سليمان جبران
الحوار المتمدن-العدد: 7385 - 2022 / 9 / 28 - 17:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
سليمان جبران: عن التاريخ الشفهي!
قبل سنين أردتُ تسجيل ما جرى معنا سنة 48، إبّان الاحتلال، وما
أزال أذكره أيضا. اتّصلت بأحد المؤرّخين الجدد، سائلا عمّا جرى
لنا في قريتنا البقيعة، فأفادني، ولا أشكّ في أقواله، أنّه لم يقرأ ولا
سمع بذلك في أيّ شهادة شفهيّة أيضا. لكنّي ما زلتُ أذكر تلك
الفترة جيّدا: أذكر أنّنا كدنا بصفتنا مسيحيّين نرحل عن قريتنا في
تلك الأيّام، وأذكر أيضا صداقة لنا من المسيحيّين في الرامة
المجاورة، بِنْت تلك الفترة التي خرجوا فيها هم أيضا من قريتهم.
فهل أكذّب نفسي وأصدّق المكتوب، وأنا & بكامل قواي العقليّة& ؟!
لهذا السبب استحدثَ المؤرخون في عصرنا هذا ما يسمى: التاريخ
الشفهي. فالمؤرخون المحترفون ليسوا مرجعا موثوقا أحيانا. قد لا
يذكرون في كتبهم وقائع معيّنة؛ إمّا عمدا إذا لم توافق هواهم، أو
سهوا. أمّا التاريخ الشفهي، من أفواه الناس، فيذكر وقائع كثيرة،
على لسان ناس عرفوها، وخبروها على جلودهم أحيانا.
إلّا أنّ التاريخ الشفهي ليس مرجعا موثوقا دائما أيضا. قد يذكر
أحدهم وقائع توافق هواه، لكنْ لا أساس لها من الصحّة ! لذا يجب
على المؤرّخين الجدد الحذر والحيطة أيضا: قبول ما يركب على
العقل، بالاسم الصريح لناقله أيضا، ورفض ما تدحضه الوقائع،
خصوصا إذا أبدى ناقله الرغبة في أنْ يظلّ مجهولا!
ذهبتُ يوما لسماع محاضرة لأحد المؤرخين الجدد الموثوقين، فإذا
به يذكر، بالاعتماد على شهادة شفهيّة من & مجهول& ، أنّ ثمانين
ألف لاجئ تجمّعوا في إحدى القرى & المحميّة& سنة 48! فلا الرقم
هذا معقول، يومها بالذات، والعرب الباقون في قراهم كلّهم كانوا
حوالى مئة وخمسين ألفا، ولا مصدر الخبر أيضا موثوق، غير
مغرِض، خصوصا وقد ظلّ الاسم الصريح لناقل الخبر مجهولا!
مجزرة الطنطورة هي خير مثال على ما نقول. ليست هذه المجزرة
جديدة بالنسبة لي، أنا المخضرم، وقد سمعتُها من سنين بعيدة،
وصدّقتُها أيضا، على ألسنة الناس، دونما ذكر لاسمائهم الصرييحة.
قبل سنوات قام أحد المؤرخين بكشف ما جرى في الطنطورة،
بالاعتماد على شهادات شفهيّة جمعها من أبناء القرية الذين كانوا
يومها صغارا. لكنّ الشهادات الشفهيّة تلك كانت مخربطة، يشوبها
بعض التناقض والاضطراب أحيانا. فتألّفتْ لجنة جديدة لنفي ما
ورد في تلك الشهادات جملة وتفصيلا، بالاعتماد على أخطاء ثانويّة
وجدتْها اللجنة تلك، في بعض الشهادات. في الفترة الأخيرة،
سمعتّ بأنّ المؤرخ نفسه أعاد الكرّة، ليُثبت أنّ ما ورد في بحثه
سابقا كان شهادة صادقة!
للتلخيص نقوال: التاريخ الشفهي مصدر هامّ لحفظ ما أهمله، أو لم
يذكره التاريخ. لكنّ هذا المصدر لا يُعتدّ به إلّا ذا كان موافقا
للمنطق والفكر السليم، ويحمل أسماء ناقليه الصريحة أيضا!
#سليمان_جبران (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