صالح مطرود السعيدي
الحوار المتمدن-العدد: 1678 - 2006 / 9 / 19 - 07:18
المحور:
الادب والفن
تغرز الذكرى اظفارها في صدري فأهيم على وجهي مخترقا مساحات الضوء ودهاليز العتمة , تتقاذفني الطرق المستحمة باللهاث والطرق المغسولة بماء المطر فأدخل مدن المزارات حيث رائحة الحرمل والبخور وحكايات الجدات عن الجن والقبور وارواح الاموات , أسأل عنها ارصفة الشوارع وبرايا الحوانيت والشعراء العشاق ومجانين المدينة ... ادخل احشاء العمارة ودهاليز المشراق ... (1) ابحث عنها سائلا ابواب القصور الشاهقة والبيوت العتيقة المتكئة على بعضها خشية السقوط , ألمَحُ ظلا خلف احد الابواب فتقودني خطاي صوب صَبيّة تتكيء على جدار اسمنتي شاهق .
- انت انعام ؟ ..... بادرتها متسائلا ..
- - ماذا تريد ؟ ... قالت .
- - انني ابحث عن سجواء .
- اه يارب ... الم تعلم بعد ؟!.. صرخت الصَّبية .
- - ماذا حدث ... قلت .. ارجوك تكلمي ؟ .
- لقد طال غيابك ... قالت .
دفعت الباب وولجت الى الداخل . تسمرت قدماي واختض جسمي بعنف وانا اقف مندهشا ومصعوقا وقد انتشر بكياني هلع شلني بقسوة , شاهدتها , كانت منكمشة , خائفة ومذعورة وقد تقصف شعرها ذلك الشعر الانبوسي الطويل وتناثر بفوضى فوق فستان ابيض متسخ وممزق . نظرت صوبي بعينين حمراوين . نهضت ثم تقدمت بهدوء وثقة مدت يدها نحوي ثم غرزت اظفارها الطويلة برقبتي , ضغطت فتفجر الدم , ضغطت اكثر . شعرت بالاختناق فصحت بها .
تراخت اصابع يدها . ابتعدت ثم تهالكت على اريكة قديمة وراحت تبكي وهي تضم وجهها بين راحتي يديها . اقتربت منها , وضعت يدي على كتفها . هدأت .. فقلت لها .
- سجواء انت الان بحاجة الى ان تنفضي عن جسدك هذا الركام .
- كفت عن البكاء , نظرت صوبي , شجعني ذلك فقلت بلهجة هي اقرب الى الامر .
- انهضي الان .. هيا مع انعام .
وعندما خرجت من الحمام بعد ان استبدلت ثوبها المتسخ بتنورة سوداء وقميص وردي اللون بدت هي نفسها سمواء .. تلك الصبية التي كانت تتأنق كثيرا لانوثتها ومن عينيها ينبثق سحر شفيف هو دفق من ضوء يطلقه سر النقاء الذي يجري بدمها وعلى ذلك الاساس بقيت عصية على الجميع , كانت حالمة كبيرة , عاشت حياتها وهي واقفة على شطأن ذلك الحلم الوردي الذي لا تعرف كيف ضاع منها بأديرة الزوال ؟... كانت تحلم بفارس اسمر البشرة , ممشوق القوام يأتي على جواد ادهم , يخطفها ويسافر بها عبر الصحارى والمغارات والطرق النائية الى مدينة من حلم وضوء وارجوان , يملكها بيتا مسورا بالفرح والندى والاماني الجميلة , بيت مضلل بستائر الجذع الغامق
ومن سقف غرفته تتدلى ثريات من الكريستال وعلى جدرانه المطلية بدهان ابيض تنام بأسترخاء لذيذ صور لملكات فاتنات وملوك تسبح وجوههم بجبروت السلطة واقواس وتيجان وخيول ومرايا مطعمة بصدف بحري , يجلسها على كرسي من خشب فاخر مغطى بحرير موشى بدانتيل اصفر يحفه وبر غامق اللون , , كانت تحلم كثيرا بذلك الفارس الذي طال غيابه فأنكفأت بداخلها امانيها وغرقت احلامها ببحر الاوهام وعندما استفاقت وجدت ان الغروب كان على وشك ان يسدل اخر ستائره وزملائها الطلاب الذين اقتربوا منها واصطدموا بصخرة عنادها قد اختار كل واحد منهم حبيبة اقسم معها امام الجميع على الحب والاثمار فتجرعت اخر كؤوس مرارتها ولاكت حزنها الذي وجدته قد تغلغل عميقا بداخلها المتصدع المنخور بدود الاماني المستحيلة وان زمنها سفه احلامها واحالها الى قوافل من سراب محملة بالخديعة وان طرق النية التفت حولها وجعلتها وحيدة وبعيدة تلهث دون جدوى وراء قوافل الندم وعندما ازف موعد انتهاء حياتها الجامعية ارتحلت وهي تجر اذيال خيبتها اذ تحولت حياتها بذلك الوقت الى عالم صاخب من انتكاسات مريرة وسلسلة متواصلة ومتصلة من خسائر باهضة حينذاك وبكل احاسيس المتعبين والمقهورين شعرت انها خرجت من الدنيا خالية الوفاض . نخر دود اليأس بداخلها الذي تحطم بمعاول السنوات القاسية . كابرت كثيرا وشدت على جراحها خشية السقوط وجندت جميع قواها لتواجه ذلك السيل الجارف من اضطرابات راحت تغزو خلايا عقلهاالمتعب , خارت قواها وطفق دبيب دودي يتغلغل بخلايا عقلها ويسافر بحرية مطلقة لان جميع اسوار دفاعاتها سقطت اسيرة لذلك الماضي المعتم , انتبذت زاوية ولاذت بصمت قاهر اطبق عليها بكماشته التي لا ترحم حتى نسيت لون الدنيا وطعم الضحك , اتسخت ملابسها وطال شعرها وتقصف وقد رفضت بكل عناد المقهورين والبائسين جميع المحاولات التي تبغي اعادتها الى الحياة وفق متطلبات الذوق ومستجدات العصر .
