|
رواية للفتيان عين التنين
طلال حسن عبد الرحمن
الحوار المتمدن-العدد: 7340 - 2022 / 8 / 14 - 23:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
رواية للفتيان
عين التنين
طلال حسن
شخصيات الرواية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ كيمو
2 ـ الأم
3 ـ نيتا
4 ـ شار
5 ـ الأم
6 ـ الرجل العجوز
7 ـ المرأة العجوز
8 ـ صاحب الكوخ
" 1 " ــــــــــــــــــ لسبب ما ، لا تدري كنهه بالضبط ، لم تستطع الأم أن تستغرق في النوم ، رغم شعورها بالتعب الشديد ، وظلتْ بحواسها الأمومية ، ترصد ابنها كيمو ، حتى وهي تحت فراشها ، تغفو بين حين وآخر . نعم ، لقد أوى ابنها كيمو إلى فراشه ، في الوقت الذي يأوي إليه عادة كلّ ليلة ، وأغمض عينيه الداكنتين ، وسرعان ما بدا لها ، وكأنه سيستغرق في النوم ، تحت فراشه الثقيل الدافىء . وتختلس النظر إليه ، كلما أفاقت من غفوة من غفواتها القلقة المتقطعة ، فتراه تحت فراشه ، لكنها لسبب ما ، ربما لأنها لا تسمع غطيطه ، تشعر أنه لم يستغرق في النوم بعد . وتتراءى لها ابنة رئيس حراس القصر نيتا ، بعينيها الواسعتين الجميلتين الساحرتين ، اللتين لا تستقران على حال ، آه من كيمو ، فيه الكثير من أبيه الصياد الشجاع المغامر ، وهذا ما تحبه فيه ، وتخاف منه أيضاً . وغفت الأم ، وفي غفوتها القلقة ، هدهدتها شار ، ابنة جارهم الطيب صياد السمك ، لقد نشأت معه منذ البداية ، وكانت ظله الذي لا يفارقه ، يا لأمها الطيبة ، التي رحلت قبل الأوان ، كانت تقول لها : شار ، سأزوجكِ لأمير من أمراء أريدو . وتنتفض شار بشعرها الأسود ، الذي يتطاير بحريته مع الريح ، وتردّ على أمها قائلة : كلا ، لن أتزوج الأمير ، بل سأتزوج كيمو . لكن ، وكلما كبرا ، كان كيمو يبتعد عنها شيئاً فشيئاً ، ولعل سراب ما في أريدو ، وربما الساحرة نيتا ، كانت بضبابها البراق تغطي على شار ، وتلاشيها من أفق كيمو ، حتى تكاد تمحوها . وفزت الأم من غفوتها ، إذ شعرت بأن ابنها كيمو فتح عينيه ، وفتحت هي الأخرى عينيها الناعستين ، الغرفة تكاد تكون مظلمة ، لا يضيئها سوى شعاع شاحب من ضوء القمر ، كان يتسلل من نافذة الغرفة المطلة على فناء البيت ، لعلها واهمة ، واتسعت عيناها ، إنها ليست واهمة ، فها هو كيمو ، يعتدل في فراشه ، ثم ينهض بهدوء ، ويتجه نحو باب الغرفة . وتوقف كيمو قرب الباب ، حين فوجىء بأمه تناديه : كيمو .. لم يلتفت كيمو إليها ، وردّ بصوت هادىء : نامي ، يا أمي ، نحن في منتصف الليل . وبدل أن تنام الأم ، اعتدلت في فراشها ، وقالت : مادمنا في منتصف الليل ، عد إلى فراشك . والتفت كيمو إليها ، وقال لها : نامي أنتِ ، سأخرج أنا بعض الوقت ، ثم أعود . ونهضت الأم ، واقتربت منه ، وقالت : بني ، أنا أمك ، إنني أخاف عليك منها . ورمقها كيمو بنظرة سريعة ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فتابعت الأم قائلة : إن أباها ، رئيس حراس القصر ، شخص شرير للغاية . وردّ كيمو قائلاً : أبوها شيء ، ونيتا شيء آخر . وقالت الأم : أنت واهم ، يا بنيّ . ومدّ كيمو يده ، ووضعها على كتف أمه ، وقال : لستُ أصغر من أبي ، حين تقدم لك ، وأخذك بشرط أبيك ، رغم خطورة الشرط . وردت الأم قائلة : كان الأسد يهدد الرعاة ، وقد خلصهم أبوك منه ، حين تصدى له ، وقضى عليه . وابتسم كيمو ، وأضاف قائلاً : إنني ابن أبي ، يا أمي ، سآخذها حتى لو كان أبوها هو الأسد نفسه . ونظرت أمه إليه بعينين دامعتين ، ثم قالت : كيمو ، إنني خائفة عليك ، فأبوها .. ضبع . وربت كيمو على كتفها ، ثم استدار وهو يقول : عودي إلى فراشك ، يا أمي ، لن أتغيب طويلاً . ثم فتح باب الغرفة ، ومضى إلى الفناء ، الذي كان يغمره ضوء القمر ، ولبثت الأم في مكانها فترة ، ثم عادت إلى فراشها ، وبقيت متمددة فيه لا تنام ، وكيف تنام وابنها كيمو ليس في فراشه ؟
" 2 " ـــــــــــــــــــ سرى كيمو إلى موقع النخلة المعمرة ، التي تنحني سعفاتها الخضراء ، على مياه الجدول الرقراقة ، والقمر يسري معه بدراً ، تحيط به النجوم ، كأنها تحرسه من قوى الظلام ، التي تحيط به . وتوقف تحت النخلة ، وتلفت حوله ، والقمر البدر يستحم في المياه الرقراقة ، لم تأتِ نيتا بعد ، هذا أفضل ، لقد خشي أن يصل متأخراً ، وتكون نيتا قد سبقته ، وانتظرته في هذا المكان الموحش ، ومن يدري فقد ينفد صبرها ، ويتملكها الغضب ، فتعود إلى البيت زعلانة . ومرّ الوقت ، مرّ ثقيلاً وبطيئاً ، مرّ أكثر من ساعة ، حتى أن القمر البدر ، خرج من الجدول ، وراح يبتعد نحو ملاذه ، ونيتا لم تأتِ ، هذا موعدهما الأول ، وكانت متحمسة للموعد ، وهي التي اختارت المكان ، و .. من يدري ، لعلها .. لا داعي للعجلة ، والتسرع في الحكم ، فلينتظر بعض الوقت ، ثم يقطع برأي . وانحدر القمر البدر نحو الأفق ، وقد شعر بالإرهاق والقلق ، نيتا لم تأتِ ، ويبدو أنها لن تأتي ، لابدّ أن هناك ما أعاقها عن المجيء ، لعل أمها مرضت ، أو لعله أبوها ، أو هي نفسها ، أو .. وحسم أمره ، فترك النخلة المعمرة ، ومضى نحو بيت نيتا ، الذي يقع في حيّ قريب من بيتهم ، فهو لن يطمئن حتى يراها . وحام كيمو حول بيت نيتا ، الذي كان الليل يلفه بعباءته السوداء ، أهي مستيقظة الآن ؟ من يدري ، فليحاول تنبيهها إلى وجوده ، والتقط من الأرض بعض الحصى الصغير ، وألقى واحدة نحو غرفتها ، انتظر قليلاً ، لم يتلقّ رداً ، فألقى حصاة أخرى ، وهذه المرة جاءه الرد ، لم يكن الرد من نيتا ، وإنما من كلبهم العجوز . وتوقف كيمو عن إلقاء الحصا ، خاصة عندما ارتفع نباح الكلب العجوز ، وارتفع معه سعال والد نيتا ، فاستدار بسرعة ، وقفل عائداً إلى البيت . وتسلل كما القط إلى الفناء ، ثم انسل إلى غرفته ، بهدوء وخطوات لا تكاد تُسمع ، محاولاً أن لا يُوقظ أمه من النوم ، ولكن هل كانت أمه نائمة لتستيقظ ؟ لقد ظلت متمددة في فراشها ، مغمضة العينين ، فهي عادة لا تنام ليلاً ، إلا وابنها كيمو نائم في فراشه . والحقيقة أن الأم أحست به ، وهو يدفع الباب برفق ، ويمرق تحت جنح الظلام إلى فراشه ، وتوقف جامداً حين سمع أمه تتحرك في فراشها ، ثم تتمتم بصوت لا أثر فيه للنوم :كيمو .. واندس كيمو في فراشه ، وردّ على أمه قائلاً : نامي ، يا أمي ، الليل يوشك أن ينتهي ، ويحلّ الفجر . ولاذت الأم بالصمت لحظة ، ثم قالت : يبدو أنك لم ترَ نيتا ، يا بنيّ . لم يجبها كيمو على كلامها مباشرة ، وإنما اكتفى بالقول وبصوت هادىء : نامي ، يا أمي . لم تنم الأم ، ولم تصمت ، وإنما تابعت قائلة ، وكأنها تتحدث إلى نفسها : فتاة محبة ، تجترح المستحيل ، ولا تتأخر عمن تحب . وسحب كيمو الفراش على وجهه ، وقل هو الآخر كم يتحدث إلى نفسه : لعلها مريضة . وقالت الأم : ليست مريضة . ولاذ كيمو بالصمت ، ولم يردّ بكلمة واحدة ، فتابعت الأم قائلة : إنها ابنة رئيس حراس القصر ، الذي يعرفه الجميع ، ولن تكون إلا ابنة رئيس حراس القصر . وصمتت الأم ، وظل كيمو صامتاً هو الآخر ، وبدا لها أنه لم ينم ، وربما لن ينام حتى الفجر ، تباً لنيتا .. ابنة رئيس حراس القصر .
