|
عندما يصبح الانتظار لعبة الفلسطينيين
بشار إبراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 1689 - 2006 / 9 / 30 - 09:08
المحور:
الادب والفن
تتعالق تجربة المخرج السينمائي الفلسطيني رشيد مشهراوي، مع تجربة المخيم الفلسطيني، بشكل عميق، لا يكاد يكون له انفكاك. بل إن مشهراوي الذي حاول أكثر من مرة الابتعاد عن المخيم، وجد أن المخيم يتسرَّب إلى موضوعه، ويجد له محلاً، عنوة، في فيض التفاصيل اليومية التي يعتني المخرج مشهراوي برصدها في الحال الفلسطينية، عموماً. إذاً، ليس الجديد في الفيلم الأخير للمخرج رشيد مشهراوي «انتظار»، هو العودة إلى المخيم، مرة أخرى، ولكن الملفت هو الخيار الذي انتهجه، هذه المرة، من حيث الانطلاق من داخل الوطن المحتل إلى الشتات، أي الاتجاه من الداخل إلى الخارج، وهذا مما هو مثير حقاً!.. إذ أن الفلسطينيين، والعرب، بقوا طيلة أكثر من أربعين سنة، يرنون أو يطمحون لتصويب الكاميرا نحو الداخل الفلسطيني. بل إنه في الوقت الذي لم يكونوا يستطيعون فعل ذلك، طيلة السبعينيات والثمانينيات، كانوا يرسلون معارفهم وأصدقائهم وزملاءهم، من سينمائيين ومصورين أجانب، لالتقاط الصور الأثيرة، من داخل فلسطين. ولعل البعض منا، على الأقل، يذكر كيف تحوَّلت المشاهد المصوَّرة في فلسطين، والتي وصلتنا عبر أفلام من طراز: «مشاهد من الاحتلال في غزة» لمصطفى أبو علي 1973، و«يوم الأرض» لغالب شعث 1978، و«وطن الأسلاك الشائكة» لقيس الزبيدي 1980، و«الذاكرة الخصبة» لميشيل خليفي 1980، و«عرس الجليل» لميشيل خليفي 1987، و«أطفال جبل النار» لمي المصري 1990.. إلى ما يشبه الأيقونات، وتثير الكثير، والمختلط، من المشاعر.. الآن يريد المخرج رشيد مشهراوي شأناً آخر.. إنه يحمل كاميراه، ويجلب طاقمه الفني، وينطلق من الداخل الفلسطيني، ليجول على الشتات الفلسطيني، في الأردن وسوريا ولبنان، يصوّر في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، ويسجِّل لانتظاراتهم التي لم يملّوها بعد انقضاء قرابة ستين سنة على طردهم من ديارهم. يحتاج مشهراوي إلى مبرر للقيام بهذه الجولة، على الأقل كي يقنع الممول الأوروبي لفيلمه، فتكون الحكاية من خلال الإدعاء بالبدء في بناء المسرح الوطني الفلسطيني، في غزة، حيث الدولة الفلسطينية الموعودة، بتمويل من الاتحاد الأوروبي، أو المجموعة الأوروبية، التي سيتكرر ذكر اسمها أكثر من مرة، وعلى أكثر من لسان، ووصل الأمر إلى حدّ الدعاية!.. بالاتكاء على سؤال: هل يمكن أن تقوم دولة بدون مسرح؟.. وسؤال: هل يمكن لمسرح أن يقوم بدون دولة؟.. وبناء على الرغبة ببناء فرقة لهذا المسرح، على أن تضم الفنانين الفلسطينيين من الداخل والشتات، ينطلق طاقم مكلَّف بالبحث عن ممثلين فلسطينيين، للمشاركة في فرقة المسرح الوطني الفلسطيني، المنتظر. الطاقم مكوَّن من مذيعة في التلفزيون الفلسطيني (تؤديها عرين عمري)، تريد البحث عن