محمد الهلالي
(Mohamed El Hilali)
الحوار المتمدن-العدد: 7326 - 2022 / 7 / 31 - 03:23
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
لم يستعمل فريدريك نيتشه Friedrich Nietzsche (1844- 1900) مصطلح الجينيالوجيا généalogie (أي مساءلة نشأة وتكوّن فكرة أو مفهوم أو حكم أخلاقي للنظر في تولّد القيم وتفاوتات المعاني وآليات هيمنة هذا المعنى أو ذاك ودور الصراعات في كل ذلك) إلا في وقت متأخر من حياته. فالمصطلح لم يظهر في مؤلفات المنشورة إلا سنة 1887، في كتابهGénéalogie de la morale (ترجم حسن قبيسي هذا الكتاب تحت عنوان "أصل الأخلاق وفصلها"، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، 1981، وترجمه فتحي المسكيني تحت عنوان "في جينيالوجيا الأخلاق، دار سيناترا، 2010).
بالإضافة إلى ذلك، فإن وروده في متن نيتشه يظل نادرا جدا. وبالمقابل، فإن الفكرة التي تتلاءم مع الجينيالوجيا، والتي أثيرت في مختلف الإشارات إليها، فكرة قديمة جدا، كما أن نمط التحليل الذي تُحيل إليه مورسَ سلفا من طرف نيتشه منذ سنوات نشاطه الفكر الأولى. إن الصيغ الأولية الموجِهة لمعنى هذا المصطلح حاضرة حضورا كبيرا في عمل نيتشه الأول La naissance de la tragédie (ترجم للعربية تحت عنوان "مولد التراجيديا"، ترجمة شاهر حسن عبيد، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، 2008) رغم أنها لم تحظ بالتفكير فيها. وقد لعبت تلك الصيغ دورا ثابتا، مقترنة بالعناصر الأولى للتحليل التأملي منذ مؤلف نيتشه "Humain trop humain, un livre pour esprits libres"، (تُرجم للعربية تحت عنوان "إنسان مفرط في إنسانيته: كتاب العقول الحرة"، محمد الناجي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2002 – كما ترجمه علي مصباح تحت عنوان "إنسان مفرط في إنسانيته: كتاب للمفكرين الأحرار، منشورات الجمل، 2014).
من الضروري التمييز بين كلمة جينيالوجيا بمعناها الحرفي والقضية الفلسفية التي تحيل إليها. لم يتم التفكير في هذه القضية في نصوص نيتشه (كما هو شأن كل الموضوعات الأساسية في فكر نيتشه) من خلال مصطلح وحيد قار، بل تم التفكير فيها عبر شبكة معقدة من الإشارات والصور: خصوص الإشارات والصور المأخوذة من التاريخ الطبيعي والكيمياء وما قبل التاريخ وذلك منذ سنة 1870.
تمثل الجينيالوجيا بهذا المعنى تنوعا مجازيا كبيرا أتَمّ منطق الإشارات المتعددة لتمط تحليل أصيل، بإغنائه بمنظور خاص. وسيتم تدقيق خصوصية أساسية تميزه لم تثرها الصور السابقة.
لتجنب السقوط في العديد من التبسيطات والالتباسات المتكررة في هذا الموضوع، ينبغي القيام بتحديد دقيق لهذه القضية في إطار الإشكالية المتجددة التي بلورها نيتشه، أي تعويض مشكل الحقيقة بمشكل القيم (أو مشكل الثقافة). ويفسر هذا الأمر بكون الجينيالوجيا لن تُفهمَ كتقنية جديدة للكشف عن الحقيقة، ولا كأداة بناء المعرفة، كما أنها (أي الجينيالوجيا) تعتبر منهجا.
وعكس ما يرتئيه تأويل سائد، لا يمكن إرجاع الجينيالوجيا، بالمعنى الذي يعطيه لها نيتشه، إلى منهج تاريخي. كما أن الجينيالوجيا لا تتطابق مع فكر نيتشه بصفة عامة، لأنها لا تمثل إلا لحظة من لحظات هذا الفكر.
