|
لست وحدك
ليلي فريد
الحوار المتمدن-العدد: 1679 - 2006 / 9 / 20 - 08:21
المحور:
الادب والفن
لو كنت في زمرة أحباء نجيب محفوظ الذين شاءت لهم المقادير الحياة بعيدا عن مصر فحرمت من مشاركة أهله وأصدقائه وتلاميذه في وداعه.. لم تمتزج دموعك بدموعهم ويذب حزنكم في أحزانهم: فلست وحدك. لو كنت قد اضطررت - رغم انصداع قلبك - إلى أن تضع القناع على وجهك وتؤدي عملك وتمارس طقوس حياتك وكأن شيئا لم يكن: فلست وحدك. لو عجزت عِن أن تشرح لمن حولك لماذا تعتصرك مشاعر الفقد والألم لرحيل شيخ تجاوز التسعين، لا تربطك به رابطة دم ولا حتى علاقة وثيقة: فلست وحدك. ثق أن هناك الكثيرين في كل ركن من أركان الأرض يشاركونك أحاسيسك ولا ينكرون عليك حزنك. هؤلاء هم المصريون الذين رحلوا بعيدا ولكنهم حملوا مصر معهم. وفي قلب مصر التي حملوها، استقر أنبل وأعظم من أنجببتهم: نجيب محفوظ. برحيل هذا الإنسان النادر المثال وبما يمثله من معان تسربت وضاعت، شعرنا أن نهايات الخطوط التي كانت تصلنا بمصر كما عرفناها وأحببناها قد تهتكت.. مع كل زيارة لأرض الوطن يزداد شعورنا بالاغتراب.. لم يعد الوطن هو الوطن ولا الناس هم الناس. ولكن كما أن وجود الأهرامات كان يشعرنا بشيء من الأمان... بأننا لم نخطئ المكان.. بأننا مازلنا في أرض أجدادنا العظام، كذلك فإن وجود محفوظ كان يطمئنا على أن شخصية المصري الأصيل – عصارة الحضارات وخلاصتهما – لم تنطمر وتندثر تماما. برحيل محفوظ فقدت دنيانا رمزا من أجمل رموزها. سبحان الله! ما كنه هذا الإنسان وما السر الذي أودعه فيه لتجتمع حوله القلوب بهذا الحب الخالص المنزه عن الغرض؟! صار فرحه هو فرحنا وألمه مصدرا لأسانا.. كان يوم فوزه بنوبل يوم عيد تخففنا فيه من كل همومنا الشخصية وتفرغنا لمشاعر السعادة والفخر. عندما امتدت إليه اليد الآثمة بطعنة الغدر، أحسسنا أن هذا النصل قد مزق أحشاءنا.. حتى عندما تكشف لنا قسط من سيرته اللاهية، في مرحلة شبابه الباكر، ما أسرع ما غفرنا له وما كنا- بطبيعتنا المحافظة - لنغفرها لغيره. هل ننسى كيف تعكرت مشاعرنا من جهة العظيم يوسف إدريس منذ ارتكب زلته الشهيرة وشكك في استحقاق محفوظ لنوبل؟! نحن الآلاف من عشاقه ومريديه.. رجال ونساء .. شيوخ وشباب.. ماذا دهانا وما سر هذا الحب العجيب؟! هل لأنه كاتب مبدع وروائي عبقري؟ هذا مما لا شك فيه، فساعات المتعة التي منحتها لنا كل كلمة خطتها يده، كانت من أروع ما عشناه.. القيم التي تعلمناها من خلال مقالاته ومن ثنايا قصصه، ساهمت في تشكيل أفضل ما فينا.. ولكن فوق كل هذا كان هناك محفوظ الإنسان: جوهرة فريدة تجعلك تشعر أن الدنيا مازالت بخير طالما يوجد فيها أمثاله. نفس نقية لا تعرف التعصب ولا الكراهية. عقل يشع بالاستنارة والإيمان بالعلم ويرفض الجمود. قلب تطهر من الأحقاد والأطماع الدنيوية وترفع عن الصغائر فلم يدع السفاسف تشتته عن بلوغ الغاية الكبرى: الوصول بإبداعه إلى ذروة الإجادة والتفرد. ذكاء وبصيرة مكناه من أن يستشعر التغيرات المدمرة المهددة لمصر والمصريين ويحذر