|
The Wire لماذا (الشَرَك) هو مسلسل عظيم؟
محمد الفقي
محمد الفقي (1970) كاتب عربي من مصر.
(Mohamed Elfeki)
الحوار المتمدن-العدد: 7371 - 2022 / 9 / 14 - 16:02
المحور:
الادب والفن
**
"نحن [في أمريكا] لسنا ديمقراطية، إننا سوق حرة، والسوق الحرة هي لعبة مكسب وخسارة، وهي لعبة صفرية لا تنتهي إلا بالمكسب الكامل لنا والخسارة الكاملة للخصم". هذه هي إحدى مقولات جوردن جيكو سمسار البورصة العتيد للشاب المبتدئ الذي يتطلع لتعلم الحرفة، في فيلم أوليفر ستون (وول ستريت، 1987)؛ أهم الأفلام الناقدة لنظام السوق المتوحش في فترة مبكرة من النيولبرالية الاقتصادية والسياسية التي اجتاحت دول العالم منذ أن تولت مارجريت ثاتشر رئاسة الوزراء في بريطانيا عام 1979 ، ورونالد ريجان رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية عام 1980.
مقولة جوردن جيكو يفردها مسلسل (الشَرَك) ويفصصها ويمحصها على امتداد مواسمه الخمسة (2002-2008)، مختاراً مدينة بالتيمور (ولاية ميريلاند، أمريكا)؛ مدينة الفقر والجريمة والتعصب، كنموذج للتركيز، كعينة تحت مجهر الفحص تصلح لاستخلاص العبر.
يبدو (الشَرَك) للوهلة الأولى مسلسلاً عن عصابات الإتجار في المخدرات والجريمة المنظمة، إلا أننا سرعان ما ندرك أنه يتجاوز ذلك بعيداً إلى رسم صورة بانورامية لمختلف العوامل الهيكلية التي تنشأ بسببها الجريمة المنظمة وتدعم وجودها واستمرارها واستفحالها.
إذا استعنا بتصريحات ديفد سايمون؛ المؤلف الرئيسي للمسلسل: "(الشَرَك) ليس مهتماً في الحقيقة بثنائية الخير والشر التقليدية، إن مجالات اهتمامه هي الاقتصاد وعلم الاجتماع والسياسة". بعد مشاهدة المسلسل لا يمكننا اعتبار هذا التصريح مبالغة أو نزقاً أو نوعاً من الدعاية المألوفة من مؤلفي الدراما لأعمالهم، بل هو عين الحقيقة.
نستطيع القول بإنه، وعلى امتداد حلقاته الستين، يبدو (الشَرَك) مثل منشور ضوئي يحلل العوامل البنيوية في النظام الأمريكي إلى أطيافها المتعددة، ويُوِّلد سلسلة غزيرة من المعاني في ذهن المُشاهد لا يستطيعها البحث الاجتماعي الإمبريقي مهما حاول الدقة والشمول، فيفتح بذلك أعيننا على قوى الإكراه الخفية المدفونة تحت السطح البراق لمجتمعات السوق النيولبرالية، التي تشكل الآليات المسؤولة عن الظلم والعنف والاستغلال. هذا هو أول أسباب عظمة (الشَرَك).
ويظل الملك هو الملك تتصدر هذه العبارة المكتوبة على شاشة سوداء افتتاحية الحلقة الثالثة (الصفقات) من الموسم الأول. ستجيء العبارة لاحقاً في متن الدراما على لسان دي آنجلو وهو يشرح قواعد لعبة الشطرنج لصبية النواصي الذين يعملون تحت إمرته في توزيع المخدرات. يتم التضحية بالبيادق، والأفيال والأحصنة، بل وحتى بالوزير ذاته، وتظل اللعبة مستمرة طالما الملك ما يزال على لوح الشطرنج.
تظل اللعبة مستمرة طالما بقي النظام وآليات عمله دون تغيير. عبر الستين حلقة من المسلسل، نشهد تبدلات في قادة المنظمات الإجرامية أكثر من مرة. وفي الجهة المقابلة، نشهد أيضاً تغييراً في قادة الشرطة، وفي المسؤولين عن المؤسسات الحكومية، ومكتب العمدة، ومجلس المدينة، والهيئات المنتخبة. لكن يظل النظام وقواعد لعبته هي هي. النظام يشمل الاثنين؛ المؤسسات الحكومية والشرطية، ويشمل أيضاً عصابات المخدرات الإجرامية. الأخيرة هي الجانب الليلي من الأولى، هي الجانب الليلي من السوق.
