كاظم حسن سعيد
اديب وصحفي
الحوار المتمدن-العدد: 7402 - 2022 / 10 / 15 - 10:28
المحور:
الادب والفن
عشرون عاما مضت .. في منتصف الليل حين ايقظها ارشد ... لقد مرعقدان على لون الجعفري .. في الغرفة الاقرب على بعد خطوات كانت امها تعزف الشخير المرتفع والسكون يفوح من كل شيء حتى عقارب الساعة .. وقد انخفضت الحرارة بعد يوم حر كافر .. الدموع بلغت الجفاف فقد قضمت الحرب اخاها واصبح النحيب وتخميش الخدود ذكرى ..اختفت قناني الطرشي المعلقة بالشبابيك, المعتق المصنوع بعناية وشهية .. لا احد يترجى السماء لانقاذ سالم او يعتب شاهقا لان الحرب التهمته .. وقد تفتت عروق المذياع... سنتان يصغون اليه لعله اسير فيحييهم..لم يعد باب احدى الغرف يطرق لوحده في اول الغروب فيذكرهم بروحه التى تطوف في ارجاء المنزل وقد تناست الام وصية جارتها (افحصيه لعل شامة او اثر جرح يدلك عليه ان عاد متفحما .. تاكدي حتى من اسنانه )..وكان حلم الفتاة بتكوين اسرة وفارس مهتم بالخصلات قد تحول الى طقس رتيب ..عمل مخ يتكرر ببلادة .. وقد سلّمت الامال لمزاج القدر ..في تلك الليلة منتصف الليل تحركت اصابع ارشد لنهد ناضج الاستدارة خمري فزع ..يحتويه جسد متكلس ..انها مشغولة بالاصغاء لدرس الاصابع الاول .. ولا علامة على ردة فعل ..الحلمة المتجمرة تستدير باصابعه يسارا ويمينا..يفرها بمهارة .. انها بليونة تينة لصيقة بالغصن.. متوهجة ,وعيون الفتاة متخشبة تصغي بلا ادراك للدرس الجسدي الاول .. تتهجى ولا تعي ..قال في نفسه, بعد نصف: (برود ..)..التكلس يزدحم والاصابع تزداد مهارة ..ولا شيء ينبض فيها .كان يخشى توقف الشخير وصحوة العجوز .وكانت طبقات الثلج تتراكم في الجسد الخمري .لا شيء الا عيون متخشبة.
هي وامها في اعمق لحظات النوم ... المطر يستعرض الغضب ..لم ينم محمود.. اغلق باب الغرفة الاخرى واستقطبها في الخيال .. ربطها على الشباك حتى تعرق وتعالى لهاثه ..احس بوجع في الظهر وتورم في. ثم خمد جسده ... سحب مديته وحكمها بحذر في الصندوق الصغير المزخرف الابنوسي .. قلع عين الفيل الصغير ثم شق احشاءه وحرك الصندوق .. خبأ قطع المصوغات في جيب دشداشته وعدل شعر راسه المجعد ... ترك الباب مفتوحا ومضى يقاوم الوحول .
تذكر وهو يصب طاسة العرق الثانية في احشائه ان صانع المصوغات قد حدجه بنظرة المجرب واشترى منه بسعر زهيد.. كان طير قد نقش ذرقه على التجعد لحظة اهتزت سعفة برحي قرب ساقية ساكنة قبيل الغروب .على ضفة نهر تم كريه من سنتين فتحول الى شبه سلسلة جبلية من الطين المتيبس .
ــ قلت لك يا بنتي ان بن خالتك محمود مثل امه ,متفسخ ونذل .
ــ لم اتوقع ...
ــ كلما حذرتك تقولين <يتيم وخطية >
ــ الذهب خلاص .. والكلام لا ينفع يا امي .
بعد شهرين وقد نفذ كل درهم يملكون ,جمعت الام دفاتر الفتاة المدرسية القديمة وبعض الكتب وقصدت البائع ... لم تدرك بان اعظم رسائل العشاق ستلف بها الحلوى لقد كان العطر فيها ينحب بين السطور : (حبيبي والله لا اشتهي الزاد ولا اعرف النوم .....).
عاد محمود بعد شهر وسخا اشعث يرتدي سروالا نيليا وقميصا رصاصيا وقد ثبت الخنجر على الحزام تحت ملابسه.. منتصف الليل... فوضع قطرات من التيزاب على القفل فتفكك ودخل ..كانت وحدها ممدودة على البطن .. تامل الافخاذ الناصعة الراوية ولعق شفته باللسان واطبق عليها .. صرخت .. كان الضجيج يصادر الصرخات.. والمطر ينهمر كريات بيضاء.. تمكنت اخيرا من الوصول لمفك فطعنته على فروة الرأس فصرخ مضرجا وهرب كالبرق .. بسرعة خيط متوتر مقطوع ..
ــ امي انها فضيحة لو بلغنا الشرطة ...
ــ ربما يكررها
ــ اظنه سيموت لان المفك نزل عميقا وفي المطر لا يجد مسعفا ولا عجلة تقله ..نتركه لله ان ظل حيا ..
ــ؟؟
ــ لالا : فقط تمددعلى ظهري ولم يستطع .. جابهته بضراوة .
ــ المهم تعدت بسلام يا بنتي .. كنت اخشى ....
ــ لا لم يستطع
كانت ترد والدموع تنهمر والجبين يتغضن .. والام تمطرها بنظرات اشفاق ....