إن قيام فكر نيتشه بإجراء عملية تحويل ونقل للإشكالية يبعد فكره عن المطلق، سواء فهمنا المطلق بمعنى أنطولوجي (أي وجود واقع في ذاته ومن أجل ذاته بدون أصول) أو فهمناه بمعنى معرفي (تعايش حقائق موضوعية)، وذلك بإيجاد الخاصية التأويلية لكل ما هو موجود. وينتج عن ذلك إزاحة فكرة الماهية، التي تُفهمُ هنا على أنها طبيعة خاصة ثابتة للأشياء، وبالتالي إبطال كل فكر يحدد مهمته (وهذا ينطبق على معظم التيارات الفلسفية منذ اليونان القديمة) في البحث عن الماهية من خلال طرح السؤال الأفلاطوني عن الماهيات.
لقد فقدت المنهجيات المعتمدة في التفسير (من خلال تحديد أساس الموضوع الذي يتم التفكير فيه، ومن خلال البحث عن مبدأ يفسر الموضوع الذي تتمّ دراسته)، تلك المنهجيات التي شكلت نمط التحليل المفضل للتراث الفلسفي، فقدت وجاهتها وأهميتها.
عوضت الجينيالوجيا هذا التوجه في البحث الفلسفي الذي أدِين باعتباره مثاليا، وأقامت بالتالي نمط تفكير جديد جدّة تامة. وأول ما ينبغي التركيز عليه هنا هو أن معنى الجينيالوجيا يُحددُ في إطار فكر التأويل. إنها تأخذ بعين الاعتبار أنّ كل واقع هو نتيجة (نظرا لطبيعته التأويلية) لعملية تكوّنٍ طويلة المدى وقاسية ومحددة بنشاط بعض الدوافع (ذات الأصول الغريزية)، سواء كان ذلك النشاط مؤسسا على الصراع أو على التحالف. وبناء على هذا الأساس تتطلب اللحظة الأولى للبحث الجينيالوجي (وهي لحظة مزدوجة) البحث عن الدوافع الأصلية (أو أيضا الأكسيولوجية نظرا للعلاقة الوثيقة ما بين الدوافع والقيم) لتأويل عقيدة، معتقد، بنية سياسية أو اجتماعية، عمل فني، شكل من أشكال الحياة.
تتعارض الجينيالوجيا إذن مع البحث عن أساس ما، بما أنها تعوض فكرة الاصل الوحيد والمطلق للنسب الخطي بفكرة المصادر المتعددة. ولا تسمح هذه الفكرة (الجديدة) بالرجوع إلى المرحلة السابقة باتباع نفس المنطق السابق: فما تكتشفه الجينيالوجيا ليس هو أساس الأساس، مبدأ المبادئ، أو سبب الأسباب. وبتعبير آخر، لا يتعلق الأمر بمطلق جديد، بأسبقية نهائية لا يوجد بعدها شيء آخر، والتي تكتسب لهذا السبب فضيلة الشرح والتبرير.
يعوض معجم نيتشه كلمة الأصل بكلمة "المنشأ" أو "المصدر" للإشارة لنوعية هدف وقصدية الجينيالوجيا. فليست قصديتها هي التعرف على نقطة ثابتة، وإنما اكتشاف عمق معقد صدر منه تدريجيا إبداعٌ وخلقٌ يُنسبُ لتنافس الدوافع (ذات الأصول الغريزية).
إن أول مرحلة من مراحل التحليل الجينيالوجي هي مرحلة قريبة من علم النفس، بالمعنى الذي يقدمه لنيتشه لهذا المصطلح. أي أن علم النفس هو البحث عن الدوافع (ذات الأصول الغريزية). يؤسس التفكير الجينيالوجي فكر الكثرة ضد الامتياز الذي منحته الفلسفة ظلما لفكر الوحدة.