يعين (الشَّرَك) المشاهد على إدراك أن النظام نفسه هو الملك على رقعة الشطرنج. النظام نفسه أعمق من فاسديه، وطالما أن النظام باق فلا أحد يتحرر، ويقع الجميع في شرك النظام. النظام هو الشكل الحالي من رأسمالية السوق. بصوت جوردن جيكو: "نحن لسنا ديمقراطية، نحن سوق حرة". السوق اليوم هي النسخة الحديثة من القدر الغاشم في المسرح الإغريقي القديم.
لن تخسر إذا لم تلعب تأتي العبارة على لسان المحامية مارلا، زوجة ضابط الشرطة سدريك دانيلز، في الحلقة الثانية (المفرزة) من الموسم الأول.
نعرف من خلال الأحداث أن دانيلز يتنازعه صراع داخلي ما بين قبوله لقيادة مفرزة الشرطة المكلفة بإجراء التحريات السرية عن رؤوساء عصابات المخدرات، وبالتالي تأدية وظيفته كرجل شرطة حقيقي يعرف الأسباب الخفية لتجارة المخدرات المتفشية في بالتيمور، وبين خوفه من أن يقوم النظام بنفيه أو عقابه إذا ما أدى عمله على النحو الواجب وكشف المستور.
حين يستشير زوجته، تقول له: "لن تخسر إن لم تشارك أصلاً في اللعبة". أي أنها تنصحه بالاعتذار عن قبول رئاسة المفرزة. هذه النصيحة تصدر عن محامية عليمة وخبيرة ببواطن الأمور. فمجال عملها في الدفاع عن الحريات المدنية في المدينة يجعلها في مواجهات يومية مع النظام. ومن ناحية ثانية، طموحها في الترشح لمناصب قيادية في النظام يجعلها ترى النظام أيضاً من الداخل لا من الخارج فقط. ترى مارلا الغابة كلها بصورة بانورامية من الخارج، ثم تدخل الغابة لتلمس الأشجار شجرة شجرة. لذلك علينا أن نأخذ كلامها على محمل الجدية. وهذا بعينه ما يتضح حلقة إثر حلقة في (الشَرَك).
يتكشف للمشاهد طوال المسلسل أن النظام ليس لخدمة المواطنين ولا من أجل سعادتهم، بل هو لإعادة إنتاج نفسه. النظام ليس لخدمة الجميع بل هو لخدمة طبقة أرستقراطية تراكم المال والسلطة والنفوذ. الباقي موقعهم الخارج. وأحياناً موقعهم في خارج الخارج. نرى في أحيان عديدة كيف يضطهد السود المهاجرين المكسيكيين، والمكسيكيون من هم أقل منهم، وهكذا دواليك. ضحية تقتل ضحيتها.
تدرك مارلا الحقيقة التي تثبتها المواقف التي تتعرض لها في كل يوم على أرض الواقع؛ النظام محصَّن ضد الإصلاح، ويكره مصلحيه، ويتعامل معهم بوصفهم عائقاً لا باعتبارهم فرصة ينبغي اغتنامها. النظام قاطع طريق على مصلحيه. ونرى بأعيننا كيف أنه ينفي ضباط الشرطة المخلصين والنزهاء على طول المسلسل وعرضه؛ ماكنولتي، ولستر، وبوني كولفن، وسدرك دانيلز نفسه لاحقاً، وآخرون.