" 3 " ــــــــــــــــــ لم ينم كيمو حتى الفجر ، ولعل نيتا كانت هي السبب ، إذ كلما كان النعاس يداعب عينيه ، تنهره نيتا بعينيها السوداوين الجميلتين ، اللتين لا تستقران على حال ، ترى لماذا لم تأتِ ؟ هذا وعدها الأول . وفكر كيمو وعيناه مغمضتان ، وقد طار النعاس عنهما ، ربما أبوها كان وراء ذلك ، فهو كما يعرف الجميع في أريدو ، رئيس حراس القصر ، ويتصف بالشدة والصرامة والقسوة ، تباً له . وتقلب في فراشه مرات ، تباً للنعاس ، ستشرق الشمس بعد قليل ، فهي تشرق دائماً كلّ صباح ، والنعاس لا يقرب عينيه ، فلتشرق الشمس ، سيسرع إلى عينيها السوداوين الجميلتين ، ويقف فيهما على الحقيقة ، لقد وعدته ، وهي تقول ، أن على المحب أن يفي بوعده ، آه لقد وفيتُ أنا بوعدي ، وسأفي به مهما كانت النتيجة . لا يعرف متى وكيف أغفى ، يبدو أن النعاس غافله ، وتسلل إلى عينيه ، دون أن يدري ، وحين أفاق ، وقد أشرقت الشمس ، هبّ من فراشه ، وخرج إلى الفناء ، ومرّ بأمه ، وكانت تعدّ سفرة الطعام ، فرفعت رأسها إليه ، ونادته متلهفة : كيمو .. لم يتوقف كيمو ، ومضى متجهاً نحو الباب الخارجيّ ، فصاحت به أمه : الفطور جاهز ، يا كيمو ، ابقَ حتى تفطر ، فأنت لم تتعشَ البارحة . لكن كيمو لم يبقّ ، وإنما فتح الباب الخارجي ، ومضى مبتعداً ، وتوقفت الأم محبطة ، وحملقت في سفرة الطعام ، ودمدمت : سيجن كيمو . وتباطأ كيمو في سيره ، عندما اقترب من بيت نيتا ، فقد رأى كلبهم العجوز منطرحاً قرب باب البيت ، ولو رآه يقترب ، لنبحه بصوت المبحوح ، ونبه إلى وجوده سيده ، رئيس حرس القصر ، الذي يشعر ببغضه له ، كلما سلط عليه عينيه الشرستين . ودار من بعيد حول البيت ، لعل نيتا تلمحه ، ثم توقف وراء نخلة ضخمة ، كانت بعيدة بعض الشيء عن البيت ، ويبدو أن نيتا قد لمحته ، فخرجت من الباب ، واقتربت منه على حذر ، وقالت له : اذهب من هنا الآن ، أبي لم يذهب إلى القصر بعد . فتراجع كيمو قليلاً ، وهو يقول : انتظرتك ليلة البارحة ، حتى كاد يغيب القمر ، لكنكِ لم تأتي . وراحت نيتا تبتعد عنه ، وهي تقول : تعال إلى هنا ، بعد أن يخرج أبي ، وسأوضح لك كلّ شيء . وواصل كيمو تراجعه ، وعيناه لا تغادرانها ، وهو يقول : لقد أقلقتني ، خشيتُ أن تكوني مريضة . فردت نيتا قائلة : كلا ، أنا لا أمرض ، تعال بعد قليل ، وستعرف السبب . لم يبتعد كيمو كثيراً ، وكمن وراء شجرة تبعد بعض الشيء عن النخلة ، التي كان قد وقف وراءها ، وراح يراقب باب بيت نيتا ، لقد تأخر أبوها اليوم عن الذهاب إلى القصر ، هذا ما بدا لكيمو الذي ينتظر على أحرّ من الجمر ، لعله مرض ، هذا ال .. لا يمرض ، لتأخذه الآلهة إلى العالم الأسفل ، وتريح كيمو منه . وأخيراً خرج أبو نيتا من البيت ، وهمّ الكلب العجوز أن ينهض ، ربما ليلحق به ، فنهره أبو نيتا ، فعاد إلى مكانه ، ووضع رأسه الشائخ بين قائمتيه الأماميتين ، وعلى الفور غادر كيمو مكانه ، وتسلل إلى النخلة ، التي وقف تحتها أول الأمر . وأقبلت نيتا ، وخاطبت كيمو ، حتى قبل أن تصل إليه : سيعود أبي بعد قليل ، فأمي مريضة ، وقد ذهب أبي إلى الكاهن ليأتيه بدواء . واقترب كيمو منها وقال : لم تأتي البارحة ، لقد انتظرتك طويلاً ، إنه موعدنا الأول . وتلفتت نيتا حولها ، وعيناها السوداوان الجميلتان لا تستقران كالعادة على حالة واحدة : عليّ أن أعود الآن إلى البيت ، فقد يعود أبي في أية لحظة . وتراجعت قليلاً ، وهي تتابع قائلة : وهو كما تعرف ، لا يحبك ، ولا يطيق رؤياك . وتبعها كيمو ببطء ، وقال : المهم أنتِ ، يا نيتا . وأشارت له أن يتوقف ، وقالت : أنتَ تعرفني . وتوقف كيمو ، وقال : أريد أن أتحدث إليك . وقالت نيتا : هذا ما أريده أنا أيضاً ، هناك أمر هام حدث ، ولابدّ أن نتفاهم حوله ، تعال الليلة عند ظهور القمر ، وانتظرني تحت هذه النخلة . وهمّ كيمو أن يلحق بها ، فاستدارت بسرعة ، ومضت على عجل ، وهي تقول : ذاك أبي على ما أظنّ ، يا كيمو ، اذهب الآن . وأسرع كيمو بالاختباء وراء النخلة ، رغم أنه لم يرَ أبا نيتا قادماً ، تباً لرئيس حراس القصر هذا .
" 4 " ــــــــــــــــــ قبيل منتصف النهار ، دُفع باب البيت ، ورفعت الأم رأسها ، إنها شار ، لا أحد يدفع الباب هكذا غيرها ، وأقبلت شار على الأم في الغرفة ، تحمل بين يديها سمكة كبيرة ، مسلوخة ومنظفة تنظيفاً كاملاً . وقبل أن تتفوه شار بكلمة ، ابتسمت الأم ، وقالت مبتسمة بما يشبه المزاح : شار .. ونظرت شار إلى الأم ، وقالت : هذه السمكة الكبيرة ، اصطادها أبي خصيصاً لكيمو .. وهزت الأم رأسها ، وقد اتسعت ابتسامتها ، فتابعت شار قائلة : لقد طلبت منه أنا ذلك ، فقبل أن يأوي إلى فراشه ليلة البارحة ، قلت له ، أبي أريد أن تصطاد غداً ، سمكة كبيرة لكيمو ، فهو يحب السمك كثيراً . وأشارت الأم إلى السمكة ، التي بين يدي شار ، وقالت بنبرة مزاح : لا أظنّ أن أباك ، قد اصطاد هذه السمكة الكبيرة من النهر هكذا . وابتسمت شار ابتسامتها الطيبة ، وقالت : لا يا خالتي ، إنها سمكة كبيرة ، وسلخها وتنظيفها شاق عليك ، ثم إنها هدية لكِ ، و .. ولكيمو . وتنهدت الأم ، ماذا تقول ؟ ليت كيمو يفكر ، ولو قليلاً ، كما تفكر شار ، لكن .. آه من عشتار ، إن لها تخطيطها وإرادتها ، وما نحن إلا بشر ، وهمت أن تنهض ، وهي تقول : لقد انتصف النهار تقريباً ، وقد يأتي كيمو للغداء بعد قليل ، فلأنهض وأقلي السمكة . وهتفت شار بالأم : ابقي أنتِ ، يا خالة ، السمكة كبيرة ، سأقليها بنفسي ، لعلها تعجبه أكثر . وقبل أن تنهض الأم ، وتعترض ، اتجهت شار إلى الخارج ، وهي تقول : قولي لكيمو ، بعد أن يأكل السمكة ، أنني أنا التي قليتها له بنفسي . ولحقت الأم بشار إلى الفناء ، وقالت لها : بنيتي شار ، دعي السمكة لي ، أنا سأقليها ، واذهبي أنت ، فأبوك أحوج ما يكون لك ، إنه وحده الآن في البيت . وأشعلت شار الموقد ، ووضعت المقلاة عليه ، بعد أن صبت فيها بعض الزيت ، وراحت تقلي السمكة ، وقالت : لن أذهب قبل أن أقلي السمكة كلها . وقلت شار السمكة كلها ، قطعة بعد قطعة ، وأعدت السفرة بنفسها ، على أمل أن يأتي كيمو ، ويراها ، ويرى ما فعلته من أجله ، وهذا ما خمنته الأم ، وتركت شار تفعل ما تريد ، بل تمنت هي نفسها ، أن يأتي كيمو في الوقت المناسب ، لكن النهار تجاوز منتصفه ، ولم يأتِ كيمو ، ونظرت شار إلى الأم ، التي بدت محرجة محبطة ، وقالت : آن لي أن أعود إلى البيت ، إن أبي المسكين لابدّ أنه جائع الآن . ونظرت الأم إليها ، وقالت : أشكركِ ، يا شار . واتجهت شار إلى الباب الخارجي ، وهي تقول : لا تنسي ، يا خالتي ، قولي لكيمو أنني أنا التي قليتُ له هذه السمكة الكبيرة . وردت الأم قائلة : ألف شكر لك يا شار ، لتسعدكِ الآلهة يا بنيتي ، ، تحياتي لوالدك . وعادت الأم إلى الغرفة ، ووقفت حزينة أمام سفرة الطعام ، مسكينة شار ، ربما لا تعرف أن عيني كيمو ، اللتين كانتا متعلقتين بها ، وهما طفلتان ، اتجهتا الآن بعيداً ، بعيداً جدا ، حتى أوشكتا لا تراها إلا نادراً ، آه عشتار ، رحمتك مطلوبة لبعض البشر . وتمنت الأم ، بينها وبين نفسها ، أن يأتي كيمو الآن ، ويأكل من هذه السمكة ، ستقول له فرحة : كيمو ، هذه السمكة جلبتها شار ، وقلتها لك بنفسها . وتخيلته متمنية أن يأكل منها متلذذاً ، ثم ينظر إليها ، ويقول : آه ما أطيبها . وتنهدت الأم ، شار الطيبة ، ليتها تقلي له السمك طول حياتها ، و .. وتنجب له الأطفال .
