|
هربرت سبنسر/٣
حسام جاسم
الحوار المتمدن-العدد: 7361 - 2022 / 9 / 4 - 14:53
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
4. النفعية "الليبرالية" لسبنسر : كان سبنسر عالم اجتماع بشكل جزئي، لكنه كان أقرب إلى كونه فيلسوفًا أخلاقيًا. لقد كان ما نشير إليه الآن على أنه المنفعة الليبرالية أولاً الذي تداول بكثافة في نظرية التطور من أجل شرح كيفية ظهور إحساسنا المنفعي الليبرالي بالعدالة. وعلى الرغم من أن سبنسر كان نفعياً، إلا أنه كان يتعامل مع عدالة التوزيع بقدر من الجدية لا يقل عن جون ستيوارت مِل. بالنسبة له كما بالنسبة لـ مِل، كانت الحرية والعدالة متساويتين. في حين أن مل ساوى العدالة الأساسية مع مبدأ الحرية عنده، ساوى سبنسر العدالة بمساواة الحرية، التي ترى أن "حرية كل فرد، مقيدة بالحرية المماثلة للجميع، هي القاعدة التي يجب أن ينظم المجتمع وفقا لها ". (راجع 9Spencer, 1970: 7 ). بالإضافة إلى أن الحرية عند سبنسر -كما هي عند مل-كانت مقدسة، مما يضمن أن نفعيته كانت أيضًا شكلاً من أشكال حسن النية لليبرالية. بالنسبة لكليهما، فإن احترام الحرية وسيلة للتوصل إلى النفعية الأفضل لكل الأمور التي تم أخذها في الاعتبار. وبالتالي، فإن الحرية غير قابلة للإلغاء، مصاغة بشكل صحيح، لذلك المنفعة ممكنة بالكامل. والآن في حالة سبنسر، خاصة في (مبادئ الأخلاق) (93-1879)، استندت هذه القابلية على علم النفس الأخلاقي التطوري المعقد الذي يجمع بين الترابط، واستخدام الوراثة اللاماركية، والحدس، والمنفعة. يميل النشاط المنتج للمتعة إلى توليد ارتباطات بيولوجية وراثية بين أنواع معينة من الأفعال والمشاعر الممتعة ومشاعر الاستحسان. تدريجياً، تصبح النفعية بديهية . وحيثما تزدهر البديهيات النفعية، تميل المجتمعات إلى أن تكون أكثر حيوية واستقرارًا. يفضل التطور الاجتماعي الثقافات التي تستوعب القواعد النفعية بشكل بديهي. فالسلوك "المقيد ضمن الحدود المطلوبة (المنصوص عليها في مبدأ المساواة في الحرية)، والذي لا يدعو إلى العواطف العدائية، ويفضل التعاون المتناغم، ويربح المجموعة، من خلال الآثار المترتبة على متوسط أرباح الأفراد ". وبالتالي فإن "المجموعات المكونة من أعضاء لديهم هذا التكيف للطبيعة " تميل إلى " البقاء والانتشار ". (راجع Spencer, vol. II, 1978: 43). وحيثما تزدهر المنفعة العامة، تزدهر المجتمعات، فإن المنافع العامة والقوة الثقافية يسيران جنباً إلى جنب. وتزدهر المنفعة العامة بشكل أفضل حيث يمارس الأفراد قدراتهم ويطورونها ضمن المعايير التي تنص عليها المساواة في الحرية. باختصار، تفضل المساواة في الحرية -مثلها كمثل أي حدس أخلاقي- المجتمعات التي تستوعبها وفي نهاية المطاف، تستدعيها بوعي ذاتي. وحيثما تحتفل المجتمعات بالمساواة في الحرية كمبدأ نهائي من مبادئ العدالة، تزدهر الرفاهية وتنتشر الليبرالية النفعية. وعلى نحو مماثل، كان سبنسر يتعامل