كان سالم قد نزل باجازة بملابسه المرقطة في سكون ومطر وفي زاوية غامضة تلقت بطنه خنجر محمود فتهاوى ... وكرر الطعنات العشر .. وانبت الخنجر في القلب باخر طعنة .. وبلا رفة جفن سحب سالم قرب الضفة وحفر له ودفنه.
بعد ولادة محمود بسنة انفصلت امه .. الخمرة والبحث عن صغار حلوين كان عالمه .. محله قد فتح من غرفة في الدار .. يقضي الليل بترويض الصغار في محله بين جلات التمر والقصب ومسجل مستطيل يصدح باغان هندية .. تحملته سميرة طويلا .. نبهته فصفعها وانّبته فادماها .. حزمت صرة قماشها لمنزل امها الوحيدة الضريرة فاعادها سحا من الشعر ...حاملة محمود في سلة خوص فرشت ارضيتها بالقش ...لم تنفع معه الرموش المكحلة ولا صبغة الديرم على شفة بحجم زيتونة ولا قوة البياض على جسد مشدود ولا المشي بغنج شبه عارية ولا كلمات العشق التي حفظتها من اغاني الخشابة ولا الدموع .. كان حجريا معها .. سيالا كنهر مخضر صغير مع صغاره .كان يجثم على الظهور الغضة بقوة ثور حتى يتعالى صراخهم ..ويخرسهم بصفعات حجرية على القفا , مزمجرا .(ابن الكلب : ارفعها )..
في دكان التمر وفي ظهيرة تموز اوقف نبضها بمنشار ثلج ودفنها في مزبلة نائية .. عميقا في الارض .قبل سنتين من مشاجرة انهته بضربة قنينة زجاج مثلومة .
البيوت اسراب تتنقل في اللوريات .. الاحياء تقفر الا من اصر على البقاء تاركا المصير للقدر .. الفاو تحولت فارسية وتغربت الحناء وتهاوت بساتين النخل تحت نار الحديد وقسوة المجارف .. شمالا ينتقلون .. يتوزعون على المحافظات ..اسودت الانهاربالسمك بعدما هجر الصيادون الشباك ..القطط وحدها تجوب الازقة كان ذلك منذ عقدين ..حينما كتبت نوار لارشد بخط قلق (تعال ..اشتقنا لك ) بعد ساعات وجد نفسه بين خطوط السكة الحديدية طاردا وحشة غمرته وهو يدنو من المحطة وطرق عليهم الباب عصرا . العجوز تشخر والفتاة تتخشب واصابعه تحاول فك الطلاسم المثلجة ..وفك اسرار كرتها اليسرى بلون الثلج .. واحس بتعرق خفيف على التقوس اللؤلؤي .. ونزل باصابعه وبلغ الهملايا فانّت ثلاث انات فصحبها لغرفة مظلمة وفقد صبره فتهاوت مزهرية اصحت العجوز
ــ اين انت .. نوار!!
ـ هنا ... اتيتك امي .
خلافا لما توقع وجدها في اليوم الاخر في انكسار غرقى في خجل .. وقالت له خفيضة العيون وباحساس فاجع : (لن نكررها ..لا استطيع ).
عشرون عاما مضت..لقد تناست محمود .. صغيرا يزورهم مجعدا صامتا يصنع الزوارق المصغرة من بقايا الورق والدفاتر لم ينطق يوما ..ولم يرفع بصرا الى بشر ..دشداشة مخططة وقلب ضائع .. الخيال وحده ينسج عالمه ..
بعد طلاقها نسيت الخصلات الكثيفة .. الملابس تتكور مدفوعة من الخزنة الى الارض ..الجرذان تعبث لا تطاردها صفعة مكنسة ولا زرنيخ خفي في قطعة رغيف مدهنة ..تخيط وتاكل ..بدات تعاني الغثيان منهن كلما عزفن سمفونية (الله كريم .. ستفرج )..المطر يتقطر من السقف .. تذرف دمعا مختصرا وتقرأ الفاتحة على ام اجهزت عليها .. كلما اتى خطيب مناسب رفضته .. فقط تريدها معها تساندها في شيخوخة ترفض الخضوع لها..بذلت كل المحاولات معها لتقر بالمبادلة (افخاذ من اجل المال).. لم تنجح الام بهندسة الفتاة ..انها الان ادعية وماكنة خياطة ..شاهدة على سرية البيوت ..على صراع لا يتثلج لحظة ..انهن افخاذ ليلا وطبخ وصفع في الصباح ..ينسجن احلاما من خيوط العنكبوت ويصهرها فرن الواقع ..
استشار ارشد الثعالب الاشد مكرا .. وخبراء الانفس..ارسل العينات لادق المختبرات .. لم ينجح ..الزمن يطوي السنوات وزهرة الجعفري عصية ..وكلما دنا ابتعد ..تمركزت في الذاكرة كوباء لا ينال منه الاستئصال ,او طلسم اعجز المفسرين وقراء الفنجان ..عشرون سنة وهو ينقب عن المفتاح في محيط من القش في ثورة العاصفة .
ــــ تعال فجرا قبل ان يندلع ضجيجهم .. سترى الباب مفتوحا ..اخبرته بذلك في السوق قرب بائعة ادوات الخياطة .. لم ينظر اليها ..فقط ابتسم محدقا باشرطة بلون زهرة الجعفري .. هو لون الحمالة نفسها قبل عشرين عاما , حين كان الشخير يتواصل وعيونها تتخشب لمهارة اصابعه .
#كاظم_حسن_سعيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