" 5 " ـــــــــــــــــــ لم تتناول الأم طعام الغداء ، حتى بعد أن تجاوز النهار منتصفه ، رغم أنها كانت جائعة ، فهي لم تأكل في الصباح ، سوى لقيمات قليلة ، وذلك لأن كيمو خرج من البيت صباحاً ، دون أن يأكل أي شيء . وعند حوالي العصر ، جاء كيمو من الخارج ، أين كان ؟ ماذا كان يفعل ؟ لم تسأله أمه ، رغم أنها كانت قلقة عليه ، والآن لابدّ أنه جوعان ، فلتعد له السفرة . وأسرعت تستقبله متلهفة عند الباب ، وهي تقول بصوت حرصت أن يكون هادئاً طيباً : تأخرت ، يا بنيّ ، لم أتغدَ حتى الآن ، لابدّ أنك جائع الآن ، تعال نتغدّ . واتجه كيمو نحو الغرفة ، وأمه تسير في أثره ، وقال : قلتُ لك مراراً ، لا تنتظريني ، يا أمي ، كلي أنتِ ، وسآكل أنا حين أعود إلى البيت . ودخل كيمو إلى الغرفة ، ولحقت الأم به ، وقالت : كيف يمكن أن آكل ، وأنت غير موجود ؟ ثم أشارت إلى السفرة ، وأضافت قائلة : ها هو طعام الغداء ، اجلس يا بنيّ ، ولنأكل معاً . وجلس كيمو أمام السفرة ، وجلست أمه قبالته ، وقالت : أتعرف من جاء بهذه السمكة ؟ ووضع كيمو لقمة في فمه ، وضحكت الأم ، وتابعت قائلة : وسلختها ، ونظفتها ، بل وقلتها أيضاً .. ونظر كيمو إليها صامتاً ، وهو يضع لقمة أخرى في فمه ، فقالت الأم ، وهي تضحك بفرح : شار .. وتمتم كيمو : شار ! فقالت الأم : نعم شار ، وقالت لي ، هذه السمكة الكبيرة ، صادها أبي خصيصاً لكيمو ، لأنه يحب .. السمك . وابتسم كيمو ، وشار تتراءى له بجمالها الطفولي ، وشعرها الذي قلما عرف المشط والترتيب ، ونظرت أمه إليه ، وقالت : آه شار ، لقد تربيتما معا ، وكنتما وأنتما صغيران ، لا تكادان تفترقان . ونهض كيمو ، وهو مازال يلوك لقمته ، وقال : سمك لذيذ ، شار هذه ستكون طباخة ماهرة . وعلقت الأم قائلة بنبرة موحية : هكذا يجب أن تكون ربة البيت المحبوبة ، يا كيمو . وهزّ كيمو رأسه ، وقال : نعم ، سمك لذيذ . وتطلعت أمه إليه ، وقالت : ستفرح شار إذا عرفت رأيك هذا ، إنها تعزك كثيراً . وتوجه كيمو إلى فراشه ، وتمدد فيه متثائباً ، وقال بصوت ناعس : إنني متعب ، يا أمي ، سأنام بعض الوقت ، لعلي أرتاح قليلاً . ونهضت الأم ، وحملت ما تبقى من الطعام ، واتجهت إلى الخارج ، وهي تقول : نم وارتح ، يا بنيّ ، الجو دافىء اليوم ، سأبقى في الفناء . وقبيل المساء ، والشمس تتهيأ للغروب ، دُفع الباب الخارجي ، إنها شار ، ورفعت الأم رأسها ، ونظرت إليها مبتسمة ، وقالت : أهلاً شار . وأقبلت شار عليها ، بحيويتها الطفولية المعهودة ، وقالت لها : طاب مساؤكِ ، يا خالتي . ووضعت الأم إصبعها على شفتيها ، وقالت بصوت خافت : لا ترفعي صوتك ، يا شار ، كيمو متعب ، وهو راقد يرتاح في فراشه . ومالت شار عليها ، وقد تورد الفرح في خديها ، وقالت بصوت خافت : خالتي ، أرجو أن يكون كيمو ، قد أكل من السمكة ، التي جلبتها له . فابتسمت الأم لها ، وأسرت لها فرحة بصوت خافت : وقد أعجبته جداً جداً . وتلفتت شار حولها ، وهي تكتم فرحها ، وقالت بنفس الصوت الخافت : هل عرف بأني أنا من .. ؟ وهزت الأم رأسها بالإيجاب ، وقالت بصوت هامس : قلتُ له ، إنها هدية من شار ، اصطادها أبوها ، فسلختها ، ونظفتها ، بل وقلتها بنفسها أيضاً . وانكبت شار على الأم ، وأمطرتها بالقبل ، وهي تقول فرحة : أشكرك ، يا خالتي العزيزة ، أشكرك ، لن أدع كيمو يأكل السمك إلا من يديّ أنا . وتمتمت الأم ، وهي تتلقى فرحة قبل شار : عشتار .. وتراجعت شار ببطء ، وهي تقول بصوت خافت : فلأذهب إلى البيت ، لا أريد أن يستيقظ كيمو بسببي ، سآتيك غداً صباحاً . ولوحت الأم لها ، وقالت : رافقتكِ السلامة ، يا بنيتي شار ، رافقتكِ السلامة .
