|
في انتظام الطوائف وتبعثر الأمة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1688 - 2006 / 9 / 29 - 10:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم يكد يسقط نظام صدام حسين عام 2003 حتى انتظمت الحياة السياسية العراقية حول محاور طائفية وإثنية. وبينما قد يكون الانتظام هذا مناسبا للأميركيين، ييسر لهم التلاعب بالمجتمع الواقع تحت الاحتلال، ويضعف إمكانية نهوض مقاومة وطنية موحدة في وجههم، فإن من المكابرة والتعنت تحميلهم مسؤولية نشوء الانقسام الطائفي العراقي. صحيح أننا لا نشهد في العراق الحالة الطائفية المثالية، أعني أن تغدو كل طائفة حزبا سياسيا واحدا، وألا ينتسب أحد من أعضائها إلى حزب طائفي آخر (هذا الحالة ليست موجودة في أي مكان، وإن كانت إغراء الطائفيين الدائم)؛ لكن لا يقل صحة عن ذلك أننا نعاين ضعفا مفرطا للفاعلين السياسيين غير الطائفيين. ثمة تعدد داخل الطوائف، أي أن كل طائفة أنتجت أكثر من حزب، لكن الأحزاب عابرة الطوائف بالغة الضعف. وبينما تبدو الطوائف فتية تفور بالحيوية، تبدو الوطنية العراقية أقرب إلى شيخ فان، لا يكاد يهتم به أحد. كان نظام صدام حسين نظاما واحديا، سياسيا وثقافيا وإداريا، مركبا على مجتمع تعددي. وهو نظام اعتمد على عروبة إيديولوجية، لا تترتب عليها أية حقوق أو التزامات إيجابية، في مجتمع يشكل غير العرب ما قد ينوف على خمس سكانه. فوق ذلك كانت عروبته تخفي بالكاد الهيمنة السنية، وإن كانت ركائز السلطة الفعلية عشائرية وجهوية ضمن الجماعة السنية. قبل نظام صدام لم يكن التكوين العراقي مثاليا (لم ترزق أية دولة أبدا بتكوين مثالي؛ الدول جميعا كائنات صنعية، بل مصطنعة). الدول العربية "المصطنعة" ليست استثناءا من هذا المنوال. بيد أن نظام صدام كان أشد اصطناعا من الكيان العراقي، وبالمعنى الأسوأ للكلمة: شاذ وغير سوي، عنفه مهول ومنفلت من كل قياس، وسلوكه متمرد على أية قواعد مطردة. لقد ارتكز على الإرادة التعسفية والمتقلبة لحاكم لم يشتهر بعلم أو ثقافة أو حلم. كان يمكن أن تنبني دولة وطنية عراقية أكثر التحاما لو كان النظام العراقي أقل شذوذا واستثنائية. لم يسهم النظام في تحرير الأفراد من العشائر والطوائف والإثنيات ليتكون منهم مواطنون، بل رسخ ارتباطهم بها، بالخصوص بعد 1990 حين أخذ صدام يعيش في عالم من صنع مخيلته وعزلته وسأم الحاكم المطلق. بالنتيجة، لم يُبذل جهد لصنع الأمة في العراق أو "لاختراع الشعب" العراقي (حسب صيغة لامعة لكاتب سوري شاب). ولم تطرح المسألة: كيف تجري عملية تأليف شعب عراقي من نثار أهلي مكون من إثنيات وجماعات دينية ومذهبية؟ كيف يجترح فاعل سياسي عراقي عام؟ ما هي الشروط اللازمة من أجل بناء الدولة – الأمة في العراق؟ والأرجح أن المسألة لم تطرح بسبب تدنى مستوى ومؤهلات نخبة السلطة: فضلت حكما سهلا. وأسهل الحكم السيف. أسوأ. بدت سياسة نظام صدام موجهة نحو صنع الطوائف في العراق لا نحو ضمان تلاشيها، ونحو تفكيك الأمة العراقية لا نحو إبداعها. زود عهده الشيعة بوعي ذاتي متمركز حول تمايزهم المذهبي، وأفسد وعي السنة بامتيازات سياسية ومادية ورمزية، وخرب فكرة العروبة التي كان يمكن أن تساعد على تقريب السنة والشيعة من بعضهم، ودفع الأكراد باتجاه الانفصال والتماس التحالفات المناسبة من اجل هذا الهدف. لكن كيف أمكن لنظام صدام أن يفعل ذلك؟ أيكون العراق "بالوعة"، على قول نوري السعيد، تحتاج إلى غطاء من شاكلته، بل من شاكلة صدام حسين؟ هل هناك شخصية عراقية مطبوعة على الشقاق والعنف؟ أمن المحتمل أن التكوين العراقي بحد ذاته غير قابل للالتئام؟ هل هناك "خطيئة أصلية" ارتكبها البريطانيون حين لفقوا كيانا عراقيا من ثلاث ولايات عثمانية؟ نرجح أن جذر المسألة يقيم في مكان آخر: افتقار العراق لآليات لبناء الثقة والتواصل والتعارف بين العراقيين، بل تحول عدم الثقة بين السكان إلى شرط لاستقرار النظام وثقته بدوامه. الدولة هذه لا تمتنع عن بناء الأمة فقط، بل تجعل من تمزيق الشعب شرط وجودها. الشعب في العراق، وفي الدول الفتية جميعا، ليس شيئا معطى سلفا. إنه مشروع، أهم وسائل تحققه هي السلطة العمومية، وما يقع في نطاق سلطانها من أدوات سياسية وتربوية وقانونية واقتصادية و.. قمعية. ومن مقتضيات نجاح المشروع أن يرى إلى السلطة كالتزام لا كامتياز، وكمسؤولية لا كتشريف. التجربة العراقية مرشحة للتكرار في غير دولة عربية، وسوريا ليست في منأى عنها. المشترك البنيوي بين الدول يتعدى الافتقار إلى العمليات والآليات الدستورية والسياسية والقانونية والتمثيلية بناء الإرادة العامة أو اختراع الشعب، إلى اقتضاء النظام بعثرة الشعب ورده إلى فراطة بشرية لا يجمعها غير خوف الجميع من الجميع وارتياب الجميع بالجميع. نموذج الدولة هذا، إن أمكن أن يندرج ضمن نموذج، هو النقيض التام للدولة الوطنية التي تقوم على التوحيد والتنميط والمركزة والثقة. والنظم هذه تشتغل عبر الاستثناءات والأوامر الاعتباطية لنخبة رثة، وتستجيب لدواعي القرابة والمحسوبية، فتغدو مع الزمن آية من آيات التعقيد والاختلاط والتشابك. هذا ما يجعل النظم أشد اصطناعا من كياناتها المصطنعة. هنا تزول الدولة كمؤسسة للحكم، ولا يبقى منها إلا جهاز قوة وإرادة قُلَّب ونزويّة للحاكم وأعوانه؛ والمثال العراقي يظهر أن الدولة ككيان سياسي تاريخي مهددة بالزوال أيضا. ولعل تناقض الدولة هذه مع نموذج الدولة الوطنية هو ما يجعل الوطنية إيديولوجية في بلدان محكومة بها. إنها دولة وطنية جدا بالمعنى الإيديولوجي للكلمة، بالضبط لأنها غير وطنية بالمعنى الدستوري والمؤسسي. وهو كذلك سر التوسع في القمع والتخوين في آن معا. إذ يفيد المزيج التخويني القمعي في التعتيم على تفريغ الدولة من عموميتها، وحشوها خلسة بمحتويات عائلية وقبلية وطائفية. وإنما لذلك تتمحور الحياة السياسية حول الطوائف حال انهيار النظام، كما حصل في العراق. إذ لا يمر تمييز قيادات النظام لمصلحة أسرهم وعشائرهم ومحلاتهم وطوائفهم دون أن يلحظه الجميع، دون أن يقتدوا به كذلك، وبالخبث نفسه أيضا. فالطائفية شيء لا يمكن تخبئته مثل "الحب والحبَل وركوب الجمل". وإذا تعذر على الناس