تقدم النصوص عن هذه المرحلة الأولى من مراحل البحث (التي تميزت بتكييف خفي، واعتبرت أحيانا قريبة جدا من النقد الماركسي للإيديولوجية) أمثلة عديدة منذ مرحلة كتاب (Humain trop humain). يقترح نيتشه، منذ الشذرات الأولى لهذا الكتاب، أن للمعقولية مصادر لاعقلانية، وأن الغيرية يمكنها أن تكون نتيجة مشتقة من الغرائز الأنانية، أو أن مفهوم الحقيقة يمكنه أن يرتكز على الخطأ وأن يرتبط ببعض الأوهام. إن التراتبية التي نقيمها بين الخيرات (التي نعيش اعتمادا عليها) لا تترجم نظاما موضوعيا للتصرف وفق الأخلاق، ولكنها تتكون، على العكس من ذلك، انطلاقا من اتجاهات أنانية (Humain trop humain, I, §, 42). ففي فضيلة الرحمة والإشفاق تختفي في أكثر الأحيان رغبة سرية في انتقامٍ حدتُه غير شديدة. (Humain trop humain, I, §, 44)، والعدالة لا تجد أصلها في انعدام المصلحة، ولكنها تجده في صيغة من صيغ المبادلة والمقايضة التي تتدخل في صراع معين ما بين هيئات متكافئة القوة. (Humain trop humain, I, §, 92)، أما الشفقة فتصدر في غالب الأحيان في صيغة متطورة من صيغ الحسد (Opinions et sentences mêlées, § 377)، وتشكل التجارة تطويرا دقيقا للدوافع (ذات الأصول الغريزية) الخاصة بالقرصنة (Le voyageur et son ombre, § 22). وتقدم الفقرة رقم 344 من كتاب Gai savoir (الذي ترجم للعربية تحت عنوان العلم المرح، ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي، إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، 1993) جينيالوجيا العلم: يوضح نيتشه أن جدولا لِقيم خاصة، متجذرا في إدانة مبدأ الخداع والوهم، يشكلُ المصدر الأصيل للعلمية. وتكشف الدراسة الجينيالوجية أن المثال الذي تقتدي به المعرفة النظرية، والذي يقدم نفسه على أنه أصيل ولا يتوخى تحقيق المصلحة، هو على العكس من ذلك خاضع لتفضيلات ذات طبيعة أخلاقية، وتتعلق تحديدا بأخلاق الزهد. وكما تشهد على ذلك هذه الأمثلة، فإن توجها مشتركا يقود هذه الأبحاث: فكرة عدم وجود واقع بدون أصول، وعدم وجود (تزامنا مع ذلك) أي أصل مطلق تنبثق منه الظاهرة المعنية بالدراسة: كل ظاهرة هي نتيجة التملك بفعل دافع (ذي أصل غريزي) أو بفعل مجموعة دوافع تمنح لها هيئة خاصة باستغلال الظاهرة لفائدتها، وهذه العملية هي التي يسميها تحديدا بمفهوم التأويل. وبعبارة أخرى، يقتضي هذا النمط من التفكير إبراز أي نوع من تدخل إرادة القوة أدى إلى وجود الظاهرة المعنية (الرجوع في هذه النقطة خصوصا لكتاب نيتشه La généalogie de la morale, II, § 12).
ولكن هذا كله ليس إلا اللحظة الأولى من المنهجية، وتحديدا تحديد مُركب الدوافع (ذات الأصول الغريزية)، مركب متعدد المكونات، غير مدرك بالوعي ولا بالعقل، يكشف عن المصادر المنتجة لتأويل معين. لكن تحديد مركب الدوافع لا يكفي لإنجاز جينيالوجيا.
فالجينيالوجيا تقتضي مرحلة أخرى تكشف عن القصدية الحقيقية لهذا النوع من التساؤل، وللحماية من التصور الناقص لجينيالوجيا تحظى بالتفضيل في أغلب الحالات. ينبغي الإلحاح على أن البحث عن أصول تأويل معين، أصول مكونة من دوافع (مثل أخلاق الزهد، المسيحية، العلمية...) ليس هو، في أي حال من الأحوال، هدف هذا البحث. إنه (أي البحث) لا يشكل، على العكس من ذلك، إلا عملا أوليا يسمح، فيما بعد، بالبث في هذه المصادر، وبالتالي الفصل في التأويل الذي أنتجته.