بجدية مع الحقوق الأخلاقية ما دام الاحتفال على النحو اللائق بالمساواة في الحرية يستلزم الاعتراف بالحقوق الأخلاقية الأساسية والاحتفاء بها باعتبارها "نتيجة طبيعية". فالحقوق الأخلاقية تحدد المساواة في الحرية، وتجعل متطلباتها المعيارية أكثر وضوحاً بشكل جوهري. فهي تنص على أكثر مصادر السعادة أهمية لدينا، ألا وهي الحياة والحرية. إن الحقوق الأخلاقية في الحياة والحرية هي شروط السعادة العامة. فهي تضمن لكل فرد الفرصة لممارسة قدراته أو كلياته وفقًا لأضوائه الخاصة. والتي تشكل مصدراً للسعادة الحقيقية. فإن الحقوق الأخلاقية لا تجعلنا سعداء، بل إنها تمنحنا الفرصة المتكافئة لجعل أنفسنا سعداء على أفضل نحو ممكن، وبالتالي، فهي تعزز السعادة العامة بشكل غير مباشر. وبما أن هذه المبادئ "نتائج طبيعية" تتسم بالمساواة في الحرية، فإنها ليست أقل قيمة من مبدأ المساواة في الحرية ذاته. تنشأ الحقوق الأخلاقية الأساسية كبديهيات أيضاً ولو أنها أكثر تحديداً من تقديرنا البديهي المعمم للبراعة النفعية المتمثلة في المساواة في الحرية. وبالتالي فإن الاستيعاب الذاتي الواعي لإحساسنا البديهي بالمساواة في الحرية وتنقيحه، وتحويله إلى مبدأ من مبادئ التفكير العملي، يعمل في نفس الوقت على تحويل حدسنا المعياري الناشئ بشأن قدسية الحياة والحرية إلى مبادئ قانونية صارمة. وهذه ببساطة طريقة أخرى للادعاء بأن المنفعة العامة تزدهر بشكل أفضل حينما الاحتكام إلى المبادئ الليبرالية بجدية، فالمجتمعات الأخلاقية هي مجتمعات أكثر سعادة وأكثر حيوية ونجاحًا في التمهيد. على الرغم من أن سبنسر يصف أحيانًا الحقوق الأخلاقية الأساسية بالحقوق "الطبيعية"، فلا ينبغي تضليلنا، كما فعل بعض العلماء، بهذا الوصف. إن المناقشة الأكثر استدامة ومنهجية عن الحقوق الأخلاقية لدى سبنسر تحدث في الفصل الختامي (الخرافة السياسية العظمى) “The Great Political Superstition”، من كتاب (الرجل ضد الدولة) (1884) The Man Versus the State. يقول هناك أن الحقوق الأساسية طبيعية بمعنى أنها تثمن "العادات" و"الأعراف" التي تنشأ بطبيعة الحال كوسيلة لتخفيف الاحتكاكات الاجتماعية. وعلى الرغم من الممارسات التقليدية، فإن الحقوق المحددة للغاية هي وحدها التي تعزز رفاه الإنسان تعزيزًا فعالًا. تزدهر فقط تلك المجتمعات التي تحتضنهم بالصدفة. لقد أساء العلماء الحديثون تفسير نظرية الحقوق لسبنسر، وذلك لأنهم من بين أسباب أخرى أساءوا فهم دوافع سبنسر وراء كتابة (الرجل ضد الدولة). إن المقال عبارة عن احتجاج جدلي للغاية باسم الحقوق القوية باعتبارها أفضل ترياق للمخاطر المترتبة على الإصلاحات التشريعية التدريجية التي تعمل على إدخال الاشتراكية سراً إلى بريطانيا. ومن المؤكد أن لغتها معادية للاشتراكية، ومسئولة أحيانًا عن الكثير من اللغة الخطابية البغيضة للداروينية الاجتماعية، والتي لا مثيل لها في كتابات سبنسر الأخرى على الرغم