أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - علي فضيل العربي - حديث عن أم ريفيّة ( 4 )















المزيد.....

حديث عن أم ريفيّة ( 4 )


علي فضيل العربي

الحوار المتمدن-العدد: 7394 - 2022 / 10 / 7 - 02:24
المحور: حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات
    


قال لي صديقي الريفيّ : أحببت الريف حبّا جمّا ، لمّا سكنت المدينة . لم اكتشف جماله و سحره ، و أنا في أرجائه . اكتشفتهما ، و أنا بعيد عنه . هنا ، أدركت أنّ الأشياء الجميلة ، لا نحبّها إلاّ بعد الابتعاد عنها ، أو عندما نفقدها . مثلما يحدث للمرء ، الذي لا يقدّر النعمة ، إلاّ بعد فقدها و زوالها عنه .
و أردف مستغرقا في بوحه قائلا :
كنت أزور أمّي الريفيّة كلّ أسبوع ، و قد تؤخرني – أحيانا – بعض شؤون العمل ، فيمتدّ غيابي عنها أسبوعين أو ربّما شهرا . و هو أقصى مدّة أبطيء فيها عن زيارتها .
و كان فصل الربيع في الريف أجمل الفصول و أسحرها منظرا و نسائم . فقد حبا الله ريفنا – حيث تسكن أمّي – بنعم لا تعدّ و لا تحصى . و كانت أمّي ، رغم تقدّمها في العمر ، لا يهدأ لها بال ، حتى تضع الأشياء في مواضعها . تنهض و الطير ما تزال في وكناتها ، و لا تأوي إلى كوخها إلا بعد صلاة المغرب .
كنت أشعر بسعادتها الغامرة ، حين أزورها . تستقبلني باسمة الثغر ، مشرقة المحيا ، وئيدة الممشى ، مستندة على خيزرنتها ( عصا من شجر الزيتون مقبضها معقوف ) . تردّد على مسمعي ، على عادتها ، عند كلّ زيارة لها :
- لا أدري ، كيف تطيق العيش في المدينة بين أكوام الإسمنت و الضجيج و ضيق الأفق ؟
- الله غالب على أمره ، يا أمّاه ، لا نحصل – دائما – على ما نرغب فيه . قد تجبرنا ظروف الحياة على العيش في مكان لا نودّ قربه .