الدنيا تسير في اتجاه، والناس في اتجاه آخر تأتي هذه الحكمة على لسان أحد صبية موزعي النواصي، بوت. ما يلفت النظر في الحكمة التي ينطق بها بوت أنها قابلة للتخصيص وللتعميم في آن معاً. إن خصصناها نستطيع القول بإن لجاجة قادة الشرطة وإلحاحهم الدائم على أولوية خفض المؤشرات الإحصائية السلبية للجريمة، ولو تزويراً، هي في تنافر تام مع التصاعد اليومي لنسب الجرائم والقتل في المدينة على أرض الواقع. هذا التناقض يصل إلى ذروته حين يُفاجئ الجميع باكتشاف مقبرة جماعية لمئات القتلى المجهولي الهوية المدفونين في مجمع للمساكن المهجورة، في نفس التوقيت الذي يتباهى فيه قادة الشرطة في الإعلام المحلي بنجاحهم في خفض معدلات الجريمة. النظام يسير في اتجاه، والواقع الاجتماعي في اتجاه معاكس. يحيا قادة النظم النيولبرالية ويعملون وفقاً لشعار: "ماتت السياسة فلتحيا الدعاية". ولعل عصابة مارلو، المسؤولة عن معظم قتلى المقبرة الجماعية، قد فطنت إلى تلك الحقيقة؛ إلى أن ما يهم النظام هو خفض الإحصائيات، هي الدعاية، وليس إصلاح الواقع الاجتماعي، فقررت بناء عليه إعطاء النظام ما يريده؛ دفن ضحاياها على نحو خفي بحيث لا يظهرون في إحصائيات الشرطة.
أما إن عممنا حكمة بوت، فنستطيع القول إنه في ظل نظام السوق تكون الإحصائيات والمؤشرات الاقتصادية والمالية في تضاد تام مع المؤشرات الاجتماعية. ترسم الإحصائيات والموازنات العامة للحكومات صورة مزدهرة، أو حتى مستقرة، لواقع رأس المال، في حين تكون الأوضاع الاجتماعية على أرض الواقع خربة وفاسدة ومتحللة. النظام/رأس المال يسير في اتجاه، والناس في اتجاه آخر.
كل التفاصيل مهمة تتصدر العبارة بداية الحلقة السادسة من الموسم الأول. الحلقة نفسها تحمل نفس عنوان المسلسل: (الشَرَك). يولي صناع المسلسل عناية فائقة بالتفاصيل في الكتابة وفي الإخراج. ولأن (الشَرَك) ممتلئ بهذه التفاصيل، بل هو منسوج نسجاً منها، فمن المستحيل عملياً سردها جميعاً أو تعدادها واحدة واحدة. لكن لأغراض الإيضاح والإرشاد سوف نشير إلى بعض منها.
- من التفاصيل الصغيرة المدهشة مثلاً في ثنايا المسلسل وحواشيه هو تناول الرؤوساء والقادة والمستويات المتوسطة من قادة الشرطة طعامهم دائماً على نحو منفرد. بينما يتناول أعضاء المفرزة طعامهم في جماعة وفي منادمة. تعلمنا الخبرة الإنسانية أن تناول الطعام منفرداً يجعل المرء أكثر قسوة وفظاظة، والعكس بالعكس.
- من التفاصيل المدهشة أيضاً أن أعضاء مفرزة الشرطة لا يُصر أي منهم على القيام بما يجيد عمله، بل يرتجلون جميعاً. هذا الارتجال هو السر في الانتصارات الصغيرة التي تحققها المفرزة. في نظام السوق وتنافراته الفظة تكمن القوة في الارتجال لا في الإصرار على ما تجيد عمله.
- ما بين اقتصاد السوق وبين الجريمة المنظمة من المشتركات ما يجعل سترنجر بل، أحد زعماء عصابات المخدرات، يسعى لدراسة علم الاقتصاد بصورة منهجية في جامعة المدينة، ثم تطبيق ما تعلمه على أنشطة تجارته الإجرامية. في إحدى الحلقات نرى في مكتبة بيته (رأس المال) لماركس. صورة واضحة للأعمال الإجرامية التي تتحول في ظل نظام السوق إلى مجرد "بزنس". تطبيع الجريمة مادامت تدر ربحاً. زعماء المخدرات يسرحون ويمرحون طوال المسلسل، وإن خرقوا قواعد اللعبة وتجاوزوا الخطوط الحمراء للنظام، لا يتم عقابهم إلا بأحكام مخففة. لا يعاقب نظام السوق المنظمات الإجرامية في الحقيقة، بل يحاكيها. وتحاكيه هي أيضاً بدورها في مواضع أخرى بالمسلسل. يعبر عن ذلك صراحة أحد كبار تجار المخدرات العالميين، الملقب بـ "اليوناني"، في الحلقة الأخيرة (ميناء في العاصفة) من الموسم الثاني، قائلاً: "إنها تجارة، مجرد تجارة".