من مقاطع متفرقة في (مبادئ الأخلاق) و(مبادئ علم الاجتماع) (96- 1876) . وبالتالي، كانت المؤهلات النفعية "الليبرالية" التي يتمتع بها سبنسر قوية ومقنعة كما يشهد عليه تبادل الرسائل مع مِل في عام 1863، فبين المنشور التسلسلي لنظرية المنفعة في مجلة فريزر في عام 1861 وبين نشرها في عام 1863 ككتاب، كتب سبنسر لمِل، محتجًا على إشارة مِل الخاطئة إلى أنه كان معاديًا للنفعية في حاشية بالقرب من نهاية الفصل الأخير: (الصلة بين العدالة والمنفعة) (Of the Connection Between Justice and Utility). وبالاتفاق مع النزعة البنثامية على أن السعادة هي الغاية "المطلقة"، فإن سبنسر يعارض ذلك بشده على أنه يجب أن تكون الغاية "القريبة"، ويضيف:
لكن وجهة النظر التي أجادل من أجلها هي، أن الأخلاق المسماة بشكل صحيح - علم السلوك السليم - لها هدفها في تحديد كيف ولماذا تكون أنماط معينة من السلوك ضارة، وأنماط معينة أخرى مفيدة. ولا يمكن أن تكون هذه النتائج الجيدة والسيئة عرضية، بل يجب أن تكون عواقب ضرورية لتكوين دستور الأشياء. وأنا أتصور أنه من اختصاص العلم الأخلاقي أن يستنتج، من قوانين الحياة وظروف الوجود، ما هي أنواع السلوك التي تميل بالضرورة إلى إنتاج السعادة، وما هي الأنواع التي تنتج التعاسة. بعد القيام بذلك، يجب الاعتراف باستقطاعاتها كقوانين سلوك؛ ويجب الالتزام بها بغض النظر عن التقدير المباشر للسعادة أو البؤس (راجع 9-Spencer, vol. II, 1904: 88). باختصار، تعمل أنواع محددة من الأفعال بالضرورة على تعزيز المنفعة العامة بشكل أفضل على المدى الطويل ولكن ليس دائمًا في هذه الفترة. في حين أنهم قد لا يروجون لها دائمًا بشكل قريب ومباشر، إلا أنهم يروجون لها دائمًا في النهاية أو، بعبارة أخرى، بشكل غير مباشر. تشكل أنواع الافعال هذه "قوانين سلوك" معيارية لا هوادة فيها. على هذا النحو، فإنها تحدد معايير المساواة في الحرية. أي أنها تشكل حقوقنا الأخلاقية الأساسية. لدينا حقوق أخلاقية لأنواع الأفعال هذه إذا كان لدينا حقوق أخلاقية لأي شيء تقريباً. وبالتالي، كان سبنسر -بقدر ما كان مِل- يدعو إلى النفعية غير المباشرة بإبراز الحقوق الأخلاقية القوية. بالنسبة لكلا المُنّظرين، فإن النفعية الموجهة نحو الحقوق تعزز السعادة العامة بشكل أفضل لأن الأفراد ينجحون في إسعاد أنفسهم أكثر عندما يطورون ملكاتهم العقلية والبدنية من خلال ممارستهم لما يرونه مناسباً، وهو ما يتطلب بدوره قدراً أعظم من الحرية. ولكن نظرًا لأننا نعيش عيشة اجتماعية، فإن ما نطلبه عمليًا هو مساواة في الحرية تتجسد بشكل مناسب من حيث نتائجها الطبيعية للحق الأخلاقي. تعمل الحقوق الأخلاقية في الحياة والحرية على تأمين الفرص الأكثر أهمية لإسعاد أنفسنا قدر الإمكان. لذا، إذا ظل مِل وثيق الصلة بقوة لأن إرثه من المنفعة الليبرالية المعاصرة ما يزال مصدر إلهام، فيجب علينا إذًا وضع سبنسر في عين الاعتبار أكثر