قلت موجها كلامي لها
- ما رأيك ان نخرج للنزهة ؟
لم تعترض بل اومأت برأسها دلالة الموافقة .
وضعت يدي بيدها وخرجنا سوية . شممت رائحتها .. رائحة الانثى التي عطرت حياتي بالاماني الثقيلة والتي طعنت خاصرتي بخناجر عنادها فتفتق جرح بداخلي واظبت منذ زمن طويل ارتقه بخيوط الصبر . سرنا في شوارع خالية واخرى طافحة بالضجيج , اخذتها الى الارصفة الملأى بالباعة والمتسوقين وعندما دخلنا السوق الكبيرة بدأت تلتصق بي , كتفها بكتفي ويدها تنام بيدي ... هي الان سلكي اصطرعت الاصوات بداخلي ... ياالهي ماذا يحدث ؟!
هي الان لي .. لي وحدي .. انها تسير معي , جسدها يحتك بجسدي , اشعر بأنفاسها تختلط بأنفاسي وارى من خلال زجاج هذه اللحظات احلامها تتناسل مع احلامي .. فتبا .. تبا لسنوات الجفاء .. الان ارى بوضوح نهاية تلك السنوات البائسة وكيف انها تجندلت دفعة واحدة بسيف هذا الصباح الجميل .. فشكرا لهذا الصباح وشكرا لجميع الصباحات الندية التي تطرز سماء المحبين بقلائد الضوء .. لكن اين انا وسط لجة هذياني ؟! .. اين انا من هذا الزحام الشديد ؟! .. انني اشعر بغثيان وصداع شديد .. اين انا ؟! .. تبا وسحقا لهذه الاجساد البليدة التي لاتعرف كيف وبأية طريقة جرفتها مني ؟ .. صحت عليها .. سجواء .. انت ياسجواء توقفي ! .. ضاع صوتي وسط ذلك الضجيج .. لم تلتفت .. ربما لم يصلها صوتي .. اندفعت الى الامام وهي تشق صفوف الناس بمرونة .. سرت خلفها .. واصلت اندفاعي ولهاثي .. الان اراها بوضوح تخرج من السوق وتندفع الى شارع ضيق افضى
بها الى شارع عريض .. الان سوف تقف لانها ستسمع صوتي لكنها .. ويا لمفاجئتي لم تكترث بل واصلت سيرها .. عدوت وراءها .. بقيت مسافة فاصلة مابيننا , انحرفت يمينا , عند ذلك عرفت انها تتجه الى المقبرة .. صرخت بها .. لا .. لا ياسجواء .. الى اين انت ذاهبة ؟! .. بالتأكيد اضعتي الطريق .. حينذاك دخلت المقبرة فدخلت وراءها .. واجهتني شواهد القبور الممتدة بصفوف لا نظامية على مساحات كبيرة .. اندفعت عدوا , تعثرت وكدت اسقط عدة مرات .. صرخت اعماقي المرتعبة .. ياللحظ التعس لقد ضاعت مني .. كيف حدث ذلك واين اختفت ؟ لا اعرف ماذا حدث بالضبط وكل ما اعرفه او اخمنه انها ستلعب معي لعبة الاختفاء المتفق عليها او ما يسمى بالاستغماية . شعرت بتعب هائل يشل قواي فتوقفت لالتقط انفاسي ثم بدأت اسير بخطى بطيئة مشحونة بالترقب والخوف والانتظار وانا التفت يمينا وشمالا , اندفعت الى الامام بخطى متعرجة ثم تسمرت قدماي فجاة بالارض وانا اقف امام قبر رخامي ابيض كتب على شاهده اسمها بحروف سود بارزة . انصعقت وغزاني الم مرير . تقدمت قليلا , رأيتها من خلال حواجز الرخام تتمدد بجوف الارض . تذكرت اشياء قد احضرتها مسبقا فبحثت بجيوب سترتي , اخرجت شمعة وعلبة بخور وقنينة عطر , قرأت الفاتحة على روحها واشعلت الشمعة والبخور وسكبت العطر ففاحت رائحة زكية . حاولت ان امسك رخام قبرها , قوة قاهرة خفية منعتني من ذلك . ابتعدت قليلا وقد تسللت الدموع من عيني فشعرت براحة تغمر داخلي ربما لانني وجدتها وسوف ارتاح من ضنى البحث المستمر عنها وسأكون وفيا ودقيقا في مواعيد زيارتي لها . انسحبت بخطى متثاقلة . درت بدهاليز شبه مقفلة وكانت شواهد القبور عيونا حجرية تودعني بالرثاء واخيرا وجدت منفذا افضى بي الى شارع ثم اخر قادني الى الخروج من المقبرة . اندفعت الى الامام وانا اضرب بلاط الشارع بقوة واحدق به بأمعان شديد وكأني اريد ان افرغ به جام غضبي وعندما سئمت من هذه اللعبة النفسية القاهرة رفعت رأسي حينذاك شاهدتها تسير امامي هي نفسها سجواء بتنورتها السوداء وقميصها الوردي .
1.العمارة والمشراق اقدم احياء مدينة النجف
#صالح_مطرود_السعيدي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