إن الجينيالوجيا لا تجيب، إذن، عن مشكل الأصل، ولا عن مشكل القيمة. كما أن الجينيالوجيا، بالمعنى الدقيق للكلمة (وفي إطار مجتمع يخضع لتراتبية قوية)، تبحث عن إعادة بناء علاقات النسب، من أجل التمكن من إثبات درجة نبل سلالة معينة.
تسمح جينيالوجيا نيتشه بالكشف عن الخاصية المفيدة أو الضارة التي تجعل من الفيلسوف "طبيب الثقافة"، المهتم بتفضيل ازدهار وتقوية الحياة الإنسانية. وتسمح بإثبات أن القيم، اي التفضيلات اللاواعية والإلزامية التي يعيش وفقها الإنسان في إطار ثقافي معين، لا تملك بالضرورة المشروعية التي تُعزى لها.
وهذا بالتحديد ما لم يفهمه المفكرون البريطانيون في مجال الأخلاق، والذين قام نيتشه بالثناء عليهم (لأنهم هم السباقون لاعتبار الأخلاق نتيجة، منتوجا ناتجا عن عملية تطور) وانتقادهم في نفس الوقت (لأنهم استمروا في الاعتقاد بمشروعية القيم الأخلاقية المحصل عليها في الثقافة الأوروبية، ولم يقوموا بمساءلة القيمة). وبعبارة أخرى، فالتحليل الذي قام به جون ستيوارت ميل وشارلز داروين أو هيربرت سبنسر، يقدّم بكل تأكيد تشكلا للتخلق بالأخلاق الأوروبية، ولكنه لا يقدم جينيالوجيا لأن هؤلاء ظلوا يعتبرون القيمة معطى لا يقبل المساءلة (الرجوع لكتاب نيتشه: Généalogie de la morale, I, § 1، ولكتابه الآخر: Gai savoir, § 345).
تقود الجينيالوجيا الحقة لفحص نقدي للقيم، يحلل ويقارن أثر القيم (على المدى البعيد) على تطور الحياة. وهذا بالتحديد ما يؤكد عليه التمهيد لكتاب نيتشه (La généalogie de la morale) لما يعرف الجينيالوجيا بتطبيقها على حالة خاصة من تحليل القيم التي تتحكم في الصيغة المهيمنة على التخلق بالأخلاق الأوروبية: "لنقم بصياغة هذا المطلب الضروري: نحن بحاجة لنقد القيم الأخلاقية، ينبغي أن نعيد النظر، وبشكل نهائي، في قيمة هذه القيم ذاتها. ولتحقيق ذلك ينبغي علينا أن نعرف الشروط والظروف التي تولدت عنها تلك القيم، والتي بفضلها تطورت وانتقلت (الأخلاق كنتيجة، كعرض، كقناع، كنفاق، كمرض، كالتباس، من جهة، ومن جهة أخرى الاخلاق كسبب، كعلاج، كمحفز، ككبح، وكسُم)، معرفة جديدة كل الجدة لا تشبه أية معرفة قبلها، وغير مرغوب فيها. كانت قيمة القيم تعتبرُ كمعطى، كواقع، كأنها توجد ما وراء أية مساءلة" (Généalogie de la morale, préface, § 6).
لهذا السبب سيسمح التحليل الجينيالوجي، فيما بعد، بتوجيه عملية التقويم التي تشكل المهمة الخاصة بالفيلسوف الحقيقي: بناء ثقافة ملائمة لتقوية الحياة عبر عملية قلب المفاهيم بما أن القيم المسيطرة معادية للحياة وتقود الإنسانية تدريجيا إلى ضياعها. وهذا ما يمكّن من فهم أن الجينيالوجيا، رغم أهميتها، ليست هي فكر نيتشه كله. إنها لا تمثل في الواقع إلا الجانب الأول من عمل نيتشه، الذي يمهد للجانب الثاني، الذي يتفرد بالكشف عن المهمة الخاصة للفيلسوف الحقيقي: الإنسال (التربية وكأنها عملية استيلاد)، أي تعديل النوع الإنساني المسيطر بجعله يتمتع بصحة أفضل (صحة كبرى)، وجعل علاقته بالواقع والوجود تقوم على قبول الواقع والوجود (أي جعله يقول نعم للحياة والوجود).
