|
الوجود الواحد ووحداية الوجود
عباس علي العلي
باحث في علم الأديان ومفكر يساري علماني
(Abbas Ali Al Ali)
الحوار المتمدن-العدد: 7382 - 2022 / 9 / 25 - 08:33
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في البداية أن نقول أن "الوجود واحد" يعني أنه غير قابل للتعدد أصلا ولا يمكن أن يكون عبارة عن أجزاء منظمة أو منتظمة في وحدة تجميعية أو تكاملية تحت ظرف أو موضوع خارجي عنه إن أنفصلت عنه أنفصلت الوحدة وتبعثرت، أي أنه واحد بالذاتية والماهية والشكلية وما يلحق ذلك من فعل وأثر ونتيجة، فالإنسان مثلا كائن متعدد وليس واحد لأن في داخل التسمية والدلالة أكثر من واحد، هناك الرجل والمرأة وهناك القوي والضعيف وهناك العاقل والمجنون مثلا، لكن عندما نقول أن المادة وجود واحد فلا يمكن أن نتصور أكثر من شكل وماهية وفعل وأثر متعدد للمادة بأعتبار أصغر جزء فيها وهي الذرة، فالذرة التي هي الصورة المتناهية الصغر للمادة بشكلها الكامل لا يوجد فيها ذكر ولا انثى ولا قوي ولا ضعيف ولا عاقل وعكسه، نصل لفكرة أن الواحد يمكن أن يكون متعدد مع أنه واحد لأنه أصلا موحد وليس واحد، وبين الواحد المتعدد الذي هو أصلا واحد لكنه وجوده تعدد ليس لأنه قابل للتعدد ولكن لتعدد وجوده في الوجود. من المسائل الفلسفية وخاصة الشرقية منها نظرت للوجود المادي ليس من كونه حقيقة مجردة بذاته من دون أن نربط هذا الوجود بالماقبليات أو البعديات، رأت في الوجود الطبيعي ووفقا للطبيعة العقلية الشرقية الغارقة في روحانية التفكير التأملي، أو ما يعرف بالتوجس الروحي عندما تنظر بعمق للأشياء فأنها تستحضر وعيها القديم المتأصل فيها عبر تجربة وجودية مفعمة بالأحاسيس، لذا فالنظرة الفلسفية الشرقية يمكن وصفها إطلالة روحية على واقع مادي فلا هي جردت النظرة من ما هو خارج عنها، ولا هي عكست الإحساس الذاتي لتقدم لنا تفسير مثالي بعيدا عما يطلق عليه بالنظر الفلسفي، فمثلا عندما أرادت تدرس الوجود المادي الطبيعي على أنه حقيقة مطلقة، رأته فيض الإله لا أكثر والإله هو كل شيء في الوجود مع أنه لم تستطيع أن تمنح هذا الإله الشيئية الوجودية، نعم قالت أن الأصل فيه والوجود مجرد إنعكاس له أو عنه ولكنها لم تقترب من المحرم الإحساسي التأملي والسؤال المثير، هل الله أو الإله وجود ما؟ لا نتكلم عن علاقة بينهما بل نتكلم عن علاقة تربط ماهية بماهية، هذا السؤال يظن العقل الشرقي الروحاني من الممنوعات العقلية كما أنه من المحالات الطبيعية. الفلاسفة الشرفيون على اختلاف تصوراتهم عن الإله وحقيقته وأسمائه لا ولن يقتربوا من البحث في الماهية لكنهم أستغرقوا كثيرا في البحث عنها بالوجود، هم يبحثون عن الذات المطلقة من وجه نظر لها جذور إيمانية والتي تتراوح بين المطلق والكلي والوعي الكلي والعقل الكلي والطاو والقوة العظمى وغيرها، وهذا يعني أن كل ما هو موجود إنما هو انطباع لذلك الكلي وتجلٍ له فليس في الوجود شيء غيره، مع أنهم لم يشرحوا أو يفدموا لنا تفسيرا جديا وموضوعيا للشيئية الخاصة به، بقولون أن وحدة الوجود تعني لهم الصورة والمظهر وهذا يكفي لإعلان الوجود، بمعنى متداول لديهم (أن الله هو الوجود الحق، ويعتبرون الله صورة هذا العالم المخلوق، أما مجموع المظاهر المادية فهي تعلن عن وجود الله دون أن يكون لها وجود قائم بذاته)، هذا التقديم تأملي ذهني مجرد من الواقعية الحقيقية ويفتقد أيضا للترجمة العملية للشيئنة التي هي معيار وجودي صرف، أي أننا عندما نقول أن الليل هو عبارة عن غياب الشمس في الأفق غير مخطئين في الوصف، ولكن الواقع العلمي يقول أن غياب