- بينما يحاول أعضاء المفرزة فك شفرات الاتصال بين عصابات المخدرات، يبدأون في فهم أبعاد ارتباط الجريمة بالنظام الأكبر، نظام السوق الرأسمالي، والذي يتخذ أبعاداً عابرة للقومية منذ الموسم الثاني. عولمة السوق. "مساحة العالم الآن صارت أصغر"؛ عبارة يقولها الرئيس العالمي لإحدى أكبر عصابات المخدرات على الكوكب، "اليوناني". مرادفها هو "العالم الآن صار قرية صغيرة". عولمة السوق لابد وأن تتضمن داخلها عولمة الجريمة. وإذا كان العالم قد صار قرية صغيرة فيحق لنا أن نتوقع سيادة "نمط إنتاج الفلاحين" فيه.
يعرض (الشَّرَك) كيف أن مصالح كل عصابة محلية منعزلة ومنفصلة عن الباقين، كانعزال مصالح الفلاحين عن بعضها البعض، بل وتكون في غالب الأحيان في تعارض وتناقض. وإذا كان هذا التعارض هو أحد أهم سمتين لنمط إنتاج الفلاحين، فإننا نرى سمته الثانية في اعتماد جميع العصابات في بالتيمور على مُورِّد واحد عالمي هي عصابة "اليوناني". تماماً كما يعتمد الفلاحون على حكومة مركزية قوية قادرة على توفير المياه للجميع وحماية تدفقه.
- تقول روني بيرلمان، المحامية التي تعمل في مكتب الإدعاء العام بالمدينة، في الحلقة السابعة من الموسم الخامس: "لم نتعلم هذا في كلية الحقوق". في ظل نظام السوق، يتعلم المحامون في كليات الحقوق كيف يدافعون عن القانون، ثم يخرجون للحياة العملية فيعلمهم السوق كيف يخرقون القانون بشكل أفضل.
أكفء المحامين في بالتيمور هو محامي عصابات المخدرات. وهو أيضاً قيادة متنفذة وصاحب كلمة مسموعة في مجلس نقابة المحامين بالمدينة، وقادر على إيذاء أعضاء النيابة العامة أنفسهم. منظومة الفساد في نظام السوق ليست هي خصم النظام بل حواريوه؛ السناتور الفاسد حتى النخاع الذي يصلب نفسه زوراً على القضايا النبيلة ويستعطي عليها، عمدة المدينة، أعضاء المجالس المنتخبة، قادة الشرطة، المحامون، آلية الانتخابات التي يتم التلاعب فيها وبها.
- يصل الشرطي ماكنولتي، أبرز وأنشط أعضاء المفرزة، في نهاية المطاف إلى حالة من اللامبالاة من الإصلاح، ويتحول غضبه من النظام الفاسد إلى استهزاء متصل. لا شيء أصدق من هذا. لا يوجد أخطر على أي نظام من الاستهزاء. الاحتقار أخطر بدرجة أقل أو درجتين. لكن الاستهزاء هو الذي ينسف حالة الاحترام الضرورية لاستمرار هيبة أي نظام أو مؤسسة أو شخص.
كانوا يصنعون صلباً هنا فيما مضى كانت مصانع الصلب فيما مضى هي مكمن فخر بالتيمور، قبل إغلاقها وتحولها إلى خرابات في ظل التحول الحاد الذي جرى في المجتمعات النيولبرالية من العمل الصناعي إلى الأعمال الترفيهية والخدمية والمضاربات والتسويق العقاري وخلافه.
العبارة الآنفة جاءت في الحلقة الخامسة من الموسم الثاني على لسان سبيروس، اليد اليمنى لـ "اليوناني" زعيم عصابة المخدرات العالمية، والذي هو ليس يونانياً بالمناسبة. في ظل العولمة اللفظ ومعناه ليسا نفس الشيء.