هدا البعد الثاني لعمل الجينيالوجيا يجعل البعد الأول ضروريا بسبب غموض التأويل الذي يمكن أن يكتسي معاني متنوعة حسب أنواع الدوافع (ذات الأصل الغريزي) التي تعتبر عن نفسها من خلاله.
يشبه التأويل (لما يتم التفكير فيه في ذاته) عرَضا يمكنه أن يكون دلالة على وضعيات مختلفة: يمكن للعدمية أن تكون دلالة على الإجهاد والشلل (عدمية منفعلة) عوض أن تكون دلالة على سُكر خلاق (عدمية فاعلة). يمكن للإغراء الممارس من طرف الهوية أن يترجم حقدا وانتقاما تجاه الصيرورة والتغيير، لأنه تم الشعور بهما كمصدرين لعذاب غير مقبول، كما يمكنها أن تعبر عن موافقة مليئة بالاعتراف تجاه الواقع، ومؤدية إلى التضحية كما تبين ذلك الفقرة 370 من كتاب (Gai savoir). فالدوافع قابلة لأن تعبر عن نفسها، ليس فقط بطريقة خام ومباشرة، ولكن يمكنها فعل ذلك أيضا بصيغ أخرى غير مباشرة (صيغ تم نقلها لمجالات أخرى، صيغ تم إبعادها، صيغ من خلال الإغراق في الثقافة) تؤدي إلى حجب طبيعتها الصحيحة (يقول نيتشه في كتابه Gai savoir: "بلغ التخفي اللاواعي للحاجات الفيزيولوجية في ما هو موضوعي وما هو مثالي، أي الروحي الخالص، بلغ درجة رهيبة. وتساءلت في كثير من الأحيان إذا ما كانت الفلسفة حتى يومنا هذا، في آخر الأمر، هي مجرد تأويل للجسد وسوء فهم له"، تمهيد للطبعة الثانية، 2).
وبناء على قدرة الدوافع على بلوغ هدفها بالتعبير عن نفسها من خلال صيغة أضفي عليها الطابع الروحي، وبالتالي تحجبها كدوافع، فإن الجينيالوجيا توضح في الغالب الطبيعة المشتركة للظواهر التي نعتبرها، عادة، متمايزة عن بعضها البعض، بل نعتبر أنها متناقضة فيما بينها: الحب المسيحي يبدو أنه التعبير المُرَوْحَن عن حقد غريزي (Généalogie de la morale, I, § 15-16). كما يبدو مثال المعرفة غير النفعية، بعد فحصه، صيغة دقيقة للجشع والبحث عن القوة. ويمكن "إرجاع غريزة المعرفة المزعومة إلى غريزة التملك والسيطرة" (Fragments posthumes, 14 (142), 1888).
وينبغي أن نسجل أن فكرة سيرورة تحول تعبير الدوافع عن نفسها (والقادرة على التأثير على القيمة التي منحت لها) سبق وأن تم تقديمها منذ بداية الجزء الأول من كتاب (Humain trop humain) من خلال صورة كيمياء المشاعر الأخلاقية.