" 6 " ــــــــــــــــــ عند منتصف الليل ، والقمر يطل بدراً من أعالي السماء ، أقبل كيمو ملتفاً بالليل المقمر ، وتوقف قرب النخلة ، القريبة من بيت نيتا ، ها هو قد حضر ، كما طلبت منه نيتا ، وعليها من جهتها ، أن تفي بوعدها ، وتحضر في الوقت المناسب . وحضرت نيتا ، ولكن في وقت متأخر من الليل ، وقد نفد صبره كيمو ، وكاد يقفل عائداً إلى البيت ، فانتفض قلبه ، حين رآها مقبلة ، يضيئها القمر بنوره الشاحب البارد ، وهمّ أن يسرع إليها ، فأشارت له أن يبقى في مكانه ، فبقي وقد غمره الفرح . وتوقفت نيتا على مقربة منه ، وقالت معتذرة : عفواً ، تأخرت عليك بعض الشيء ، يا كيمو . وردّ كيمو قائلاً : لا بأس ، لقد حضرت ، يا نيتا ، وهذا هو المهم . ورمقته نيتا بعينيها السوداوين الجميلتين ، وهما كالعادة لا تستقران على حال ، وقالت : إنه أبي ، لقد تأخر اليوم أيضا ، ولم ينم إلا قبل قليل . وابتسم كيمو لها ، وقال : ليته مثل أمي ، إنها تنام عادة كالدجاج ، وخاصة إذا كنتُ في فراشي . وقالت نيتا : جاءنا اليوم ضيف ، إنه كبير تجار المدينة ، وزنه ذهباً ، ويريدني لابنه . ورغم تأثره ، قال كيمو : ذلك البدين .. فقاطعته نيتا قائلة : أبي يحبُ الذهب . وصمتت لحظة ، وهي ترمقه من جانب عينيها : لكنه يحب الجواهر أكثر .. ونظر كيمو إليها ، وقال : آه ولهذا فأن أباك ، رئيس حراس القصر ، لا يحبني . وقالت نيتا بدلال : أنا .. أحبك . وانتفض قلبه العاشق ، وتمتم : نيتا .. وتنهدت نيتا ، وقالت : لو تستطيع الحصول على درة التنين الطائر .. وتمتم كيمو مذهولاً : التنين الطائر ! وابتعدت نيتا بعينيها السوداوين الجميلتين عنه ، وقالت كأنما تحدث نفسها : لا ، الأمر ليس سهلاً ، ويحتاج شاباً قوياً ، جريئاً ، لا يتردد أمام الصعاب ، ولا يخاف شيئاً ، ويضحي من أجل من يحب بالغالي والنفيس . واقترب كيمو منها ، وقال : درة التنين الطائر تلك ، حدثيني بعض الشيء عنها . وحدقت نيتا فيه ، وقالت : الدرة هي عين .. وصمتت نيتا ، و أبعدت عينيها السوداوين الجميلتين عنه ، ثم قالت : لا يا كيمو ، إنني أخاف عليك ، لا بأس أن يأخذني السمين ، المهم عندي أن لا تتأذى . وصمتت لحظة ، ثم قالت : التنين الطائر ، ذو العين الواحدة ، شرس للغاية .. ومدّ كيمو يديه الشابتين ، وأمسك بكتفيها الجميلين العاجيين ، وقال بصوت مليء بالعزم : سآتيك بعين التنين ، الدرة النادرة ، مهما كلفني الأمر . ولاذت نيتا بالصمت لحظة ، ثم أشارت إلى جبل غارق في الضباب ، وقالت بصوت يشي بالاستسلام والمسكنة : ذلك الجبل البعيد .. ونظر كيمو إلى الجبل البعيد ، الغارق في الضباب ، ورغم أنه لم يره جيداً ، قال : أراه .. وتابعت نيتا قائلة : قمته عالية جداً .. وتمتم كيمو قائلاً : تحدث عنها الكاهن ، وقال إن الثلوج لا تذوب فيها حتى في الصيف . وهزت نيتا رأسها ، وقالت : نعم ، إنها هي . وقال كيمو : سأصعد إليها . والتمعت عينا نيتا ، وكتمت ابتسامتها ، وقالت : هناك يعيش التنين الطائر ، ذو العين الواحدة . وتساءل كيمو : والدرة ؟ فردت نيتا قائلة : عينه هي الدرة . ولاذ كيمو بالصمت لحظة ، وقد فغر فاه ، فتابعت نيتا قائلة : عندما يأتي إلى عشه مساء ، فوق قمة الجبل ، ينزع عينه ـ الدرة ، ويضعها جانباً . وهمهم كيمو مبهور الأنفاس : هم م م م . ومالت نيتا برأسها جانباً ، وقالت : لو حصل أبي ، وهو يحب الجواهر جداً ، على هذه الدرة ، فأظن أنه سينسى ابن التاجر البدين و .. ولاذ كيمو بالصمت ، وبدا وكأنه يفكر فيما قالته نيتا ، وهمّ أن يتكلم ، فتلفتت نيتا حولها ، ثم قالت ، وهي تسير نحو البيت : الليل يوشك أن ينتهي ، وأبي يستيقظ مع الفجر ، الأفضل أن أذهب . وهتف كيمو من مكانه : نيتا .. وردت نيتا ، دون أن تتوقف : عد الآن إلى البيت . وهتف كيمو ثانية : أمهليني أياماً ، وسيرضى أبوك عني ، بل سيحبني ، مادام يحب الدرة . وتوقفت نيتا عن السير ، دون أن تلتفت إليه ، وشبح ابتسامة شيطانية ترقص في عينيها السوداوين الجميلتين ، وواصلت نيتا سيرها نحو البيت ، وهي تقول : الأفضل أن تسرع ، يا كيمو ، فابن التاجر السمين متلهف جداً للحصول عليّ ، رافقنك السلامة .
" 7 " ــــــــــــــــــ قبل أن تستيقظ شمس اليوم ، وتنهض من فراشها الدافىء ، وتبدأ رحلتها اليومية المعتادة في أعالي السماء ، استيقظت أم كيمو ، ونهضت بهدوء من فراشها ، بعد أن تأكدت أن ابنها كيمو مازال راقداً في فراشه ، وعيناه لم تستيقظا بعد . وأحس كيمو بأمه ، وهي تنهض من فراشها ، فهو ’ كما تقول أمه ـ مثل الهر ، ينام بعين واحدة ، وعرف أنها تعدّ طعام الفطور له ، حتى لا يفلت منها ، ويخرج من البيت ، دون أن يفطر ، كما فعل في اليوم السابق . وفتح كيمو عينيه ، اللتين لا أثر للنعاس فيهما ، نعم ، كانت أمه تعد طعام الفطور ، ونهض من فراشه ، ووجد سفرة الطعام جاهزة ، فرمق أمه بنظرة سريعة ، وقال : طاب صباحكِ ، يا أمي . والتفتت أمه إليه ، وردت قائلة ، وهي تشير إلى سفرة الطعام : تعال نفطر ، قبل أن يبرد الطعام . وجلس كيمو أمام السفرة ، ونظر إلى أمه ، قبل أن يمدّ يده إلى الطعام : أمي .. وقاطعته أمه قائلة ، وكأنها تعرف ما يريد أن يقوله لها : كلْ الآن . ومدّ كيمو يده ، ووضع لقمة في فمه ، وقال : لقد حدثتني مرة عن .. التنين الطائر .. ومرة ثانية قاطعته أمه قائلة : لم أحدثك عن هذا التنين ، ولا عن أي تنين آخر ، يا كيمو . وتابع كيمو ، وكأنما يذكرها بما قالته له مرة : التنين الطائر ، ذو العين الواحدة ، يا أمي . وتوقفت الأم عن تناول الطعام ، وقد لاذت بالصمت ، فقال كيمو : أمي .. وهزت الأم رأسها ، وقالت كأنما تحدث نفسها : هذا كائن خطر للغاية .. وصمتت لحظة ، ثم قالت مخاطبة كيمو : قال لي أبوك مرة ، قبل أن نتزوج ، سأذهب إلى أعلى جبل التنين ، وأحضر لك عين التنين الطائر .. وصمتت الأم لحظة ، ثم تابعت قائلة : قلتُ له ، أنا أريدك أنت ، وليس عين التنين الطائر . ونظر كيمو إلى أمه ، وقال بصوت هادىء : أبي كان محظوظاً بكِ ، يا أمي . ونهض كيمو من مكانه ، ونظر عبر النافذة إلى البعيد ، حيث يلوح جبل التنين وسط الضباب ، وقال بنبرة حاسمة : يجب أن أذهب . ثم اتجه نحو فناء البيت ، فهبت الأم واقفة ، وهي تهتف بلوعة : كيمو .. لم يتوقف كيمو ، وخرج من الغرفة إلى الفناء ، وهو يقول : لابدّ أن أذهب ، يا أمي ، ادعي لي ، فأنا أحوج ما أكون الآن إلى دعائكِ . وفتح الباب الخارجيّ ، ومرق منه إلى الخارج ، فهتفت الأم بصوت باكٍ : كيمو .. لكن كيمو مضى ، بعد أن أغلق الباب وراءه ، فبركت الأم وسط الفناء ، ودموعها تجري على وجنتيها بصمت ، كما جرت يوم فقدت زوجها بين براثن الأسد . ولم تنتبه الأم ، على الباب الخارجي ، وهو يدفع برفق ، بل لم تنتبه إلى وقع خطوات شار في الفناء ، لكنها انتبهت إلى صوت تعرفه ، يخاطبها : خالتي . إنها شار ، لكنها لم تردّ عليها ، فقالت شار ثانية بصوت دامع : خالتي .. كيمو .. وصمتت لحظة ، ثم انحنت على الأم ، وقالت لها بصوتها الدامع : رأيت كيمو قبل قليل ، يخرج من البيت ، وتوقف لحظة ينظر إليّ من بعيد ، ثم استأنف سيره ، ومضى مبتعداً . ورفعت الأم عينيها الغارقتين بالدموع إليها ، وقالت بصوت باكٍ : لقد مضى كيمو ، يا شار .. مضى إلى البعيد .. مضى .. مضى ..
