|
حكايتا بقرة ووزّة
حامد تركي هيكل
الحوار المتمدن-العدد: 7300 - 2022 / 7 / 5 - 18:15
المحور:
الادب والفن
1- البقرة
فكر مليّاً، ورأى أن وجود بقرة حلوب أمرٌ مهم للعائلة، فهي ستوفر الحليب للفطور، واللبن للعشاء. ولا تكلّف شيئاً، فالحشيش صيفاً كثير، واليبيس شتاءً كذلك. وضع ما يملك من مال بصرّة، وتحزّم عليها، ونده أبا فتنة صديقه، وانطلقا فجراً آمّين سوق الصفاة. كم هم مراوغون ومحتالون أولئك الدلّالون في السوق! كيف لك ان تعرف البقرة الجيدة وكلامهم لا يعتدُّ به، هم يسوِّقون بضاعتهم ويقبضون عمولاتهم. لكنه لمحها هناك. كانت الشمس بالكاد تبزغ مسلِّطة أشعتَها على عينيه، وفي لحظة كانت هي تلك البقرة هناك بينه وبين قرص الشمس. شعر انها هي التي قسمها الله له. ولكنها اختفت، بحث عنها، جال في السوق يميناً وشمالاً، وأبو فتنة يهرول خلفه. ما بك؟ ما الذي دهاك؟ ولكنه لم يجب. وهناك وجدها! يا للهول! صفراء فاقع لونها تسر الناظرين. تبدو متقدمة بالعمر، لكنها مكتنزة، عريضة العجز، مطأطئة الرأس، ضرعُها وسط لا كبير ولا صغير، متأنية بمشيتها، تلحقها بچرة صفراء هي الأخرى ولكن لونها أدّكن. هذه هي. قال لصاحبه. واشتراها بلا مساومة بعشرة دنانير، كل دينار يذبح الطي. لم تخيّب ظنّه. كانت مانحة بسخاء، فقد فاض اللبن عن حاجتهم، وراحت زوجته تجفّف الفائض منه وتعمل منه ريّاناً، ومن الزبد الفائض دهناً حرّاً، ومن الحليب الفائض جبناً. ما أكثر خيرها يا أبا فتنة! الحمد لله على نعمه. أبا فتنة لماذا لا تأخذ البچرة ولك منها حليبها وبطن لك بطن لي. فرح أبو فتنة، وطار بالبچرة التي ما لبثت أن صرفت عنده وحملت، وولدت أنثى تشبه جدّتها. منحها صاحبنا الى امرأة أخرى. يا أمَّ خلف! ما رأيكِ؟ لكِ حليبها وبطن، ولي بطن. وهكذا بعد مرور ثلاثين سنة لم يعد يعرف كم امتلك من البقر. وكلهن إناث صفر مباركات، كنَّ عوناً للعوائل سنيَّ الحصار الطويلة. لم يأخذ من أحد بقرة الا ومنحها لآخر. ثم وهب كلَّ ما ملك من بقر عند الناس لهم، محللين موهوبين. كلٌ له ما عنده حلالاً بلالاً، هنيئاً مريئاً. وفي آخر أيامه نسيَّ القصة كلها. ولكن الناس ما فتئت تذكره وتترحم عليه. 2- الوزّة كانا صديقين يعملان معاً في البلدية. طاهر ينحدر من الريف، وعبد الغفور من المدينة. ولكن ذلك لم يمنعهما من اقامة صداقة قوية تربطهما. ذات يوم حينما كانا يمشيان معاً في سوق المدينة، شاهدا بائعة تجلس على الرصيف وأمامها جُلّة من خوص بها وزّة بيضاء ناصعة البياض، منقارها أحمر ورجلاها حمراوتان. و في الجلّة بضع بيضات كبيرات. سألاها فأخبرتهما ان البيض يعود لتلك الوزّة وانه لذيذ، وهو فضلاً عن ذلك ملقّح إن أرادا تفقيسه! وأن سعر الوزة ربع دينار وكل بيضة بعشرين فلساً! وكيف نفقسه يا خالة؟ سألا. قالت: إقعدوا عليه دجاجة. فرحا بالفكرة، واتفقا ان يشتريا بيضتين، كتبا على احداهما ( عبد الغفور) وعلى الثانية طاهر. وتعاهدا على الأمانة والصدق. فأخذ طاهر البيضتين الى بيته في القرية ووضعهما تحت دجاجة راقدة. بعد مدة، فقست بيضة عبد الغفور عن فرخٍ جميل يكسوه زغب أصفر ناعم، فيما فسدت بيضة طاهر! ولكن الشيطان لعب بعقل طاهر، فأنكر على صديقه حقَّه، وادّعى أن بيضة صاحبه قد فسدت. وأقنع نفسه وبرّر فعلته في أنه أحقُّ بالفرخ لقاء تعبه في رعاية البيضتين وتوفير الدجاجة! ولا يُلام طاهر على فعلته. لأن جمال الفرخ لا يُقاوم! عاشت الوزة وكبرت في بيت العائلة، أليفةً تنام بأحضانهم، وتأكل من أيديهم وأفواههم، وفهمت كلامهم، وعرفت كم هي محبوبة لديهم فراحت تتدلل عليهم. هي بيضاء ناصعة البياض كأنها قطعة من الثلج بعد أن طرحت زغبها الأصفر، منقارها ورجلاها كمنقار ورجلي أمّها. سمينة كأنها وسادة من ريش ناعم. تسلب الألباب وتأسر القلوب. كان جميع أفراد العائلة سعداء بالوزة الجميلة، الا جارهم عبود الذي حوّلت تلك الوزّة نهاره الى ويل و ليله الى ثبور! اذ وجدت الوزّة الباب مفتوحاً ذات يوم وعلى حين غفلة من أهلها، انسلّت الى الخارج، فهالها ما رأت، خضار في خضار وكأنها في جنة عدن. وأغراها جمال الطبيعة فسرحت حتى وقعت في بستان عبود المسكين الذي كان قد زرع حقل جزر. ما إن قضمت منه قضمة حتى أسرها طعمه، وما عادت قادرة على التوقف، ونسيت حلاوة الخبز، وطعم الرز المطبوخ بالحليب والسكر! رتعت الوزّةُ حتى اخضَّر ريش بطنها، ثم عادت الى البيت متخمةً ونامت. تكرر فعلها، ومن ذا الذي يمنع وزة عن حقل جزر؟ وحتى اذا وجدت الباب موصداً ، فردت جناحيها وطارت لتحطّ هناك وسط المرج الأخضر، تحصد منه ما شاءت. وربما تآمر معها الصغار فباتوا يتركون لها الباب موارباً لتخرج خلسة . ازداد غيض عبود وهو يرى تعبه يُجتثُّ، وزرعه يُجَزُّ. فعزم بينه وبين نفسه أمراً. فاختفت الوزّة. بحثوا عنها فلم يعثروا لها على أثر. بعد ذلك بسنين طويلة طوى النسيان أبطال القصة، وأتى الزمانُ على المكان و اندرست معالمه، وجفَّ زرعُه، وتهدم بنيانُه، وهجره الناسُ، فأقفر. يقول بعض الناس والعهدةُ عليهم إنهم مازالوا الى اليوم يسمعون زبيط الوزّة الفزعة كأنه نحيب مخيف تقشعر له جلود الرجال كلما مرّوا ليلاً على تلك الخرائب!
#حامد_تركي_هيكل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اجتماع اللجنة العليا
-
ضحايا مجرمون
-
حكاية موت الدكتور سلمان
-
حكاية سعيد الورّاق
-
كاميرات ثلاث -الجزء الثالث
-
كاميرات ثلاث -الجزء الثاني
-
كاميرات ثلاث -الجزء الأول
-
خيالات
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء التاسع والأخير
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثامن
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء السابع
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء السادس
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الخامس
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الرابع
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثالث
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الثاني
-
هو الذي رأى كل شيء _الجزء الأول
-
سالم ابن دَهَش -ج4 والأخير
-
سالم ابن دَهَش -ج3
-
سالم ابن دَهَش -ج2
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|