إن عملية التعرف على المصادر المنتجة هي وحدها التي تسمح بالحسم (عبر توضيح الأصول المرتبطة بالدوافع والحاجات التي تعبر عنها) وباتخاذ القرار حول قيمة الظاهرة موضوع الدراسة. والمثال الأكثر دقة الذي يقدمه متن نيتشه في هذا المجال هو بدون شك التحليل الجينيالوجي للقيم الأخلاقية. ونجد هذا التحليل الجينيالوجي للقيم الأخلاقية، في البداية، في كتاب (Humain trop humain, vol I, § 45). كما نجده مفصلا في الفقرة 260 من كتاب (Par-delà bien et mal)، كما تم تقديمه بطريقة معمقة في كتاب (Généalogie de la morale). يبين هذا التحليل أن التصورات الأساسية للأخلاق هي مجرد تأويلات، بل هي تأويلات ناتجة عن مصادر توجد خارج الأخلاق. فالتصرف وفق الأخلاق لا يشكل حقلا مستقلا بذاته. لا توجد ظواهر أخلاقية على الإطلاق، يوجد فقط تأويل أخلاقي للظواهر. (Par-delà bien et mal, § 108). إن التصرف وفق الأخلاق يكتشف من جهة أخرى وجود عدد كبير من أنواع التأويل الأخلاقي. ولقد درس نيتشه نوعين من هذه الأنواع وهما: "أخلاق السادة" و"أخلاق العبيد". لقد تم فهم تصوريْ الخير والشر (وهما تصوران تحجبُ تسميتُهما الثابتة تنوعا هائلا في تأويلهما حسب الثقافات المعنية) في أغلب الحالات حسب التعارض: جيّد/سيّء (حسن/قبيح)، ومن جهة أخرى حسب التعارض: خيّر/شرير.
يكتسب التعارض الأول مصدره من المجموعات السوسيو-سياسية المسيطرة، وخصوصا في أوساط الأرستقراطيات العسكرة. وفي هذا الإطار تمثل قيمة "جيد/حسن" إشارة للذات، بتعبيرها عن تمجيد هذه الأخيرة بكبرياء، وانتمائها للطائفة الحاكمة. أما قيمة "سيّئ/قبيح" فليس لها صدى أخلاقيا: إنها صفة إضافية ثانوية حددتها نفس المجموعات المسيطرة، إلا أنها تشير بطريقة تحقيرية وتبخيسية للذين لا ينتمون لطائفتهم التي عليهم الانتماء إليها، ولا ينظر إليهم، بالتالي، كنُظراء.
أما النوع الثاني من التأويل فينتج، على عكس ما سبق، عن المجموعات المضطهدة، ويعبر بالأساس عن الحقد تجاه الأقوياء وعن إرادة الانتقام، فهو لا يعبر عن تمجيد الذات: فالقيمة الأساسية هنا هي قيمة سلبية، "فالشرير" هو تأويل آخر، تأويل جديد للجيّد (الحسن) في الأخلاق الأولى، الذي يُؤاخَذ على قوته باعتبارها اختيارا حرا، وبالتالي يستحق الإدانة. وعلى العكس من ذلك، تم إعلاء الضعف إلى مكانة المثال الذي يُقتدى به عبر قيمة "الخيّر" في الصنف الثاني من الأخلاق.
لا يسمح التحليل الجينيالوجي بالتعرف على دلالات مختلفة للقيم الأخلاقية حسب مجالاتها الأصلية فقط، بل يمكّن على وجه الخصوص من تقدير الطبيعة الإيجابية لتلك القيم أو على العكس من ذلك تحديد طبيعتها التي تدين علاقتها بالحياة وبظروفها، وبالتالي تحديد قيمتها بالنسبة لازدهار الحياة.
وهكذا يتمكن التحليل الجينيالوجي من الكشف، على سبيل المثال، عن الطابع المُضر للتصرف وفق أخلاق الزهد، هذه الأخلاق التي تعمل تحت تأثير مشاعر الحقد والانتقام، متسترة بالتواضع، وتجعل من الضعف بكل صيغه، بما في ذلك المرض، المثال الذي ينبغي الاقتداءُ به في الحياة الإنسانية. إن طريقة التفكير الجديدة التي تمثلها الجينيالوجيا تغير الإشكالية، وهو ما فرضه نيتشه على الفلسفة.
إنه لأمر ذو دلالة هامة أن يختم الدراسة الأولى في كتاب "جينيالوجيا الأخلاق" بالتذكير بمهمته الحقيقية كفيلسوف وهي: "ينبغي على الفيلسوف أن يجد حلا لمشكلة القيمة (...) ينبغي عليه ان يحدد تراتبية القيم". (Généalogie de la morale, I, § 17).
● المرجع:
Patrick Wotling, dictionnaire Nietzsche, sous la -dir-ection de Dorian Astor, Robert Laffont, 2017
#محمد_الهلالي (هاشتاغ)
Mohamed_El_Hilali#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