و أذكر أنّني لمّا عزمت على الاستبيات ( الزواج ) و ( إكمال نصف ديني كما يقول الريفيّون عندنا ) ، و أخبرتها بذلك ، قالت لي :
- لقد تأخرت يا بنيّ . أكلت أولادك في كرشك ( تأخرت عن الإنجاب ) .
و كان عمري آنذاك ، قد نيّف على الخامسة و العشرين .
قالت أيضا :
- أنا ، يا بنيّ ، لمّا كنت في سنّك ، كان عندي خمسة بطون ( أبناء ) .
و طفقت تعدّهم واحدا واحدا : محمد ، الزهراء ، معمر ، علي ، خيرة ..
- لكنّ زماننا يختلف عن زمانكم ، يا أماه . نظرتنا إلى الحياة غير نظرتكم . بنات زماننا يختلفن عنكنّ ، لا يردن الزواج قبل العشرين . إنّهنّ يشترطن الشاب الموظف بمرتب جيّد ، و منزل مستقلّ عن العائلة ، و غرفة نوم فاخرة ، و سيارة و مهر و هدايا . و قليل من الشباب من تتوفّر لديهم هذه التجهيزات .
- هذه قيود جائرة . تزوجت بأربعة دورو ( ربع دينار ذهبي ) ، على عرف سيدي معمر بومكحلة ( بندقيّة ) . و صندوق خشبي ّ و حصير من الدوم ، و زاد ( مهر ) ، عبارة عن كبش و قطار سميد و قدر دهان ( زبدة تقليدية ) و محرمة ( منديل يوضع على الرأس ) . عشت سعيدة مع مولى بيتي ( زوجي ) ، قانعة ، راضيّة بنعم الله . زمانكم ، يا بنيّ ، زمن العجائب و العنوسة .
- أجل ، يا أماه . لقد تغيّر الحال و الرجال .
قال صديقي الريفيّ :
و لمّا كشفت لأمّي الريفيّة ، عن نيّتي ، في الزواج من زميلة لي في العمل ، و هي شابة في الثانيّة و العشرين من عمرها ، جميلة ، دمثة الخلق ، تمشي على استحياء ، متخرّجة من كليّة الآداب ، و تعمل مدرّسة مثلي ، و من أسرة نازحة من الريف ، منذ أوائل أيّام الاستقلال ، أي حوالي خمسين سنة . رمقتني بنظرة عتاب و استنكار ، و قالت :
- هذا الذي كنت خائفة منه . تريد الزواج من بنت المدينة ، و تترك بنت الريف الأصيلة . هذا لن يكون أبدا . أتريد السير على درب ابن عمّك الذي همل ( تاه ) في المدينة بعد زواجه بعداسيّة ( غجريّة ) من المدينة ؟
- كلا ، يا أمّاه . إنّها فتاة ذات حسب و نسب . أعرفها و تعرفني منذ أيام الجامعة . أهلها ريفيّون مثلنا ، لكنّ ظروف الحرب و المعيشة أجبرتهم على النزوح إلى العاصمة .
- و هل نشأت و تربّت في الريف ؟
- لا ، بل ولدت في المدينة ، و نشأت فيها .
- إذن ، امرأتك ( زوجتك ) ، موجودة ، و قد اخترتها لك و قيّدتها ( حجزتها ) منذ بلغت الفطام ، فلا داعي للبحث عن أخرى .
ثم أردفت ، بعد صمت يسير ، قائلة :
- زوليخة ، بنت جارنا ، الحاج بومدين . لقد بلغت سنّ الزواج .
و كانت عمر زوليخة ، يومها لا ينيف عن السادسة عشرة . حفظت بضع سور من القرآن في قربيش الدوار ( مدرسة قرآنيّة تقليديّة ) ، و عند نهاية المرحلة الابتدائيّة ، و نظرا لبلوغها سنّ الثانية عشر ، أوقفوها عن الدراسة ، و ألزموها المكوث في البيت ، بحجة بلوغها سنّ الزواج .

نصحتني بالزواج بها ، فهي امرأة ريفيّة ، عودها صلب ، ممشوقة القوام ، جادّة ، مجدّة ، معلومة الحسب و النسب – مثلها – كي تخدمني ، و ترضع لي ذريّتي ، و تطيعني في السراء و الضرّاء ، و في الحضور و الغياب ، و سوف لن ترهقني بطلباتها الكماليّة ، و حذرتني من الاقتران بامرأة من المدينة . لأنّ هذه الأخيرة ، لن تستطيع الصبر معي على الحلو و المرّ ، و لن ترضع الأولاد ، بل ستلجأ إلى الحليب الاصطناعي ، حفاظا – كما تزعم – على ثديها من الارتخاء و الترهّل .
و أردفت أمي الريفيّة - قال صديقي الريفيّ – قائلة بنبرة وجلة ، ناصحة :
- نساء المدينة ، يا بنيّ ، يجهلن حياة الريفيين ، من أمثالنا . هنّ لا يعرفن من شؤون البيت مثلما نعرف . و هنّ لا يخدمن الزوج مثلما نخدمه في الريف . لا يخبزن و لا يعجنّ و لا يغربلن و لا يحلبن ، و لا يطبخن طبخنا . هنّ لا يعرفنا سوى تحضير الفريت ( قلي البطاطا ) ، أو البيض ، و غالبا ما يلجأن إلى اقتناء الأكلات المصبّرة ، أو جلب الأكل الجاهز من المطاعم السريعة ، اعتمادا على خدمة التوصيل .
يا بنّي ، إنّ تزوجت من امرأة ، ليست من جلدتك ، و هواها غير هواك ، سترهقك بطلباتها و سلوكها . فهي امرأة نؤوم حتى الضحى ، ستضطر إلى تحضير قهوتك الصباحيّة بنفسك ، أو ستشربها في أقرب مقهى يصادفك . سوف تشتاق لأكلنا الريفيّ الصحّي .
و واصل صديقي الريفيّ حديثه عن أمّه الريفيّة ، و كأنّه كان يغرف الحديث من بحر :
كانت أمّي الريفيّة توّد أن لا أغادر الريف ، و أنزح نحو المدينة . ففي الريف – كما قالت أمّي الريفيّة - راحة البال ، و الهواء النقيّ ، و جمال الشمس و القمر . و الريف موطن الصبر ، و منبع الجود ، ساحة الرجولة و المروءة و الشجاعة و القناعة .
و لكنّ زواجي من بنت المدينة ، وأد أمنيتها المعسولة . لقد أسرّت لي ، بأنّها خائفة من المستقبل ، على مصير الأرض و الكوخ ، بعد رجوع نفسها إلى ربّها . فهي ترى كلّ يوم نزوح الشباب نحو المدن دون عودة . و إذا تواصلت هذه الهجرة الشبابيّة ، المعلنة و السريّة ، فإنّ الريف سيخلو من أهله ، و يمسي يتيما .