لكن سمعة (الشَّرَك) وعظمته هي شيء واحد. أحد الأصدقاء السينمائيين قال مرة: "إن صنع عمل درامي عظيم هو صدفة كونية". ولعل (الشَرَك) يثبت أن هناك طريق استثنائي بخلاف الصدف، طريق هو حاصل جمع إرادات واتفاقات وسبق إصرار وتصميم، يؤدي إلى صنع عمل درامي عظيم. ظننا أن له وصفة ثنائية هي اجتماع الخبرة والمعرفة العميقة بمادة العمل (التجربة الشعرية بتعبيرات الشعراء)، مع صرامة نظام الستوديو.
ديفد سايمون، المؤلف الرئيسي للمسلسل، هو ابن بالتيمور، وسبق له العمل لفترة طويلة في صحيفة (بالتيمور صن)، وألف عدة كتب عن الجريمة في بالتيمور، ومسلسلات تلفزيونية أيضاً عن الجريمة والسياسة والانتخابات بالمدينة. شريكه الأساسي في كتابة المسلسل، إد برنز، سبق له العمل كمحقق في شرطة بالتيمور، ثم كمعلم في إحدى مدارسها، ثم كصحفي، قبل أن يشارك سايمون في الكتابة الدرامية. رافييل ألفاريز، أحد الكتاب المشاركين، كان صحفياً أيضاً وزامل سايمون في (بالتيمور صن) وكان مسؤولاً عن تغطية أخبار ميناء بالتيمور بالصحيفة. باقي كتاب المسلسل هم إما أبناء بالتيمور مع خبرة كثيفة بواقع المدينة، أو من خارج المدينة مع خبرة كبيرة في الكتابة الدرامية الواقعية المختصة بالجريمة في المجتمع الأمريكي.
الخبرة والمعرفة بمادة العمل لم تقتصر فقط في (الشَرَك) على الكتاب والمخرجين، لكنها امتدت لتشمل الممثلين. معظم من شارك من الممثلين المحترفين في المسلسل كانوا من الصفين الثالث والرابع في السينما والدراما الأمريكية، لكن المدهش هو إصرار صناع المسلسل على إسناد كثير من الأدوار، الرئيسية والثانوية والشرفية، لشخصيات من الحياة الواقعية في بالتيمور. هناك مدمنون يمثلون شخصياتهم الحقيقية، وضباط شرطة متقاعدون وعاملون، ومحامون، ورجال سياسة، وهلم جرا.
سنضرب مثلاً بالأداء العظيم الذي قامت به "سنوب" (الفنانة فيليشا بيرسون)، والتي ظهرت في دور الساعد الأيسر لمارلو زعيم أقوى عصابات المخدرات في بالتيمور. إذا قرأت التاريخ الشخصي لفيليشا ستجد شبه تطابق بينها وبين الشخصية. هي لم تكن مدمنة مخدرات فقط، بل ومن أبوين لصين ومدمنين، ونشأت في دار للرعاية الاجتماعية في بالتيمور، وعملت وهي طفلة مع صبية النواصي في شرق بالتيمور في بيع المخدرات. كان دور "سنوب" مكتوباً قبل أن يتعرف عليها صناع المسلسل، وصادف أن عمر ليتل (الفنان مايكل وليامز) قرأ بضع ورقات من دورها، فرشحها لصناع المسلسل الذين طلبوا مقابلتها، ولم تمض أكثر من دقيقة واحدة من بداية المقابلة إلا وقد اتفقوا عليها بالإجماع، بالرغم من أنها لم تمثل في حياتها من قبل. كانت فيليشا قد خرجت منذ يومين فقط من سجن الولاية بعد أن أمضت فيه ست سنوات لارتكابها جريمة قتل من الدرجة الثانية وهي في السادسة عشرة من عمرها. هناك مستويات من التوهج في الأداء لا يمكن لأي ممثل مهما بلغت حرفيته أن يضاهيها. الجسد ونبرة الصوت وطريقة النطق تتشكل لدى المدمن والمجرم على صورة ممارساته اليومية.