مما نفعله، مع الأسف، في الوقت الحالي. بيد أن النفعية "الليبرالية" لسبنسر مختلفة عن مِل في العديد من الجوانب، بما في ذلك بشكل أساسي التشدد الأكبر الذي نسبه سبنسر إلى الحقوق الأخلاقية. في الواقع، اعتبر مِل هذا الاختلاف فرقًا أساسيًا بينهما. رد مِل على خطاب سبنسر الذي أعلن فية الولاء للنفعية، مشيرًا إلى أنه يتفق تمامًا مع سبنسر في أن النفعية يجب أن تتضمن "المبادئ الأوسع والأكثر عمومية"، والتي يمكن أن تكون ممكنة. ولكن على النقيض من سبنسر، يحتج مِل قائلاً بأنه "لا يستطيع أن يعترف بأن أياً من هذه المبادئ ضروري، أو أن الاستنتاجات العملية التي يمكن استخلاصها منها عالمية (مطلقة)". ( Duncan, ed., 1908: 108)
5. النفعية العقلانية مقابل التجريبية : أشار سبنسر إلى شعاره الخاص بالنفعية على أنها نفعية "عقلانية"، والتي ادعى أنها حسنت من نفعية بنثام "التجريبية" الأدنى. وعلى الرغم من أنه لم يصف مِل مطلقًا بأنه منفعي "عقلاني"، فمن المفترض أنه كان يعتبره واحدًا. لا ينبغي لأحد أن أن يقلل من أهمية النفعية "العقلانية" التي كانت توحي بها نظرية الأخلاق الفوقيه لسبنسر. وبتعريف نفسه على أنه نفعي "عقلاني"، نأى سبنسر بنفسه بشكل قاطع عن الداروينية الاجتماعية، موضحًا لماذا كان حكم مور سيئ السمعة في غير محله. وفي رده على اتهام توماس هنري هكسلي(T. H. Huxley) بأنه خلط بين الخير و"البقاء للأصلح"، أصر سبنسر على أن "الأصلح" و"الأفضل" ليسا متكافئين. ولقد اتفق مع هكسلي على أنه على الرغم من أن الأخلاق يمكن تفسيرها من الناحية التطورية، إلا أن الأخلاق مع ذلك تستبق الصراع الطبيعي من أجل الوجود مع وصول البشر. يستثمر البشر التطور من خلال "فحص أخلاقي"، مما يجعل التطور البشري مختلفًا نوعياً عن التطور غير البشري. تشكل النفعية "العقلانية" الشكل الأكثر تقدمًا من "الفحص الأخلاقي" بقدر ما تحدد "الحدود العادلة لأنشطة [الفرد]، والقيود التي يجب فرضها عليه" في تفاعلاته مع الآخرين.(راجع 28- Spencer, vol. I, 1901: 125) باختصار، بمجرد أن نبدأ في تنظيم حدسنا النفعي غير المكتمل بمبدأ المساواة في الحرية وحقوقه الأخلاقية المشتقة، نبدأ في " فحص " الصراع التطوري من أجل البقاء بمهارة ودقة غير مسبوقين. نحن نستثمر نفعيتنا بوعي ذاتي مع مبادئ ليبرالية صارمة من أجل تعزيز رفاهيتنا كما لم يحدث من قبل. الآن يبدو أن هنري سيدجويك قد فهم ما يعنيه سبنسر بالنفعية "العقلانية" بشكل أفضل من معظم الناس، على الرغم من أن سيدجويك لم يفهم سبنسر تمامًا أيضًا. أشرك سيدجويك سبنسر بشكل نقدي في مناسبات عديدة. كان اختتام الكتاب الثاني من (طرق الأخلاق) (The Methods of Ethics ) (1907)، بعنوان (مذهب المتعة الاستنتاجي) (Deductive Hedonism)، هو انتقاد مستمر و إن كان مستتراً لسبنسر. بالنسبة لسيدجويك، كانت نفعية سبنسر مجرد استنتاجية على الرغم من أنه زُعم أنها علمية وعقلانية بشكل صارم