" 8 " ـــــــــــــــــــ لا مستحيل في الحياة ، مادام هناك هدف وإرادة ، هذا ما كان يقوله أبوه صياد الأسود ، لكن أمه تعلق قائلة ، لقد قتله أسد . ومضى كيمو في طريقه ، لا يلتفت إلى شيء ، وليس في أعماقه سوى نيتا ، ونيتا فقط ، لكن التنين الطائر ليس أسداً ، وسيصل إليه ، مهما كان بعيداً ، مادام يسير في الطريق المؤدي إلى جبل التنين . وواصل كيمو طريقه ، يحمل مع إرادته ، إرادة أبيه صياد الأسود ، الذي خرج للصيد ، ولابدّ أن في باله فتاة جميلة ، لعلها أمه هو كيمو ، وهو أيضاً خرج ، وفي باله فتاة عيناها سوداوان جميلتان ، وإن كانتا لا تستقران على حال ، وسيواجه أسده .. التنين الطائر ، ويأخذ منه عينه الوحيدة ، الدرة النادرة . أبوه ، صياد الأسود ، قتله طموحه ، قتله أسد ، لكنه حصل على حلمه ، هذا إذا كانت أمه هي الحلم ، وهو ماض قدماً ، وسيواجه مصيره ، بإرادة حديدية ، مادام في الأفق عينان سوداوان جميلتان ، دعك من أنهما لا تستقران على حال ، وسيصل إلى الجبل ، جبل التنين الطائر ، ويصعد إلى قمته ، التي لا يذوب الثلج عنها ، لا صيفاً ولا شتاء . وعند المغرب وصل كيمو قرية صغيرة ، تطل بيوتها على بحيرة مياهها كالمرآة ، لا يزيد بيوتها الصغيرة عن عدد أصابع اليدين ، وتوقف أمام باب أول كوخ صغير رآه ، وطرقه برفق ، فخرجت إليه امرأة عجوز مهدمة ، فحياها قائلاً : طاب مساؤك ، يا جدة . وحدقت المرأة العجوز فيه ، بعيني تكاد تنطفئان ، وقالت : تبدو غريباً ، يا بنيّ . فرد كيمو قائلاً بصوت متحشرج : جئت من مكان بعيد ، يا جدتي ، وأنا جائع ومتعب . وتنحت المرأة العجوز قليلاً ، وقالت بصوتها الشائخ : تعال ، يا بنيّ ، ادخل ، واقضِ الليلة عندنا . ودخل كيمو الكوخ ، ونهض من أمام الكانون رجل عجوز ، فأشارت المرأة العجوز إليه ، وقالت : هذا زوجي ، ولدينا حقل صغير ، وبضع عنزات . وهزّ الرجل العجوز رأسه ، وقال : أهلاً بك ، يا بنيّ ، لابدّ أنك متعب ، اجلس قرب النار . وجلس كيمو قرب النار ، وقدمت له المرأة خبزاً طازجاً ، وبعض الحليب ، وهي تقول : كلْ ، يا ينيّ ، كلْ حتى تشبع ، لدينا مزيداً من الحليب والخبز . وراح كيمو يتناول الطعام بشهية ، فجلست المرأة العجوز قبالته تحدق فيه متأملة إياه بتأثر وصمت ، ثم سألته بصوتها الشائخ : ما اسمكَ ، يا بنيّ ؟ وردّ كيمو ، دون أن يتوقف عن تناول الطعام : اسمي كيمو ، يا سيدتي . وأشرق وجه المرأة العجوز ، والتمعت عيناها الموشكتان على الانطفاء ، وقالت : كيمو ! يا للصدف ، ابني أيضاً كان اسمه كيمو . ومدت يدها الشائخة ، وشدت على كتفه ، وواصلت كلامها قائلة : ابقَ عندنا ، وكن ابني ، الكوخ واسع ، ويتسع لنا جميعاً . ونظر كيمو محرجاً إلى الرجل العجوز ، الذي راح يهز رأسه ، دون أن يتفوه بكلمة ، واستطردت المرأة العجوز قائلة ، ودموعها تسيل على خديها الضامرين : لقد حلم أن يصعد جبل التنين الطائر ، ويصل إلى قمته ، المكللة بالثلوج صيفاً وشتاء ، وذات يوم مضى كيمو ، مضى ولم يعد ، لم يعد حتى الآن . وصمتت طويلاً ، وقد مال رأسها الشائخ على صدرها ، ثم قالت بصوت واهن كأنها تحدث نفسها : قد يعود .. يعود يوماً ما .. ويومها سأعود شابة ، و .. وصمتت المرأة العجوز ، وخمدت أنفاسها ، وسرعان ما راحت تغط في نوم عميق ، فمال الرجل العجوز على كيمو ، وقال له بصوت خافت : بنيّ ، انهض إلى فراشك ، ونم فيه ، لقد نامت العجوز . ونهض كيمو ، وقال بصوت خافت : مسكينة زوجتك ، الحياة قاسية ، أتمنى أن يعو ابنكما في يوم قريب . ومال عليه الرجل العجوز ، وقال : لن يعود أبداً ، لأنه في الأساس ليس لنا ابن .
" 9 " ــــــــــــــــــــ أفاق كيمو صباح اليوم التالي ، والشمس تطل واهنة من بين الغيوم ، وهمّ أن ينهض من فراشه ، فرأته المرأة العجوز ، وكانت تعد سفرة الطعام ، فمالت عليه ، وقالت : ابقَ في فراشك ، الوقتُ مازال مبكراً . لكن كيمو نهض من فراشه مبتسماً ، وقال للمرأة العجوز : لقد أشرقت الشمس ، وعليّ أن أواصل طريقي . وأشارت المرأة العجوز إلى سفرة الطعام ، وقالت : لن تذهب قبل أن تتناول طعام الفطور معنا . ورمق كيمو الرجل العجوز ، الذي كان يجلس صامتاً قرب كانون النار ، ثم قال له : طاب صباحك . وردّ الرجل العجوز بصوته الشائخ : طاب صباحك ، يا بني ، اجلس وافطر معنا . وجلس كيمو أمام سفرة الطعام ، فمضت المرأة العجوز إلى خارج الكوخ ، وهي تقول : سأجلب بعض الحليب ، إن كيمو يحب الحليب . ونهض الرجل العجوز من مكانه ، وجلس بتأنٍ قرب كيمو ، وهمس له : كيمو .. ونظر كيمو إليه ، وردّ قائلاً : نعم . وتبع الرجل العجوز كلامه قائلاً : لا تقل لزوجتي ، أنك ذاهب إلى جبل التنين الطائر . وبدت الدهشة على كيمو ، وقال : لكني لم أقل ، بأنني ذاهب إلى جبل التنين . ونظر الرجل العجوز نحو باب الكوخ ، وقال بصوت خافت : أعرف أين تريد أن تذهب ، وقد سبقك البعض إليه ، ولم يعودوا ، فاكتم هذا السر عن زوجتي . وهمّ كيمو بالكلام ، لكن المرأة العجوز دفعت الباب ، ودخلت الكوخ ، وهي تحمل إناء فيه حليب ، وقالت : هذا حليب طازج ، أعرف أنه يعجبك . وتمتم الرجل العجوز : فلنأكل . وجلست المرأة العجوز قبالة كيمو ، ووضعت أمامه كوباً من الحليب ، وقالت : مثل هذا الحليب لن تجده في أي مكان ، كل يا بنيّ ، كل حتى تشبع . وراح كيمو يشرب الحليب ، ويأكل كلّ ما تقدمه له المرأة العجوز ، وأخيراً رفع يديه ، وفمه مملوء بالطعام ، وقال : كفى ، لقد امتلأتُ . وهزت المرأة العجوز رأسها مبتسمة ، وقدمت له قطعة من الخبز ، مدهونة بالزبد ، وقالت : لن تنهض قبل أن تأكل قطعة الخبز هذه . وأخذ كيمو قطعة الخبز ، ودسها في فمه ، وهو يقول بصعوبة : أشكرك .. أشكرك . ونهض كيمو ، وهو مازال يلوك لقمته ، ونظر إلى الرجل العجوز ، وقال له : أشكركم على هذه الضيافة الكريمة ، لقد تمتعت كثيراً بصحبتكم ، إنني ذاهب الآن ، أترككم برعاية الآلهة . ثم استدار ، واتجه نحو باب الكوخ ، فخاطبه الرجل العجوز قائلاً : رافقتك السلامة . ورمقه كيمو بنظرة خاطفة ، وقال له : ابقّ قرب كانون النار ، الجو بارد في الخارج . وخرج كيمو من الكوخ ، وفي أثره خرجت المرأة العجوز ، ومضى يسير مبتعداً ، فسارت المرأة العجوز إلى جانبه لاهثة ، فقال لها : أشكرك ، لن أنسى ما قدمته لي من رعاية ، و .. أتمنى لك ولزوجك الطيب الصحة والعافية وطول العمر . وتوقفت المرأة العجوز ، وهتفت بصوت لاهث متقطع : كيمو .. وتوقف كيمو هو الآخر ، والتفت إليها ، وقال : نعم . واستطردت المرأة العجوز قائلة : بني .. أعرف إلى أين ستذهب .. ونظر كيمو إليها بعينين تغشاهما الدموع ، وقال : لا عليك ، لكلٍ قدره يا .. واقتربت المرأة العجوز منه ، وقالت : أنت لست ابني ، وأنا لم يكن لي ابن ، ولن يكون لي ابن ، في أيّ يوم من الأيام ، آه طالما تمنيت أن يكون لي ابن ، أعيش معه حياتي ، لكن .. فات الأوان . ومدت يدها الشائخة ، وربتت على ذراعه ، وقالت : اذهب ، يا كيمو ، رافقتك السلامة . وصمتت لحظة ، ثم قالت : إن الطريق الذي تسير فيه ، هو طريق .. الصد ما رد . ووقف كيمو جامداً ، ثم استدار عن المرأة العجوز ، التي كانت الدموع تغرق عينيها ، ونظر إلى جبل التنين الطائر ، الذي تعلو الثلوج قمته العالية ، ثم سار قدما ، لا يلوي على شيء .
