومنفعل للغاية صوبك ، فضغطت على الزناد ، وإكتشفت بعدها إنه كان يحمل هاتفاٌ جوالاٌ . في الحقيقة إن هذا المثال ، في تأصيله البيولوجي ، سخيف وتافه وحالة بيولوجية غبية : فمن ناحية ، ماذا لو كانت لديك عيون حادة تتمتع ببصر ثاقب ، فحتماٌ لن تضغط على الزناد لإنك سترى الحامل الجوال في يده رغم التوتر الشديد الذي يسيطر على المشهد . ومن ناحية ، قد يتصادف أن تكون في منطقة تلك الأحداث لكن من اللامعقول أن تحمل مسدساٌ في يدك إلا إذا كنت تنتمي ، سواء من هذا الطرف أو ذاك ، إلى موضوع الشغب ، وإذا إنتميت فسيكون لديك تصور مسبق ، تصور معين يحدد مجال تصرفاتك ، ويحدد مجالك البيولوجي . ومن ناحية ، إن سابولسكي يتغافل عن دور الأمان الذي تحس به وأنت تقبض على المسدس ، ذلك الأمان الذي يجعلك تتريث قليلاٌ في الضغط على الزناد ، أو أن تتهرب من أمامه بحيادية . ومن ناحية رابعة ، إن سابولسكي يتغافل عن أمر في غاية الخطورة وهو قد تتصور أن تخطأ في التصويب على ذلك الشخص ، فيصيبك هو في المقتل ، لذلك ربما تقدح لديك فكرة الهروب . سادساٌ : إن الإنسان ليس حالة بيولوجية سابولسكية رغم صدق كل ماذهب إليه في صدد فهم أساسها ، لسبب بسيط هو إن الإنسان يستطيع بوعيه وبإدراكه وبإحترافيته وبتجربته أن يتحكم في مسار حالته البيولوجية ، أن يجعل سلوكه يتجلى في صورة أرقى ، في شكل آخر ، أن يجعل سلوكه يظهر كما لو إنه قد أوعز لدماغه بصورة مسبقاٌ إلا ينقاد للحالة البيولوجية الصرفة ، و أن يخلق حالة بيولوجية بديلة . وهكذا لسنا حالة بيولوجية سابولسكية ، إنما حالة بيولوجية متقدمة وخاصة ، أو ربما حالة بيولوجية واعية ، وهذا هو أساس التطور في السلوك البشري ، ناهيكم عن فكرة لابد منها : نحن لازلنا نجهل مدى الوعي في الخلايا ، مدى الوعي في جسمنا ، مدى الوعي في كل عضو من أعضاء جسمنا ، مدى قوة الفيزياء فينا ، مدى قوة الكيمياء فينا ، مدى حقيقة الجينات والهرمونات فينا ، وأعتقد ، وهو مجرد إعتقاد ، إن الجسم البشري ليس آلة ميكانيكية تنقاد حرفياٌ للدماغ البشري . أو إن الدماغ يستبد بجسمنا بشكل قسري تام . ويبقى السؤال المفتوح بالمطلق : ماهي العلاقة الفعلية مابين الدماغ كعضو ومابين الدماغ كجهاز ، أي مابين الدماغ والدماغ . وإلى اللقاء في الحلقة الخامسة والثلاثين بعد المائة .
#هيبت_بافي_حلبجة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقض علم الآلهة بالأشياء لدى الغزالي
-
نقض حجج الحدوث لدى الغزالي
-
نقض المسألة الأساسية في الفلسفة
-
نقض سماوية النص الإلهي
-
نقض مفهوم الوجدان المتأله لدى العرفاء
-
نقض المنطق الأرسطوي والمنطق الهيجلي
-
نقض برهان الحركة والزمن لدى أرسطو
-
نقض إرادة ومشيئة إله الكون
-
نقض قصة الإسراء والمعراج في النص الإلهي
-
النص الإلهي يبيح الزنا
-
نقض مفهوم الإله لدى إسبينوزا
-
نقض قصة آدم في النص الإلهي
-
نقض ماهية الشر في الإسلام
-
نقض مفهوم الشر لدى غوتفريد لايبنتز
-
نقض إشكالية الشر لدى ماري بيكر إيدي
-
نقض المرحلة الدينية لدى كيركجارد
-
نقض النسق الفكري لدى شوبنهاور
-
نقض الأحكام القبلية لدى كانط
-
نقض الروح الكلية لدى هيجل
-
نقض مفهوم الخلق الإلهي
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|