منها تلميحا وتصريحا. كم من إنسان أجمع كل من عرفه على أنه لم يتفوه يوما بلفظ جارح لمشاعر الغير ولم يقم بعمل مؤذ لمخلوق؟! ولكن هذا هو نجيب محفوظ بشهادة كل من عاصره. امتلك قدرة مذهلة على احتواء كل نقاط الضعف البشري فاتسعت دائرة صداقاته لتشمل كل نوعيات البشر من أسماها إلى أدناها. آمن بقيم الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة إيمانا حقيقيا وليس كمجرد شعارات مستهلكة. شككوا في وطنيته وهو من أحب مصر كما لم يحبها أحد.. كان الوطن هو محور وجوده ومعاناة أبنائه هي ما يكربه ويؤرقه. أتهموه بالكفر وهو من جمع خلاصة الأديان جميعها في شخصه المتسامح المحب الخير الرحيم. من ينسى روحه الفكهة ونكاته اللماحة وضحكته الرائقة المجلجلة التي لا تصدر إلا عن قلب صاف ونفس نقية؟! كان تواضعه وبساطته طبيعة متأصلة لا تطبعا.. في قمة مجده العالمي كنت تلمحه سائرا على قدميه أو جالسا في المقاهي البسيطة التي يرتادها عامة الناس. كنت تراه واقفا في طوابير البنوك والدواوين رافضا أي معاملة خاصة، في الوقت الذي يصر فيه الأقزام على قفز الصفوف إلى المكاتب المكيفة رأسا. حتى عندما هبطت عليه الثروة التي لم يسع إليها مع جائزة نوبل، ماذا فعل؟ هل ابتاع العربة التي تنقصه أو انتقل من شقته البسيطة إلى سكن فاخر؟! كان كل ما فعله هو أن منح زوجته وبناته ما يقيهن ذل الحاجة من بعده، ثم وضع الجزء الخاص به في وديعة ينفق من عائدها السنوي على أوجه الخير. هذا قليل من كثير يمكن أن يقال عن نجيب محفوظ.. ولأنه أثرى وجمل الحياة فلذا أصبحت من بعده أشد وحشة وأكثر معاناة. ولكن طوبي لمن كان على مثاله: لم يرحل إلا بعد أن ترك تجربة إنسانية عذبة زاخرة بكل ما هو جميل.. ترك تراثا أدبيا احتل مكانة خالدة في التاريخ... وترك آلاف القلوب التي تفرقت في شتات الأرض ولكنها اجتمعت على التفاني في محبته.
#ليلي_فريد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من مات غنيا مات موصوما
-
عندما يعتذر البابا
-
التعامل الإيماني والعقلاني مع تحدي المقدسات إنجيل يهوذا وشفر
...
-
الحركة القبطية بين العمل الفردي والعمل الجماعي
-
محفوظ قد سلمكم الأمانة كاملة أنتم من أضاعها
المزيد.....
-
الفنانة دنيا بطمة تنهي محكوميتها في قضية -حمزة مون بيبي- وتغ
...
-
دي?يد لينتش المخرج السينمائي الأميركي.. وداعاً!
-
مالية الإقليم تقول إنها تقترب من حل المشاكل الفنية مع المالي
...
-
ما حقيقة الفيديو المتداول لـ-المترجمة الغامضة- الموظفة في مك
...
-
مصر.. السلطات تتحرك بعد انتحار موظف في دار الأوبرا
-
مصر.. لجنة للتحقيق في ملابسات وفاة موظف بدار الأوبرا بعد أنب
...
-
انتحار موظف الأوبرا بمصر.. خبراء يحذرون من -التعذيب المهني-
...
-
الحكاية المطرّزة لغزو النورمان لإنجلترا.. مشروع لترميم -نسيج
...
-
-شاهد إثبات- لأغاثا كريستي.. 100 عام من الإثارة
-
مركز أبوظبي للغة العربية يكرّم الفائزين بالدورة الرابعة لمسا
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|