" 10 " ــــــــــــــــــــــ واصل كيمو سيره ، مبتعداً عن كوخ الزوجين العجوزين ، وحاول جهده أن يحصر تفكيره في التنين الطائر ، وعينه الوحيدة ، الدرة التي تريدها نيتا ، والتي يمكن أن تقرر مصيره معها ، لكن دون جدوى . وفي البداية ، تراءت له أمه ، وحديثها عن أبيه صياد الأسود ، وحاول عبثاً أن يبعدها عن ذهنه ، حين سمعها تقول له : لقد قتله أسد . ونيتا بعينيها السوداوين الجميلتين ، اللتين لا تستقران على حال ، كانت تزاحم أمه في تفكيره ، وتقول له : " ابن التاجر البدين متعلق بي ، وأبوه سيشتريني له ، فذهبه كثير جداً " ، وهمست في أذنه " الدرة ، عين التنين الطائر ، لن يقاومها أبي ، وسيمنحني لك " . ووسط هذا الزحام ، أمه وأسودها من جهة ، ونيتا وسمينها وذهب التاجر وجشع أبيها من جهة أخرى ، تلوح شار كظبية برية ، تحممت بغبار طلع الأزهار البرية ، وتجاذبت الريح خصلاتها ، وانطلقت تسابق الريح نحوه ، وتصيح : كيمو .. وتراءت شار له ، حين تصدى له صبي أكبر منه ، قوي ، شرس ، متهور ، وطرحه أرضاً ، وراح يصفعه على وجهه ، فانقضت شار عليه ، ووثبت على ظهره كالقرد ، وأوسعته ضرباً ، ثم أطبقت أسنانها على إحدى أذنيه ، حتى راح يستغيث ، وهو يحاول التخلص منها : أيتها المتوحشة ، اتركي أذني ، ستقطعينها . وأفاق كيمو من تداعياته ، عند حوالي منتصف النهار ، وإذا هو أمام جبل التنين الطائر ، ورفع رأسه إلى الأعلى ، ولاحت له القمة المكللة بالثلوج ، تكاد تغيب في الغيوم المتكاثفة ، آه ما أبعد القمة ، مهما يكن ، لقد جاء إلى هنا ، لا ليقهر تلك القمة فقط ، وإنما ليتصدى للتنين الطائر ، ويأخذ منه عينه الوحيدة ، الدرة ، وإلا لن يحصل على نيتا ، يا للثمن الباهظ . وبدأ كيمو أولى خطواته نحو القمة ، صخور ضخمة ، صخرة فوق صخرة فوق صخرة حتى الغيوم ، وتناهت إليه من بعيد دمدمة تخالطها الريح ، ورفع رأسه إلى الأعلى ، دون أن يتوقف ، الغيوم قاتمة ، تتزاحم وتتدافع فوق القمة ، وتنذر بالمطر أو الثلوج ، ومضى في طريقه صعداً ، قد تهطل الأمطار مساء ، ومن يدري ، فقد يتساقط الثلج أيضاً ، فالهواء بارد يفوح برائحة المطر والثلج . وحوالي المساء ، وقد اختفت الشمس تماماً وراء الغيوم الثقيلة ، بدأ المطر يهطل ، وتوقف كيمو ، وتلفت حوله ، لعله يرى كهفاً يلجأ إليه ، ويقضي فيه ليلته ، وبدل الكهف وقعت عيناه على كوخ صغير ، يكاد يختفي بين مجموعة من الأشجار الكثيفة ، فاستدار بسرعة ، ومضى تحت المطر ، نحو ذلك الكوخ . وتقدم كيمو من باب الكوخ ، وطرقه برفق ، رغم أن الباب كان موارباً ، لم يردّ أحد ، فطرقه ثانية ثمّ صاح : يا أهل هذا الكوخ . ومرة أخرى لم يردّ أحد ، فدفع كيمو الباب ، ومضى إلى الداخل بخطوات مترددة ، وهو يقول بصوت متعب : أليس من أحد هنا ؟ وتوقف وسط الكوخ ، وتلفت حوله مدققاً ، وإذا الكوخ خال ، لكنه نظيف ، ومرتب ، وفيه فراش قرب موقد النار ، الذي مازالت بعض الجمرات تشع وسط الرماد الدافىء ، الكوخ إذن ليس مهجوراً ، وهناك من يسكن فيه ، ولعل صاحبه خرج حوالي منتصف النهار ، وسيعود إليه في أية لحظة . ونزع كيمو حذاءه المثقل بالشوائب ، ونفض ماء المطر عن ملابسه ، ثمّ تمدد في الفراش ، لعله يرتاح بعض الوقت ، قبل أن يأتي صاحب الكوخ ، ومن يدري كيف هو ، ويكفي أنه يعيش في هذا المكان المقطوع الموحش ، و .. وأغمض عينيه المتعبتين الناعستين ، وسرعان ما استغرق في نوم عميق . " 11 " ــــــــــــــــــــــــ كما لو كان في الحلم ، سمع كيمو الباب يُفتح ، وتناهت إليه ما يشبه وقع أقدام ، وفتح عينيه المتعبتين الناعستين ، أهو حلم حقاً أم .. ؟ ومن خلال عينيه المضببتين ، خيل إليه أنه يرى رجلاً ، في أواسط العمر ، ينحني عليه مبتسماً ، ويقول له بصوت هادىء : أهلاً ومرحباً بك . واعتدل كيمو محدقاً في الرجل الغريب ، لا يدري ماذا يقول ، ولعله مازال تحت تأثير أنه في حلم وليس في الحقيقة ، وتراجع الرجل ، وقال : رأيتك من بعيد ، تقف متردداً أمام كوخي ، وحسناً فعلت أنك دخلت الكوخ ، فالجو في الخارج ممطر وشديد البرودة . وتطلع كيمو إلى الرجل ، وقال : لقد طرقت الباب ، فلم يردّ عليّ أحد ، وطرقته مرة أخرى ، ولم أتلقَ رداً ، وظننتُ أن الكوخ قد يكون مهجوراً . واستدار الرجل إلى الموقد ، ووضع فيه عدة قطع من الخشب الجاف ، وأشعل النار فيها ، وقال مبتسماً : لا أدري من قال ، إن النار فاكهة الأجواء الباردة ، وهي حقاً فاكهة ، وأي فاكهة . والتفت الرجل إلى كيمو ، والنار المتصاعدة اللهب ، تضيء جسمه القوي البنيان ، ثم قال : قبل أن نتبادل الحديث في أي موضوع ، والليل هنا طويل ، فلنتناول شيئاً من الطعام ، لابدّ أنك جائع . وأعدّ الرجل الطعام ، وجلس هو وكيمو أمام الموقد ، الذي تعالت فيه ألسنة النار ، وأشاعت الدفء في أرجاء الكوخ الصغير ، وراحا يأكلان صامتين . وحين انتهيا من تناول الطعام ، نظر الرجل إلى كيمو ، وقال له بصوته الهادىء : أرجو أن يكون طعامي المتواضع قد أعجبك . وردّ كيمو قائلاً : أشكرك ، إنه لذيذ جداً . وضخك الرجل ، وقال : هذا لأنك كنت جائعاً جداً . وصمت لحظة ، ثمّ قال وقد تضببت عيناه : الطعام اللذيذ جداً ، والذي لن يتكرر أبداً ، هو ما كانت تقدمه لي زوجتي هنا ، في هذا الكوخ . وتنهد الرجل ، ونظر إلى كيمو ، ثمّ قال : لابد أنك تتساءل ، بينك وبين نفسك على الأقل ، ما الذي جاء بي إلى هذا المكان الموحش المنقطع . ولاذ كيمو بالصمت ، وكأنه ينتظر سماع ما سيحدثه فيه هذا الرجل الطيب ، وبالفعل قال الرجل : لقد جاءت بي إلى هنا ، جوهرة حياتي ، فتاتي .. وصمت لحظة ، ثم قال : أردتها وأرادتني ، وهذا ما رفضه بشدة أبواها وأبواي ، وكانت فتاتي فتاة شجاعة ، لا تتراجع أمام الصعاب ، فقالت لي مرة ، ماداموا لا يريدوننا أن نكون معاً ، فلنكن معاً بإرادتنا ، العالم واسع ، فلنبتعد عنهم إلى جبل التنين . وصمت مرة أخرى ، ثم قال : وجئنا إلى هنا ، جئنا إلى أبعد مكان عمن أرادنا أن لا نكون معاً ، وبنينا جنتنا في جحيم جبل التنين هذا ، وسرعان ما أثمر مجيئنا ، حملت شجرة تفاحي الأثيرة ، لكن عاصفة الولادة قصمتها ، وأخذت ثمرتنا معها . وهرب الرجل بنظره المضبب بعيداً ، وقال وكأنه يحدث نفسه : مهما يكن ، لقد عشنا ، وعرفنا الحياة على حقيقتها ، نعم ، تلك كانت هي الحياة ، التي لم نندم لأننا اخترناها ، وكانت وراءها فتاتي الشجاعة المحبة . وتوقف الرجل عن الحديث ، وراح يحدق في كيمو ، كأنه يقول له ، وأنت أيها الشاب الرقيق .. الوحيد .. ما الذي جاء بك إلى هذا الجحيم ؟ وتنهد كيمو ، ونظر إلى الرجل ، وقال : كما أنك جاءت بك فتاة ، إلى هذا المكان ، الذي قلت أنه جحيم ، جاءت بي إليه أيضاً فتاة . وقال الرجل : لكن فتاتي جاءت معي.. وانتظر الرجل أن يقول كيمو شيئاً ، لكنه لاذ بالصمت ، ولم يقل أي شيء ، فتابع الرجل قائلاً : فتاتي جاءت معي ، لم تدفعني لأعيش الجحيم وحدي ، وإنما معي عاشت الجنة في الجحيم . وبقي كيمو صامتاً لفترة ، وقد أطرق رأسه ، ثم قال كأنما يحدث نفسه : فتاتي اشترطت عليّ ، لكي يوافق أبوها على ارتباطي بها ، أن آتيها بعين التنين الطائر .. الدرة الوحيدة في العالم . واتسعت عينا الرجل دهشة ، وقال : ما أعرفه ، وعلمتني إياه فتاتي ، التي جاءت معي إلى جبل التنين الطائر هذا ، وعاشت معي فيه حتى النهاية ، أن الحب عطاء ، وليس طلب المستحيل . والتفت بحدة نحو كيمو ، وقال : ثمّ إن التنين الطائر ، ذا العين الواحدة ، خرافة لا أكثر . وهمّ كيمو أن يردّ عليه ، فقال الرجل : أنت ستصعد إلى أعالي هذا الجبل ، وستموت حتى قبل أن تصل إلى قمته المكللة بالثلوج ، وليس هناك محبّ واحد في الحياة ، يريد الموت لمن يحبه . ولاذ كيمو بالصمت ، وقد أطرق رأسه ، وخيم الحزن والإحباط عليه ، وصمت الرجل بدوره ، ثم تراجع وقال : سأعد لي فراشاً قرب الموقد ، نم أنت في فراشي ، وتدثر جيداً ، فالجو بارد جداً في الليل . وأعدّ الرجل فراشاً له قرب الموقد ، ورقد فيه ، وسحب الفراش على رأسه ، ونام ، أما كيمو فقد رقد في فراشه ، وأغمض عينيه المتعبتين ، لكنه لم ينم ، وكيف ينام وهو في حوار دائم مع نيتا .. وأمه .. وشار ؟ في صباح اليوم التالي ، استيقظ الرجل ، واعتدل في فراشه ، وألقى نظرة سريعة إلى حيث كان يرقد كيمو ، كان الفراش خالياً ، فهبّ من مكانه ، وأسرع إلى خارج الكوخ ، كان البرد شديداً جداً ، رغم أن الشمس كانت مشرقة ، وتلفت حوله ، لكنه لم يجد أثراً لكيمو ، ترى أين مضى هذا المجنون ؟ ورفع رأسه إلى الأعلى ، حيث قمة جبل التنين المكللة بالثلج ، غارقة في الضباب ، يا للويل ، ترى إلى أين دفعته تلك الفتاة التي تحدث عنها ؟
" 12 " ــــــــــــــــــــ أوت الأم إلى فراشها مبكرة ، وهذه صارت عادتها منذ أن مضى كيمو إلى المجهول ، وفكرت الأم ، ترى كم مضى على رحيله ؟ هذا ما لا تعرفه بالضبط ، والحقيقة عند شار ، فهي تعرف كلّ شيء عن كيمو . وشار ، منذ أن مضى كيمو ، تقضي معظم الوقت مع الأم ، وصحيح إنها قلما تتحدث عن كيمو ، لكن الأم تخمن أن شغلها الشاغل هو كيمو . وكم تمنت بينها وبين نفسها ، حتى قبل أن يمضي كيمو ، أن يلتفت إلى شار ، فشار ـ في رأي الأم ـ هي ما تصلح لكيمو ، وليس فتاة أخرى . وتنهدت الأم ، وأغلقت عينيها اللتين يضببهما الدمع ، آه كيمو ، إنها لا تريد أن تنام ، وكأن النوم يبعدها عن كيمو ، وهذا ما لا تريده . ودُق الباب ، ومعه دقّ قلبها ، وفتحت عينيها ، أهو حلم ما تسمعه ؟ فكيمو مضى بعيداً منذ .. منذ .. ودق الباب ثانية ، إنه كيمو ، لا أحد يدق الباب هكذا غيره . وهبت من فراشها ، وطارت إلى الباب ، وفتحته بسرعة ، وحدقت في الظلام ، وشهقت ، نعم إنه هو ، وسمعته يتمتم بصوت منفعل : أمي . ومدت إليه يديها المتلهفتين ، وتلقفته وكأنها تخشى أن يذوب في الظلام ، وسحبته إلى الفناء ، وأخذته إلى صدرها ، وهي تتمتم : كيمو .. كيمو . وحاول كيمو أن يتملص من بين يديها المتلهفتين ، وهو يقول : حمداً للآلهة ، يا أمي ، أنك بصحة جيدة ، تعالي ندخل إلى الغرفة . ودخلت الأم به إلى الغرفة ، وهي مازالت تطوقه بذراعها ، وأشارت له بدموعها إلى فراشه ، وقالت : فراشك ينتظرك ، وأنا أنتظرك ، و .. وقاطعها كيمو : أمي .. واستدارت الأم عنه ، مبتعدة بعينيها الغارقتين بالدموع : وقالت بصوت متهدج : أعرف ، أنت جائع ، ومشتاق إلى طعامي ، سأعدّ لك وجبة سريعة ، وسنأكل معاً كما في السابق . وراحت الأم تعدّ وجبة الطعام ، فاقترب كيمو منها ، وقال بصوت متسائل : أمي .. وردت الأم قائلة : أنت جائع ، لنؤجل الحديث عن أي شيء ، إلى ما بعد تناولنا للطعام . وتابع كيمو كلامه قائلاً بنفس نبرات التساؤل : أردت أن أسألك عن .. وقاطعته أمه قائلة ، وكأنها تجيبه على ما خمنت أنه تساؤله : نيتا تزوجت ، يا كيمو .. وصمتت لحظة ، ثم تابعت قائلة ، وهي تتشاغل بإعداد وجبة الطعام : بعد أن مضيت من هنا ، لا أدري إلى أين ، تزوجت ابن التاجر البدين . وانتظر كيمو أن تنتهي أمه من كلامها ، فقال لها ، دون أن يبدو عليه أي تأثر من كلامها : أمي ، أردت فقط أن أسألك عن .. شار . وتمتمت الأم مبهورة : شار ! واستدارت إليه ، والدمع تلمع في عينيها ، وتساءلت ثانية : تسألني عن شار ؟ وردّ كيمو قائلاً : نعم .. شار . ونسيت الأم وجبة الطعام على النار ، وانصرفت بكليتها إلى كيمو ، وقالت له : شار .. كما تعرف .. في بيتها .. شار تنتظر . وصمتت لحظة ، كفكفت فيها مشاعرها المبهورة ، ثم قالت : أرى ، يا بني ، وقد عدت سالماً من السفر ، أن تذهب إليها غداً ، و .. واستدار كيمو ، ومضى نحو الباب ، فصاحت الأم : كيمو .. لم يلتفت كيمو ، ومدّ يده ، وفتح الباب ، ومضى إلى الخارج ، فصاحت الأم : أنت لم تتناول الطعام بعد ، والوقت متأخر إلى أين ؟ فردّ كيمو ، دون أن يتوقف ، أو يلتفت إليها : سأذهب إلى .. شار .