أكثر من النفعية "التجريبية". ومع ذلك، فإن مذهب المتعة الاستنتاجي يفشل لأنه، على عكس ما يعتقده أتباع المتعة الاستنتاجية مثل سبنسر، لا يوجد علم عام لأسباب اللذة والألم، مما يضمن أننا لن ننجح أبدًا في صياغة قواعد أخلاقية عالمية غير قابلة للنقض لتعزيز السعادة. علاوة على ذلك، فإن سبنسر يجعل الأمور أسوأ بالنسبة له فقط عندما يزعم أنه يمكننا مع ذلك صياغة قواعد أخلاقية غير قابلة للإلغاء لبشر أخلاقيين من الناحية النظرية. أولا وقبل كل شيء، في رأي سيدجويك، بما أننا لا يمكننا تخيل الشكل الذي سيبدو عليه البشر الأخلاقيون تمامًا فإننا لا نستطيع أبداً أن نستنتج مدونة أخلاقية مثالية للأخلاق "المطلقة" بالنسبة لهم. ثانيًا، حتى لو تمكنا بطريقة ما من وضع تصور لمثل هذة المدونة، فإنها مع ذلك ستوفر إرشادات معيارية غير كافية للبشر كما نجدهم بكل رغباتهم الفعلية وعواطفهم وميولهم غير العقلانية. بالنسبة لسيدجويك، فأن كل ما لدينا هو الفطرة النفعية، والتي يمكننا ويجب علينا محاولة صقلها وتنظيمها وفقًا لمتطلبات ظروفنا المتغيرة. إذن، انتقد سيدجويك سبنسر لخداع نفسه بالاعتقاد بأنه نجح في جعل النفعية "التجريبية" أكثر صرامة من خلال جعلها استنتاجية وبالتالي "عقلانية". كان سبنسر يقدم ببساطة مجموعة متنوعة أخرى من النفعية "التجريبية" بدلاً من ذلك. ومع ذلك، كانت نسخة سبنسر من النفعية "التجريبية" أقرب بكثير إلى نسخة سيدجويك والتي أعترف بها ألاخير. لم يكتف سبنسر بظلاله (بتعقبه سرا) على ملِ بشكل موضوعي (جوهريًا) فحسب، بل على سيدجويك بشكل منهجي. في مقدمة الطبعة السادسة من كتاب (طرق الأخلاق) ((The Methods of Ethics (1901)، كتب سيدجويك أنه عندما أصبح يدرك بشكل متزايد أوجه القصور في الحساب النفعي، أصبح أكثر حساسية تجاه الفعالية النفعية للفطرة السليمة "على أساس الافتراض العام الذي منحه التطور أن المشاعر والآراء الأخلاقية تشير إلى سلوك يؤدي إلى السعادة العامة"...(راجع Sidgwick, 1907: xxiii) بعبارة أخرى، الأخلاق الفطرية الحسية السليمة هي إجراء موثوق به يمكن الاعتماد عليه لاتخاذ القرار الصحيح لأن التطور الاجتماعي قد فضل ظهور المشاعر الأخلاقية العامة التي تولد السعادة. وكلما خذلتنا الفطرة السليمة في توجيه إرشادات متضاربة أو ضبابية، فليس لدينا خيار سوى الانخراط في استعادة النظام والحساب النفعي. هذا الأخير يعمل جنبًا إلى جنب مع الأول، حيث يقوم بصقله وتنظيمه إلى الأبد. الآن تعمل النفعية "التجريبية" لسبنسر بنفس الطريقة على الرغم من أن سبنسر قد طمس هذه التشابهات من خلال التمييز الزائف بين النفعية "التجريبية" والنفعية "العقلانية" المتفوقة المفترضة. إن سبنسر، شأنه في ذلك شأن سيدجويك، يرى أن أحكامنا الأخلاقية المنطقية تستمد قوتها البديهية من قوتها المثبتة في تعزيز المنفعة والموروثة من جيل إلى آخر. على عكس ما أكده النفعيون "التجريبيون" مثل بنثام