هذه التوهج المستمر في الأداء، والتماسك في الدراما، والوحدة في الهدف النهائي، برغم تعدد الكتاب والمخرجين وطول الفترة الزمنية في صنع العمل، لا يمكن أن تنتج إلا في ظل النظام الكلاسيكي الصارم لعمل الستوديو. هو نفس النظام الذي أنتج أعمالاً "صلبة" في السينما الأمريكية في الأربعينيات والخمسينيات، قبل أن تغرق في الدوامة المستمرة للإفراط الدرامي والبصري والتفاهة على أيدي كتاب ومخرجين ليست السينما هي لغتهم الأم.
*****
مسلسل (الشَّرَك) The Wire (ترجمناه "الشَرَك") هو مسلسل أمريكي من إنتاج شبكة HBO (هوم بوكس أوفيس) إحدى الأذرع الإعلامية لشركة وارنر براذرس. عُرض في الفترة من (2002-2008).
تدور أحداث المسلسل حول مفرزة مخصوصة لشرطة بالتيمور وهي تحاول الإيقاع بعصابات المخدرات بالمدينة، مع تركيز كل موسم على قضية بعينها؛ كأحد الأسباب الهيكلية لاستمرار ونمو الجريمة المنظمة. يركز الموسم الأول على تأسيس مفرزة الشرطة وأفرادها المتنوعين، وصراعهم اليومي من أجل جمع معلومات عن المنظمات الإجرامية والتنصت على اتصالاتهم، وسط شح الموارد التي توفرها لهم الإدارة. والموسم الثاني على الأوضاع الصعبة التي يعيشها عمال ميناء بالتيمور، والتي تدفع رئيس نقابتهم إلى التعاون مع عصابة عالمية لتسهيل إدخال المخدرات عبر ميناء المدينة. الموسم الثالث يتناول قضية الفساد والتراخي وتغليب المصالح الشخصية في المؤسسات الحكومية والمنتخبة، مما يساهم في تفشي الجريمة في المدينة. الموسم الرابع على انهيار التعليم وتدهور المدارس الحكومية، مما يدفع بالأطفال والمراهقين إلى أحضان عصابات المخدرات. أما الموسم الخامس فمركز الثقل فيه هو الإعلام والصحافة؛ كيف يساهم بعض الصحفيين المعدومي الضمير في الترويج للأكاذيب من أجل الشهرة من ناحية، والمعاناة التي تتعرض لها الصحافة الورقية (ممثلة في صحيفة بالتيمور صن) في ظل نظام السوق وأولوية مبدأ الربح من ناحية ثانية.
يعد (الشَرَك) اليوم من أهم المسلسلات في تاريخ الدراما العالمية. حظي باهتمام كبار المفكرين والفلاسفة المعاصرين وكتبوا عنه. خصص له سلافوي جيجيك مثلاً فصلاً كاملاً في (سنة الأحلام الخطيرة، 2012). وهو الآن مادة دراسية في معظم أقسام الإعلام، والسينما، والاجتماع في جامعات العالم الكبرى؛ منهم على سبيل المثال: جونز هوبكنز، وهارفارد، وبراون، وتكساس، ويورك، ولندن، والسوربون.
** النسخة القصيرة.
#محمد_الفقي (هاشتاغ)
Mohamed_Elfeki#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نتفليكس وأخواتها
-
عادل إمام.. فنان الشعب
-
سينما روي آندرشون*
-
وحيد حامد التنويري
-
تسليع البطولة في مسلسل (الفتيان)
-
بيلي وايلدر.. الإنسان والقناع
-
الفصل الأول من رواية الخرتية
-
الطفيلي في النيولبرالية
-
نأسف للإزعاج
-
ديفيد لنش.. البحث عن الذات
-
عضو الكوكلوكس كلان الأسود
-
ياسوجيرو أوزو.. فن التثبيت
-
قواعد اللعبة
-
مايكل أنجلو أنطونيوني.. ظاهريات الغياب
-
هتشكوك.. الإنسان بوصفه طريدة
-
نموذج للسخافة الهوليودية في عصر النيولبرالية
-
عن اللوحة الاستهلالية لفيلم المومياء
-
البطل الهوليودي في عصر النيولبرالية
-
تشارلي .. فسيولوجيا الإنسان الأول
-
سينما جان بيير ملفيل.. أزهار الشر
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|