الضوء اللازم للرؤيا هو سبب الظلام بجميع الأحوال، بمعنى أن ليس كل ظلام هو غياب الشمس بل كل غياب شمس هو فقدان لمصدر الضياء اللازم للإضاءة. السؤال المطروح هنا إذا كان مفهوم وحدة الوجود لم يقدم لنا لا تفسيرا ولا تبريرا لمعنى الوحدة التي أفترضها بسبب أنه قسم الوجود الواحد لقسمين، وإن كان يدعي وحدته، فالوجود عند أهل وحدة الوجود بالحقيقة وجودان الأول "واجب الوجود" والأخر "مستوجب الوجود"، الأول هو الوجود الحقيقي الكامل بذاته ولا وجود لغيره لأنه أصلا واجب بذاته وهو الحق، الأخر ظل للوجود الحق فلا موجود إلا الله، فالثاني إذا متعلق وجودا وعدما بالأول وعليه تقرر نظرية وحدة الوجود أنه" ليس ثمة فرق بين ما هو خالق وما هو مخلوق"، هذا ما نقول عليه أنه تعدد في ذات الواحد عندما يكون الوجود كما يصورنه أصل وصورة ووجود وإنعكاس للوجود، هذا التعدد ينفي الواحدية بل يؤكد على التركيب والتعددية في ماهية وشكل ودلالة الموضوع الوجودي. نعود إلى الواحدية الحقيقية التي تفسر ما تعسر على النظرية السابقة في وحدة الوجود، هذه الواحدية تقول ليس للوجود إلا شكل واحد مطلق ونهائي وكلي، إن تعديناه لم نعد أمام وجود واحد مطلقا، ولكن المظاهر الوجودية الموجودة في الوجود ما هي إلا تكرار للواحد في سلسلة من التشكيلات الظاهرية، لا تفقد الشكل الأول ماهيته ولا شكله ولا شيئيته ولا حتى أثره في الوجود، لأنه هو الوجود وما عداه تعداد وتعدد في التركيب، الوجود المادي عبارة عن تفاعل سلبي وإيجابي في نقطة الصفر المطلق، في هذه النقطة كل ماهية الكون وطاقته مكتنزة ومضمرة فيه، أي حركة في هذا التكوين هي سبب كل حركة في الوجود لاحقة ومؤثرة وفاعلة، الوجود كله عبارة عن مادة بشقيها الطاقة الكامنة والجزيء المتحرك في وحدة نهائية مطلقة "لا تذهب للعدم ولا تأت منه"، الوجود الواحد الكلي العظيم الشاغل للفراغ المطلق هي الذرة في كامل تشكيلاتها وما فيها من طاقة وحركة جوهرية، إن أنقسمت لم تعد مادة بالمعنى العام لكنها جزء من وجود واحد غير مكتمل، وإن تكررت في عمليات أتحاد متنوعة ومتعددة أنتجت مظاهر الوجود، فكل وحدة للوجود مرتبطة بوحدة الذرة الأحادية. بين واحدية الوجود وبين وحدة الوجود مسافة بعيدة جدا في الرؤيا والرسم والنتيجة، وحدة الوجود فكرة مسبقة أسقطت على الواقع لتعيد توصيفه خارجا ولي كما هو كاملا، أي تنظر للوجود من زاوية واحدة فقط، مصدر هذه الفكرة تجربة خارجية وداخلية متعلقة بالإحساس والشعور والإدراك الذي أنشأ في العقل "مفهوم الإيمان" بوجود ذات وجودية خالقة خارجة عن الوجود المخلوق، هذا الإسقاط لو عدنا وأفترضنا أن الإيمان به لم يتبلور بعد بالكيفية التي طرحها ما يعرف بوحدة الوجود، أي أن العقل لم يتعرف بعد على مسمى الله وسئل السؤال الوجودي، ما هو الوجود؟ سيكون الجواب بالتأكيد هو الموجود المدرك، وما قبله، وما بعده، وكل العلائق التي تربط التوصيفات الثلاثة الآن وما قبل وما بعد، الإجابة إذا تكون ببساطة "الوجود نحن" بالمعنى الشمولي، أي لمعنى المادة كما هي وكما نتصورها وكما هي حقيقة، عندما نقول أن الفلسفة الشرقية تسقط الإيمان على العلم هذا يجرنا إلى قضية أخرى لا يمكن تجاوزها وهي "أين الله في الوجود؟"