31 / 3 / 2021
رواية للفتيان
جزيرة الحور
طلال حسن
شخصيات الرواية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ ابانوغاك
2 ـ رسدنا
3 ـ الحورية الصغيرة
" 1 " ــــــــــــــــــ عاد الصياد ابانوغاك من الصيد ، كما يأتي في غالب الأحيان ، قبيل غروب الشمس ، فسحب قاربه المصنوع من جلد الكاريبو على رمال الشاطىء ، بعيداً بعض الشيء عن الماء ، واتجه إلى بيته القريب ، وقد حمل في سلته ما اصطاده من السمك . ومن بعيد ، لمح ابنته الحورية الصغيرة ، تجلس عند باب البيت ، لكنها وعلى غير عادته ، تطلعت إليه صامتة ، ولم تجرِ إليه وقد غمرها الفرح ، وتحمل عنه سلة السمك ، الذي اصطاده من البحر . أهي متعبة حوريته الصغيرة ، أم مريضة ، أم .. ؟ من يدري ، ربما دلال البنيات الحلوات ، وفي هذه الحالة ، فمن حق حلوته الحورية الصغيرة أن تتدلل ، فكيف يكون الدلال إن لم يكن لمثلها ، عينان زرقاوان ، وشعر ذهبي ، وبشرة في بياض الثلج . واقترب ابانوغاك من حوريته الصغيرة ، حاملاً سلة السمك ، وتباطأ في سيره ، متظاهراً بالتعب الشديد ، وهو يقول : حوريتي الصغيرة ، ساعديني . ولسبب لا يعرفه ، تقدمت منه بفتور ، وأخذت منه سلة السمك ، وحملتها بشيء من الصعوبة ، وسارت معه إلى داخل البيت ، ووضعتها جانباً ، ونظر ابانوغاك إليها ، وقال : حوريتي .. وقاطعته الحورية الصغيرة ، دون أن تلتفت إليه : دعني أنظف السمك اليوم وحدي . لم يرتح ابانوغاك لنبرة الحزن التي في صوتها ، واحتج قائلاً برفق : لا يا حوريتي ، أنتِ مازلتِ صغيرة ، على مثل هذا العمل . وردت الحورية الصغيرة قائلة : كلا ، لم أعد صغيرة ، لقد تجاوزت الخامسة من عمري . ومدّ ابانوغاك يده ، ومسد على شعرها الذهب ، وقال : اكبري يا حوريتي ، وسأترك تنظيف السمك ، بل وإعداده للطعام ، لكِ وحدنِ . ولاذت الحورية الصغيرة بالصمت ، فأخذ ابانوغاك السمك إلى الخارج ، ونظفه قرب شاطىء البحر ، ثم شوى بعضه على نار الموقد ، ووضعه على السفرة ، وهتف بالحورية الصغيرة : هيا يا حوريتي ، لابد أنكِ جائعة مثلي ، تعالي نأكل . وجلست الحورية الصغيرة كالعادة قبالته ، لكنها على غير العادة ، لم تمد يدها إلى الطعام ، ودس ابانوغاك لقمة في فمه ، وقال متلذذاً : آه ما أطيب هذه الطعام ، مدي يدكِ الحلوة ، وتذوقيه . وبدل أن تمدّ الحورية الصغيرة يدها ، وتتذوق الطعام ، رفعت عينيها الزرقاوين الجميلتين إلى ابانوغاك ، وقالت بصوت لم يسمعه منها من قبل : أبي ، أخبرني .. وانتبه ابانوغاك إلى نبرة في صوتها ، لم يسمعها فيه من قبل ، فتظاهر بالمرح ، وقال : سأخبرك بكل ما قالته لي السمكة حين اصطدتها ، كلي أولاً . وقالت الحورية الصغيرة بشيء من المرارة : أرجو أن تكون قد حدثتك عن أمي .. ولاذ ابانوغاك بالصمت ، وقد تباطأ في لوك اللقمة في فمه ، فتابعت الحورية الصغيرة قائلة : لكل الأطفال الذين أعرفهم أمهات يحببنهم ويرعينهم و .. وصمتت لحظة ، ثم تساءلت : من هي أمي ؟ وتوقف ابانوغاك عن تناول الطعام ، ورمق الحورية بنظرة سريعة ، ثم نهض ، وهو يقول : تناولي طعامكِ ، أنتِ صغيرة ، وبحاجة إلى الطعام . وفتح الباب ، ومضى نحو شاطىء البحر القريب من البيت ، وجلس على الرمال محدقاً في القمر ، وهو يخرج من أعمق البحر ، والماء يقطر منه ، وتناهى إليه وقع أقدام خفيفة على الرمال ، إنها حوريته الصغيرة ، لم يلتفت إليها ، وأحس بها تجلس إلى جانبه ، ثمّ تمد يدها الصغيرة ، وتلمس ذراعه ، وتقول : أبي .. ومدّ ابانوغاك يده ، وربت على يدها الصغيرة ، وردّ عليها قائلاً : نعم ، يا حوريتي . وتابعت الحورية الصغيرة قائلة : مرت ببيتنا ، عند منتصف النهار ، امرأة عجوز ، لم أرها يوماً في الجوار ، وكنت جالسة بالباب .. والتفت ابانوغال إليها ، وحدق فيها على ضوء القمر ، دون أن يتفوه بكلمة واحدة ، فتابعت الحورية الصغيرة قائلة : فاقتربت مني ، وحدقت فيّ ، ثم قالت ، أنتِ لا تشبهين أحداً من أهل القرية ، عيناك زرقاوان ، وشعرك كالذهب ، وبشرتك ببياض الثلج ، لابدّ أنكِ لستِ من هذا العالم الذي أعرفه . وحدقت الحورية الصغيرة في ابانوغاك ، ثم قالت : أنا لا أشبهك ، يا أبي ، وأنت تشبه أهل القرية تماما . فقال ابانوغاك : إنني واحد منهم . فتاءلت الحورية الصغيرة : أنا مختلفة ، لماذا ؟ ولاذ ابانوغاك بالصمت ، فتابعت الحورية الصغيرة قائلة : تلك العجوز ، قالت لي ، قبل أن تختفي فجأة كما ظهرت : يبدو أن أمكِ من البحر . ونهض ابانوغاك ، وأخذ بيد الحورية الصغيرة ، وقال : الوقت متأخر ، وحان وقت النوم ، لنعد إلى الكوخ . ونهضت الحورية الصغيرة ، ومضت مع أبيها إلى البيت ، وأوت إلى فراشها ، وسرعان ما استغرقت في النوم ، لكن ابانوغاك لم ينم ، وكان هناك ما يشغله .
" 2 " ــــــــــــــــــ تراءت لابانوغاك جدته العجوز ، وتذكر حكاياتها الجميلة ، التي كانت تحكيها له بصوتها المتميز الرقيق ، رغم أناه كانت قد تجاوزت التسعين من عمرها . وذات يوم ، جلس إلى جانب جدته ، وقال لها : جدتي ، أرجوكِ ، احكي لي عن حور البحر . وابتسمت الجدة ، ومدت يدها الشائخة ، وربتت على رأسه الكث الشعر ، وقالت : بنيّ ابانوغاك ، أنت مازلت صغيراً على الحوريات . ومال ابانوغاك على جدته ، وقال بصوت أشبه بالهمس : ماما تقول لي ، عندما أطلب منها أن تحدثني عن حوريات البحر ، إن الحوريات خرافة ، لا وجود لها إلا في حكايات جدتك . ونظرت الجدة إليه بعينيها السوداوين الشائختين ، وقالت : دعكَ من أمكِ ، يا ابانوغاك ، حوريلت البحر موجودة ، وقد تصادف واحدة
#طلال_حسن_عبد_الرحمن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رواية للفتيان مملكة أعالي الجبال المتجلدة
-
مسرحية من ثلاثة فصول الطريق إلى دلمون
-
مسرحية من فصل واحد الثلوج
-
مسرحية من فصل واحد السعفة
-
مسرحية من فصل واحد
...
-
مسرحية من فصل واحد البروفة
-
مسرحية مونودراما الرعب والمطر
-
مسرحية من فصل واحد الصحراء
-
مسرحية من فصل واحد الشجرة
-
الانتظار مسرحية من ثلاثة فصول
-
مسرحية عقارب الساعة
-
قصص للأطفال إلى الكلمة الشهيدة شيرين التي أطفأها الصهاينة ال
...
-
مسرحية من ثلاثة فصول إنسان دلمون
-
مسرحية الجدار
-
القطار
-
رجل من زمن الحصار
-
قصص قصيرة جدا
-
ثورة الإله كنكو
-
لقاء مع الشاعرة العراقية بشرى البستاني
-
آخر أيام اور
المزيد.....
-
العلماء يكتشفون سر -اليوم المثالي-
-
السلطات المصرية تغلق عيادة ابنة أصالة نصري
-
في أول خطاب له منذ رحيله.. بايدن ينتقد إدارة ترامب
-
عصير فاكهة يخفف من التهابات القولون التقرحي بنسبة 40%
-
آبل تطور نماذج جديدة من نظارات الواقع الافتراضي
-
-مفاجآت تعكس أرفع درجات الكرم-.. سيئول تشيد بتعامل الشيباني
...
-
دراسة تحذيرية.. خطر حقيقي في مراتب نوم الأطفال يهدد نمو أدمغ
...
-
نائب أوكراني يدعو ترامب للتحرك فورا ضد زيلينسكي قبل -تقويض م
...
-
هيئة بحرية بريطانية تبلغ عن تعرض إحدى السفن لحادث اقتراب مشب
...
-
أشعة CT تحت المجهر.. فوائد تشخيصية مقابل مخاطر صحية محتملة
المزيد.....
-
فهم حضارة العالم المعاصر
/ د. لبيب سلطان
-
حَرب سِرِّيَة بَين المَلَكِيّات وَالجُمهوريّات 1/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
سلطة غير شرعية مواجهة تحديات عصرنا-
/ نعوم تشومسكي
-
العولمة المتوحشة
/ فلاح أمين الرهيمي
-
أمريكا وأوروبا: ملامح علاقات جديدة في عالم متحوّل (النص الكا
...
/ جيلاني الهمامي
-
قراءة جديدة للتاريخ المبكر للاسلام
/ شريف عبد الرزاق
-
الفاشية الجديدة وصعود اليمين المتطرف
/ هاشم نعمة
-
كتاب: هل الربيع العربي ثورة؟
/ محمد علي مقلد
-
أحزاب اللّه - بحث في إيديولوجيات الأحزاب الشمولية
/ محمد علي مقلد
-
النص الكامل لمقابلة سيرغي لافروف مع ثلاثة مدونين أمريكان
/ زياد الزبيدي
المزيد.....
|