القول إن الامبراطور عار، يغدو التعري تقليدا وطنيا. ليس من الميسور قلب هذا المسار. وسيكون من الغرور والخداع ترويج الاعتقاد بوجود وصفة علاجية جاهزة أو سهلة التجهيز. على أن الجوهري في داء النخر الطائفي الذي تعاني منها دولنا أو تنهار تحت وطأته ليس إعضاله بل انعدام التفكير فيه. وفي الدرجة نفسها من الأهمية أننا لا نرى بوادر من أي نوع على مستوى النخب الثقافية والسياسية لاتخاذ قرار حاسم بمقاومة الطائفية وعزلها. من السهل القول إن القرارات لا تحل مشكلات عويصة، لكن استغفال الذات بأقوال "عميقة" كهذا يحجب حقيقة أن مشكلات عويصة لا تحل دون قرار حاسم، اتخذ بصفاء ذهن من قبل قطاع واسع من النخبة الاجتماعية. على أننا لا نرى كيف يمكن اتخاذ قرار كهذا في غياب النقاش حول المشكلة الأشد فتكا وتدميرا لدولنا ومجتمعاتنا. إن أخطر ما في هذه المشكلة الخطيرة هو السكوت عليها وحجب خطورتها الرهيبة عن أنظار الرأي العام. وخلافا لتطير شائع، فإن ما يهدد مجتمعاتنا بالسعير الطائفي ليس كشف الغطاء عن الطائفية؛ ما يهددها بالضبط هو الإمعان في الغفلة عن هذه القنبلة الموقوتة.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في أصول -ثقافة الهزيمة-
-
صراع حضارات أم طائفية عالمية؟
-
من استكمال السيادة إلى عملية بناء الدولة الوطنية
-
نصر نصر الله!
-
في الحرب وتكوين الشعور العربي المعاصر
-
فرصة لتجديد النقاش حول قضية الجولان
-
في نقد الخطاب الانتصاري التخويني
-
حرب لبنان بين الليبراليين والقوميين الإسلاميين
-
-حب الدبب- والدول المضبوعة
-
أقوياء، متطرفون، وقصار النظر
-
حالة حرب: محاولة لقول كلام هادئ في وقت عصيب
-
سورية والأزمة اللبنانية: حصيلة عامة أولية
-
انتصار الدولة والمقاومة في لبنان ممكن!
-
أهل بيت الموت!
-
مصلحة لبنان والعرب منع هزيمة حزب الله
-
بالمقلوب: متطرفون عموميون ومعتدلون خواص!
-
حرب ضد لبنان: استراتيجية ممتنعة وعدالة غائبة
-
أقنعة النظام الشرق أوسطي المتعددة
-
عن الأمن المطلق والمقاومة المطلقة وزيغ الحداثة
-
محنة المثقفين السوريين بين أهل التخوين وأهل الاعتقال
المزيد.....
-
رقمٌ قياسيّ لعملة فضية نادرة سُكَّت قبل الثورة الأمريكية بمز
...
-
أهمية صاروخ -MIRV- الروسي ورسالة بوتين من استخدامه.. عقيد أم
...
-
البرازيل.. اتهام الرئيس السابق جايير بولسونارو بالضلوع في مح
...
-
اكتشاف عمل موسيقي مفقود لشوبان في مكتبة بنيويورك
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة: اليوم ردت روسيا على استفزازات -
...
-
الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا إلى سكان الحدث وحارة حريك في ال
...
-
أين اختفى دماغ الرئيس وكيف ذابت الرصاصة القاتلة في جسده كقطع
...
-
شركة -رايان- للطيران الإيرلندية تمدد تعليق الرحلات الجوية إل
...
-
-التايمز-: الغرب يقدم لأوكرانيا حقنة مهدئة قبل السقوط في اله
...
-
من قوته إلى قدرة التصدي له.. تفاصيل -صاروخ MIRV- الروسي بعد
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|