والدها الذي بقي في لبنان، ولم يلتحق بفلول شرطة أوسلو، ومخرج متجهّم (يؤديه محمود المساد)، يريد مغادرة فلسطين إلى غير رجعة، ومصور تلفزيوني (يؤديه يوسف بارود)، هو أقرب إلى عامل ماهر في تصليح أجهزة التلفزيون. من غزة إلى مخيمات الأردن وسوريا وأخيراً لبنان، يمتدُّ قوس الجولة (طبعاً الفيلم لم يقل لنا لماذا لم يتجه نحو حيفا وعكا ويافا والناصرة والقدس؟.. ولا لماذا لم يذهب إلى مصر والعراق والخليج العربي؟.. ولا لماذا لم يذهب إلى أوروبا أو الامريكيتين وحتى أستراليا؟..)، المهم أن الجولة تنحصر في مخيمات الأردن وسوريا ولبنان، حيث نلتقي بممثلين فلسطينيين محترفين، كما بهواة، ومتطفلين، ومتطلبين، ومتوسِّلين، باتت العودة إلى فلسطين مقرونة، عندهم في هذه الحالة، باجتياز الاختبار التلفزيوني، أمام كاميرا عمياء، ومخرج أكثر عماء، لن يأبه كثيراً للمشاعر والانفعالات التي يمكن لها ببساطة أن تضع المشاهد عند حافة البكاء. وسنراه غير مرة يقول بوجهه الخالي من أدنى التعابير: «اللي بعدو»!.. وهكذا باستثناء الممثلة الفلسطينية المعروفة عرين عمري، فقد استعار رشيد مشهراوي أفراد طاقمه من حقولهم الواقعية، فمحمود المسَّاد الذي يلعب دور المخرج هنا، هو في الواقع مخرج فلسطيني أردني، يقيم في هولندا، ولقد شاهدنا له العديد من الأفلام المتميزة، من أهمها فيلمه «الشاطر حسن»، الذي نال بفضله العديد من الجوائز. ويوسف بارود الذي يؤدي دور لوميير المصوّر، هو أصلاً مصور سينمائي وتلفزيوني، يعمل في هذا المجال في مصر، وهو ابن الفنان الفلسطيني المعروف، محمود بارود. ويمكن للمدقق الانتباه إلى مشاركة بارود في تصوير العديد من الأفلام المصرية، والكليبات الغنائية في مصر. وفي العموم تقصد المخرج رشيد مشهراوي أن يجعل غالبية طواقم فيلمه، من الفلسطينيين ما أمكنه ذلك، (مع كل الاحترام للمصور الفرنسي جاك بيس، ومساعد المخرج المصري صفي الدين) ففي مساعدة الإخراج كان المخرج طارق يخلف، الذي شاهدنا له فيلمين جيدين على الأقل، هما: الروائي القصير «الصورة الأخيرة في الألبوم» عن قصة شهيرة بالعنوان ذاته كتبها الشاعر سميح القاسم، والتسجيلي الوثائقي «الحمل والذئاب»، عن انتفاضة الأقصى. أما على مستوى التمثيل فقد حشد مشهراوي غالبية الممثلين الفلسطينيين في الأردن وسوريا ولبنان، كما استعان بهواة فن من المخيمات، وبناس عاديين، يعرفون تماماًَ التعامل مع الكاميرا، بكل العفوية والبساطة، وهذه إحدى سمات الفلسطينيين، التي منحتهم إياها كارثتهم التي يعيشون على إيقاعها. كأن المخرج رشيد مشهراوي أراد أن يجعل من فيلمه معادلاً فنياً لمنظمة التحرير الفلسطينية «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني». فيلمه يكاد يضم الجميع على تلاوينهم واختلافاتهم، بأملهم وانكسارهم، بنزقهم وطرافتهم.. في أمكنتهم الحقيقية، على المعابر والحواجز، وعلى بوابات الحدود العربية، وفي