عن طريق الخطأ، فإننا لا نجري حسابات نفعية في فراغ خالٍ من البديهة. لا يقتصر تعزيز المنفعة أبدًا على اختيار الخيارات، خاصة عندما يكون هناك الكثير على المحك، من خلال حساب المنافع ومقارنتها بشكل نقدي وحاسم. بدلاً من ذلك، يبدأ ظهور المنطق العملي النفعي حيثما تنهار بديهياتنا الأخلاقية. إن العلوم الأخلاقية تختبر وتحسن بديهياتنا الأخلاقية، والتي غالبًا ما تثبت أنها "غامضة بالضرورة " ومتناقضة. من أجل "جعل التوجيه من قبلهم مناسبًا لجميع المتطلبات ، يجب تفسير إملاءاتهم وتحديدها بواسطة العلم؛ لتحقيق هذه الغاية يجب أن يكون هناك تحليل لتلك الظروف لاستكمال المعيشة التي يستجيبون لها، ومن المضادات و المعاكسات التي نشأت معها ". يستلزم مثل هذا التحليل دائمًا الاعتراف بسعادة " كل واحد ، باعتباره الغاية التي تتحقق من خلال الوفاء بهذه الشروط".(راجع Spencer, vol. I, 1978: 204) النفعية "التجريبية" هي "مصنوعة بلا وعي" من "النتائج المتراكمة للتجربة البشرية السابقة"، مما يفسح المجال في النهاية إلى النفعية "العقلانية" التي "يحددها العقل".(راجع Spencer, 1969: 279 ff) علاوة على ذلك، فإن هذا الأخير "يشير ضمنيًا إلى الاستنتاجات العامة التي ينتج عنها تحليل التجربة"، وحساب "الآثار البعيدة" على الحياة "بشكل عام".(راجع Spencer, 1981: 162-5) باختصار، تعتبر النفعية "العقلانية" نقدية وتجريبية وليست استنتاجية. إنها حازمة على الرغم من أنها تتبنى بحكمة الحقوق الأخلاقية التي لا يمكن إبطالها كشرط ضروري للسعادة العامة، مما يجعل النفعية ليبرالية صارمة وبلا هوادة. وكانت أيضًا تطوريًا، إلى حد كبير مثل سيدجويك. بالنسبة لكل من سبنسر وسيدجويك، يفضح المنطق العملي النفعي ويصقل وينظم البديهيات الأخلاقية الكامنة لدينا، والتي تطورت حتى الآن على الرغم من فائدتها التي لا تحظى بالتقدير الكافي. في حين وصف سبنسر هذا التقدم نحو النفعية "العقلانية"، سيدجويك بشكل أكثر ملاءمة أطلق عليه "التقدم في اتجاه تقريب أقرب إلى النفعية [التجريبية] المستنيرة تمامًا ".(راجع Sidgwick , 1907: 455 ) . على الرغم من أوجه التشابه التقديرية بين نسختيهما الخاصة من النفعية التطورية، إلا أن سبنسر وسيدجويك فرقا الشراكة في ناحيتين أساسيتين. أولاً ، بالنسبة لسبنسر، فإن النفعية "العقلانية" تنقح النفعية "التجريبية" من خلال التقارب على حقوق أخلاقية غير قابلة للإلغاء، وبالنسبة لسيدجويك، فإن التنظيم لا يتوقف أبداً. بدلاً من ذلك، يستمر تنظيم الفطرة السليمة إلى أجل غير مسمى من أجل مواكبة تقلبات ظروفنا الاجتماعية. وتتطلب الاستراتيجية النفعية المثلى مرونة وليس تشددا صارما في الحقوق الراسخة. في الواقع، كانت نفعية سبنسر أكثر ليبرالية بشكل دوغمائي مقارنة بأذواق سيدجويك السياسية الأكثر اعتدالًا ومرونة. ثانياً، كان سبنسر لاماركياً بينما لم يكن سيدجويك كذلك. بالنسبة لسبنسر، تعمل