، هذا السؤال الذي يجب أن يقدم له تفسيرا ضمن إطار واحدية الوجود. قلنا أن الوجود مادة مهما تعددت فهي ترجع لأس واحد لا يمكن أن تحتفظ بهذه الشيئية التكوينية والتكيفية إن قسمناها إلى مفرداتها الجوهرية الأصغر، وهي أيضا عبارة عن مكون متناقض ومتضاد لكنه موجود في وحدة تضمر الطاقة سلبا وإيجابا، وبدون هذه الثنائية لا يمكن أن تكون مادة، الذرة فيها الكثير من المكونات الرئيسية فيه إليكترون سالب ونيترون موجب والباقي عوامل تفعيل وتوازن تخضع أما للسالب وأما للموجب، السالب هو من يتحرك بحرية في فلك منضبط، والموجب مستقر يضبط حركة السالب بالجاذبية ويستجيب لوجوده المعاكس ليحفظ حركة كلية للذرة، الناظر من الخارج للداخل يرى فعل وردة فعل من الطرفين، فقانون الجاذبية ليس فيه فاعل ومفعول به بل كلا من طرفيه فاعل ولكن بأتجاه معاكس، هذا التعاكس هو سر بقاء الجاذبية وبقاء السالب والموجب في الحركة، الفاعل الأكبر بينهما هو المسيطر لكنه مسيطر من خلال ضعف الأخر، وسيطرته محكومة متبادلة متعلقة بالتضاد بقاء وعدما، عندما يفقد السلبي طاقته ينفرط عقد الوجود المادي، وعندما يقوى الطرف الضعيف عن حدوده الطبيعية يصطدم بالتفلت المؤدي لنفس النتيجة، هذا الواقع هو تفسير واحدية الوجود لطرفيه "الخالق والمخلوق"، الله طرف من الوجود في حالة أستلزامية للطرف الثاني الموجود المدرك وما قبله وما بعده وكل الأطر والعلاقات الرابطة بينهما لتشكل مفهوم الوجود الواحد. مهما عظمنا الصورة والماهية والشيئانية لهذا الشكل الوجودي لم تتغير الأحكام التي تكلمنا عنها في موضوع الذرة، الحالق والمخلوق كلاهما في عملية تجاذب لا الخالق يضعف عن القدرة ولا المخلوق يقوى على القدرة، هذه العلاقة الأستلزامية نفسها علاقة مكونات الذرة، لولا وجود الخالق ما وجد المخلوق، ولولا وجود المخلوق لم يكن هناك شيء أسمه خالق، إذا العلاقة فوق أنها تبادلية محكمة مضبوطة لا تقبل التغيير والتبديل، فإنها أيضا بهذه الكيفية ضرورية لبقاء الوجود وديمومته على النحو الذي ندركه ويدركنا. هذا الحال هو حال وحدانية الوجود وواحديته الذي هو ليس تجميعا لمتعدد بأفتراض أنه واحد، ولا هو واحد لأنه ما عداه ليس حقيقيا بالوجود، الوحدة التي نبني فكرتنا عليها هي الكيفية والتكوينية التي تستعصي على التفكك أو التغير أو التبدل مع أزلية وأبدية في أنتظام الحركة والماهية والشكل والشيئية، لا تنتقص ولا تزيد ولا تتطور ولا تنتكس، إنها وحدة في أصغر ما يمكن ووحدة في أكبر ما يمكن، وحدة مطلقة تامة كاملة منتظمة في الفعل والنتيجة مع تبدل المتبدلات وتغير المتغيرات فهي باقية واحدة أصلية تملك قوة وحدتها بوحدتها لا بالتأمل ولا بالصورة والشكل الخارجي، وحدة ذاتية تربط الموضوع بها كما تربط نفسها بذات الموضوع في نسق فاعل _ فاعل وليس نسق فاعل _ مفعول به..
#عباس_علي_العلي (هاشتاغ)
Abbas_Ali_Al_Ali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صناعة الحرام والتحريم
-
أسطرة النص الديني تحريف للقضية أم تقريب للصورة؟
-
التناقض الفكري في منظومة الفكر التعبدي
-
الحقيقة وفلسفة السؤال ح3
-
الحقيقة وفلسفة السؤال ح2
-
الحقيقة وفلسفة السؤال
-
العروج إلى الله دراسة في المعنى اللغوي ح1
-
سورة يوسف جمالية الأداء اللغوي وعلمية الطرح الفكري ح2
-
ديني .. دين الذرة
-
سورة يوسف جمالية الأداء اللغوي وعلمية الطرح الفكري ح1
-
-يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ-
-
قصاصات الكهنة وشعار -مت أيها الإنسان-
-
ممالك وأمارات تحكمنا سقف الله وباسمه .
-
حروب المعبد الفاشي
-
المزاج العراقي وتوظيفه الديني.. الحسين ع إنموذجا
-
حرب النجوم الإلهية
-
التحول الأول .....في الدين والأخلاق ح1
-
التحول الأول .....في الدين والأخلاق ح2
-
الحركة في نص كل يوم هو في شأن
-
تقريب أم حوار أم تنقية الخلافات بين المذاهب والأديان ح1
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|