#علي_فضيل_العربي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حديث عن أم ريفيّة ( 3 )
- العقل قبل كل شيء
- حديث عن أم ريفيّة ( 2 )
- حديث عن أم ريفيّة
- الكتاب الورقيّ في عصر الرقمنة.. ما محلّه من الإعراب ؟
- الحرب النظيفة و الحرب القذرة
- أزمة الذكورة و الأنوثة في المجتمع العربي ؟ أين الخلل ؟
- تثقيف السياسة
- هل سيندلع الشتاء الأوربي ؟
- الفلسفة و الحرب و السلم
- قوارب بلا تأشيرة
- على هامش الصيف
- ماذا بعد الحرب الروسية الأوكرانيّة ؟
- وجهة العالم المعاصر . إلى أين ؟
- لماذا الحرب أيّها العقلاء ؟


المزيد.....




- المحكمة العليا في بريطانيا تقضي بأن المرأة هي الأنثى بالولاد ...
- وزارة شئون المرأة الفلسطينية تنشر تقريرا يوثق العنف الممنهج ...
- بريطانيا: المحكمة العليا تقر التعريف القانوني للمرأة على أسا ...
- بريطانيا.. المحكمة العليا تقرّ أن المرأة أنثى بيولوجيا فقط
- المحكمة العليا البريطانية: المرأة قانونيا هي المولودة بيولوج ...
- 62 درجة تحت الصفر.. امرأة توثق حياتها في أبرد مدينة بالعالم ...
- -آكشن إيد-: ارتفاع كبير في حالات سوء التغذية الحاد بين النسا ...
- تحقيق واسع النطاق في النيجر بحثا عن امرأة سويسرية
- بسبب أزياء تشابه -ملابس النساء-.. علاء مبارك ينتقد فنانين مص ...
- الأمم المتحدة: الاغتصاب يُستخدم كسلاح حرب ضد النساء في السود ...


المزيد.....

- كراهية النساء من الجذور إلى المواجهة: استكشاف شامل للسياقات، ... / خليل إبراهيم كاظم الحمداني
- الطابع الطبقي لمسألة المرأة وتطورها. مسؤولية الاحزاب الشيوعي ... / الحزب الشيوعي اليوناني
- الحركة النسوية الإسلامية: المناهج والتحديات / ريتا فرج
- واقع المرأة في إفريقيا جنوب الصحراء / ابراهيم محمد جبريل
- الساحرات، القابلات والممرضات: تاريخ المعالِجات / بربارة أيرينريش
- المرأة الإفريقية والآسيوية وتحديات العصر الرقمي / ابراهيم محمد جبريل
- بعد عقدين من التغيير.. المرأة أسيرة السلطة ألذكورية / حنان سالم
- قرنٌ على ميلاد النسوية في العراق: وكأننا في أول الطريق / بلسم مصطفى
- مشاركة النساء والفتيات في الشأن العام دراسة إستطلاعية / رابطة المرأة العراقية
- اضطهاد النساء مقاربة نقدية / رضا الظاهر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - حقوق المراة ومساواتها الكاملة في كافة المجالات - علي فضيل العربي - حديث عن أم ريفيّة ( 4 )