ممارسة القدرة الأخلاقية على صقل البديهية الأخلاقية لكل فرد. نظرًا لكونها قابلة للتوريث بيولوجيًا (وليس ثقافيًا فقط)، فإن هذه البديهيات تصبح ذات تسلط موثوق ومتزايد في الأجيال المقبلة، وتفضل تلك الثقافات حيثما تصبح الفطرة السليمة الأخلاقية أكثر تشددًا في تساوي كل الأشياء. في نهاية المطاف، يبدأ أعضاء المجتمعات المفضلة ( الموهوبة ) في الاعتراف بوعي، وزيادة صقلها بشكل متعمد، لقدرة توليد المنفعة للبديهيات الأخلاقية الموروثة. تحل النفعية العلمية "العقلانية" ببطء محل الفطرة السليمة والنفعية "التجريبية" بينما نتعلم القيمة التي لا تضاهى للمساواة في الحرية وحقوقها الأخلاقية المشتقة كإجراءات اتخاذ قرارات نفعية يومية. بغض النظر عن خلافاتهم، كان سبنسر مع ذلك منفعيًا مثل سيدجويك، والذي أدركه الأخير تمامًا على الرغم من أننا يجب أن نتردد في وصف سبنسر بأنه منفعي كلاسيكي كما نسمي الآن سيدجويك. علاوة على ذلك، لم يكن سيدجويك الوحيد في مطلع القرن العشرين في تصوير سبنسر باعتباره منفعيًا بشكل أساسي. حيث نظر إليه جون هنري مويرهيد( J. H. Muirhead) باعتباره منفعيًا وكذلك فعل ويليام روس (W. D. Ros)في أواخر عام 1939.(راجع Muirhead, 1897: 136 Ross, 1939: 59) حتى العلماء في ألمانيا في ذلك الوقت قرءوا سبنسر باعتباره منفعيًا. على سبيل المثال، نظر إليه سنكلير(A. G. Sinclair) على أنه منفعي يستحق المقارنة مع سيدجويك. في عام 1907، خلص سنكلير في كتابة (نفعية سيدجويك و سبنسر) إلى أن: “Daher ist er [Spencer], wie wir schon gesagt haben, ein evolutionistischer Hedonist und nicht ein ethischer Evolutionist” والتي يمكننا ترجمتها عن الألمانية : " (سبنسر) كما رأينا بالفعل، مناصر مذهب المتعة التطورية وليس من أنصار التطورية الأخلاقية ".(راجع Sinclair, 1907: 49) لذلك، مهما وقعنا في العادة الخاطئة المتمثلة في اعتبار سبنسر أقل استثماراً في نفعية القرن التاسع عشر، فأنة لم يتم استقباله بهذه الطريقة أطلاقاً من قبل معاصريه المباشرين في كل من إنجلترا وأوروبا القارية.
#حسام_جاسم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هربرت سبنسر/ ٢
-
هربرت سبنسر / ١
-
المثلية الجنسية ( نظرية الكوير والبناء الاجتماعي للجنسانية)
-
المثلية الجنسية في تاريخ الفلسفة
-
سماح ادريس ... شجاعة استكمال المسيرة
-
سهد التهجير /15
-
اكوام من الرماد في قدر الدم
-
ردا على غادة السمان
-
الاستشراق السياسي و الطبقة المتوسطة و المهمشة / 1 !!! 1
-
قيمة الدم و البيوت ؟
-
و هل يمتلئ الخيال ؟!!!
-
سهد التهجير /14
-
سهد التهجير /13
-
بغداد ام بيروت ..... الهم واحد
-
سهد التهجير /12
-
سهد التهجير /11
-
سهد التهجير / 10
-
سهد التهجير /9
-
العنصرية و العقلانية في فلسفة هيغل / 3
-
العنصرية و العقلانية في فلسفة هيغل / 2
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|