المخيمات.. هذا هو مجال المخرج رشيد مشهراوي الحقيقي؛ اللعب البصري في حواري وزواريب المخيمات، واللقاء مع اللاجئين الفلسطينيين المتناثرين فيها، والدخول في نسيجهم، فهو نفسه ابن أحد مخيمات قطاع غزة «مخيم الشاطئ»، بعد أن طرد الاحتلال أهله من مدينة يافا عام 1948، فعاش اللجوء، وخبره بنفسه، وصار نموذجاً لابن المخيم الذي يستطيع أن يقتحم العالم، بكاميرا.. من «حتى إشعار آخر» 1993، إلى «حيفا» 1995، ثم «تذكرة إلى القدس»2002، وصولاً إلى «انتظار»2005، تبدو مسيرة مشهراوي على صعيد الفيلم الروائي الطويل، مثقلة بالكثير من الهموم، التي تثير بدورها الكثير من الأسئلة: السينما، والمخيم.. التسجيلي والوثائقي، والروائي الدرامي.. وإذا كان رشيد مشهراوي نموذجاً للمخرج الفلسطيني الذي أدهش العالم، وفاجأهم بغتة بفيلم جيد، هو «حتى إشعار آخر»، نال بفضله الهرم الذهبي في القاهرة عام 1993، ولم يكن معروفاً كثيراً من ذي قبل، فإن هذا المخرج لم يستطع في أفلامه التالية أن يحاكي فيلمه الأول نجاحاً، وجودة في الصنعة، فأفلت في أفلامه التالية فرصة صناعة فيلم جيد. لا أدري حقيقة، ما العلة؟.. لكن يمكن الانتباه إلى أن فيلم «حيفا»، وعلى الرغم من نباهة الفكرة، غير الجديدة، وعلى الرغم من الاستناد إلى قامة فنية عالية، يمثلها الفنان محمد البكري، إلا أن هذا الفيلم، الذي أحبه على المستوى الشخصي واستلطفه وأشاهده باستمرار، جاء أقل تماسكاً، وأقل تكثيفاً من سابقه، وهذا كان حال فيلمه الثالث «تذكرة إلى القدس». تثير العلاقة بين السينما والمخيم، ما يشبه سؤال العلاقة بين الريف والرواية!.. فهل يصلح المخيم موضوعاً درامياً للسينما؟.. أم أنه يكتفي بالقيام بدور جيد كموضوع تسجيلي وثائقي في السينما؟.. ننتبه إلى المخرج ذاته في أفلامه التسجيلية الوثائقية، وننتبه أكثر إلى المخرجة مي المصري، فنقع على إجابة السؤال الثاني، أما السؤال الأول فسيبقى معلقاً، على الأقل إلى حين!.. في فيلم «انتظار»، ثمة لعبة ظريفة، كان يمكن التقاط خيوطها بحنكة فنية أقوى!.. دعك من الغمز الذي لم يستطع مشهراوي الاستغناء عنه، خاصة فيما يتعلَّق بسوريا، كدولة، وموقفها من السلطة الفلسطينية، تحديداً.. ولكن لماذا ظهر الجزء التسجيلي الوثائقي في الفيلم أقوى بكثير من اللعبة الدرامية؟.. ولماذا ظهر بعض الهواة أكثر تأثيراً من بعض الممثلين المحترفين؟.. ترى، هل حصل ذلك لأن ما هو درامي مكتوب في السيناريو، بينما ما هو تسجيلي وثائقي مكتوب في الواقع؟.. وهل جرى الأمر على هذا النحو، لأن الهواة ارتجلوا حالاتهم الحقيقية، بينما قام الممثلون المحترفون بأداء ما هو مكتوب لهم، وفق السيناريو المعدّ أصلاً؟.. وفي الحالتين، هل ترانا نشير إلى ضعف ما في السيناريو؟.. الآن، وقد قرأتُ السيناريو قبل التصوير، وشاهدتُ الفيلم، في نسخته الأخيرة، يمكن اكتشاف أن ثمة خللاً خفياً في بنية السيناريو لخصها أحدهم بالسؤال: إذا كان المطلوب من طاقم الفيلم، وفق أحداثه، هو إجراء اختبارات «تيست»، فما المبرر لوجود مذيعة أصلاً معهم؟.. ألم يكن من الممكن الاكتفاء بمخرج ومصوّر وكاميرا؟.. وما هو المبرر الدرامي لحالة النزق العالية التي تلبّسها صاحب دور المخرج في الفيلم؟.. ولماذا لم تجر أي تحولات في بنيته النفسية، خاصة بعد أن التقط فكرة تصوير «الانتظار»؟.. لقد بدأ المخرج أحمد في الفيلم نزقاً، وعندما بدأ الاختبارات لم يكن يعرف بالضبط ماذا عليه أن يطلب من المبادرين لخوض تجربة الاختبار. وشيئاً فشيئاً التقط فكرة تصوير «الانتظار»، وانتبه إلى أن «الانتظار» هو لعبة الفلسطينيين، فصار يطلب ممن يريد الاختبار أن يمثل «الانتظار».. حسناً، ولكن المخرج أحمد بقي متشبثاً بما بدا عليه منذ البداية، من نزق يكاد يصل إلى حد العجرفة، ولم يرأف بحال الفلسطينيين المُخْتَبَرين بين يديه، ولا حال الطاقم المرافق له، ولا حالنا كمشاهدين!.. وبالقفز فوق بعض الأخطاء على صعيد المعلومة المجردة، وعلى صعيد المونتاج، وبعض مشكلات التصوير، يمكن القول إن فيلم «انتظار» للمخرج رشيد مشهراوي، وهو يخوض في وحل المخيمات، لم يكن له أن يخرج دون أن يُصاب برذاذها. وبالمقدار الذي خاض في موضوع أقل ما يمكن وصفه بأنه «عويص»، وهذه الصفة تُطلق على العجين الذي لم يختمر بعد، أعتقد أن الفيلم كان يحتاج إلى شيء ما، حتى لا يكون «عويصاً» هو الآخر.
#بشار_إبراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العالم كما يراه بوش
-
إياد الداوود في ضيافة البندقية
-
أسئلة السينما العراقية المعاصرة
-
المخرج محمد ملص في جديده: (باب المقام).. أين المشكلة؟..
-
عندما يصبح ال «انتظار» لعبة الفلسطينيين
-
سينما الأصوات الصامتة في سوريا
-
جديد مجلة «الوردة»: وماذا لو فاق أبو زهدي؟..
-
تعاونية عمان للأفلام.. سينما الشباب في الأردن
-
الفلسطيني يحضر بموته.. رحيل المخرج مازن غطاس
-
عدنان مدانات.. بحثاً عن السينما
-
هموم شباب لبنان في صورته السينمائية
-
أسئلة شباب السينما المصرية المستقلة
-
ثلاث سنوات على حاجز سوردا
-
السينما المستقلة في سوريا
-
مشاهد من الاحتلال في غزة1973
-
ألمودوفار في سينما الرغبات
-
فلسطينيات بعيون إسرائيلية
-
عطش.. الذات الفلسطينية.. في المرآة السينمائية
-
فيلم (ارتجال) لرائد أنضوني.. ميوزيكال دافق من فلسطين إلى فرن
...
-
هل تصلح الناقدة السينمائية ما أفسده المدير التلفزيوني؟..
المزيد.....
-
الموصل تحتضن مهرجان بابلون للأفلام الوثائقية للمرة الثانية
-
متى وكيف يبدأ تعليم أطفالك فنون الطهي؟
-
فنان أمريكي شهير يكشف عن مثليته الجنسية
-
موسكو.. انطلاق أيام الثقافة البحرينية
-
مسلسل الطائر الرفراف الحلقة 84 مترجمة بجودة عالية قصة عشق
-
إبراهيم نصر الله: عمر الرجال أطول من الإمبراطوريات
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|