|
الكبش
حامد فاضل
الحوار المتمدن-العدد: 1675 - 2006 / 9 / 16 - 01:26
المحور:
الادب والفن
قصة غريب تصور ما حدث ، والأغرب منه انه حدث .. والا ما كنت لأقصه عليكم ، لولا انه حدث بكل تفاصيله ، حتى بتلك اللمم الصغيرة ، والمتناهية بالصغر. ستقولون : تخيله فتخيل له ، فألقاه في غيابة جب الهلوسة .. ألا تتفقون معي – والكلام بيننا - أن الهلوسة هي الصرخة المخنوقة بكمامة الواقع .. لنبتدأ الحكاية أذن ، هكذا ببساطة ، أستيقظ ذات صباح على أعتاب يوم لا يشبه أيام البلدة ، لأجد تلال نفايات الأغنام تحيط ببيتي ، وتزنره برائحة العطن .. أهرب نحو الخلاء من جيفة البيت وطنين البرغــــش ، وأسراب الذباب . فينتصب قدامي بيت آخـــــــــر ، مرآة ، أبصر فيها بيتي .. الباب المفتوح المرتكز على قحف يذكرني بأبـــــــواب الزرائب ، الشبابيك ، كوى تزفر رائحة البول والبعرور ، تراب الأرض ، مفروش بالتبن وبقايا العلف .. ولكم أن تتصوروا أعداد خيول الدهشة التي داهمتني لحظة أطل عليّ جاري السمين ، وقد تحول الى كبش كبير يتهادى بخطوات مثقلة بالشحم واللحم ، وتلفع بفروة صوف كثيف أصفر فاقع اللون. مزينا رأسه بقرنين بلون الفافون العتيق. انبثقا من قحف الرأس بحذاء الأذنين ، وتقوسا كغمدي خنجرين معقوفين .. أطلق في وجهي تحية الصباح بثغاء مشروخ من حنجرة تتمترس وراء لغد مغطى بشعر ارجواني قصير .. توقف أمامي وأخذ يشم التراب بمنخرين مبلولين بالمخاط .. وبلا مبالاة راح يرفع عن عجيزته السمينة ألية كبيرة مثقلة بالشحم ليفسح لبضع بعرات انبثقت متدافعة من استه ، وتناثرت غير بعيد عني ، قبل أن يجتازني ، ويتركني تحت سماء ذلك الصباح ، ترشقني بمزن الاستغراب ، وتعصف بي لتلقيني في قاع الإيهام ، مبهورا ، غير مصدق ، أستكشف ما حولي بعينين مفتوحتين على سعتهما .. كيف لي أن اصدق ، وأنا أرى البلدة تنزع ثوب البلدة ، وتلبس ثوب الغابة في يوم مغاير ، يرفد تأريخها بأحداث مغايرة .. لنعد القهقرى ، فلعل تهويمات الصباح هي أطلال آخر حسوة في كأس ليلة ثملة .. أتفق معكم ، ربما لا يعقل أن يحدث في البلدة ذلك الذي رأيته ، وعانيته ، وعايشته في لحظة انفلات العقل من قبضة الواقع .. يا لخصب المخيلة ما أن يلامسها طل المخيال حتى تهتز ، وتربو ، وتنبت أجنحة عوالمها الشفافة لتحلق في فضاءات الرؤيا ، ناثرة رذاذ الأحلام أو حمم الكوابيس .. كل ما أحتاجه للتجوال في تلك الأرضين أو التحليق في أجوائها أو التيه في دهاليزها أو الغور في سراديبها ، وجس قيعانها الرخوة الرطبة متتبعا آثار المخيلة كقواف متمرس ، علبة سجائر فاخرة ، قنينة خمر معتق ، وركن هاديء للانزواء . تلك هي مستلزمات مصنع الرؤيا .. ما أن يتلمس شيطان الخمرة طريقه في الشرايين، وتسدل السجائر ستائرها حتى تقذف الهموم من نوافذ الصدور التي لم تعد مغلقة . فتفتح أقفال الأسرار ، وتنزاح عباءة الثوابت لتتعرى الروح إلا من غلالة قمر يطلع من أفق لحظة انزلاق حبل المخيلة من بين كف الواقع .. أفق لا تدركه إلا سفن الحالمين من أمثالي .. ولا تبصر فناره إلا عينان مسدلتا الجفون على وسن شفيف . في لحظة تجلي ذلك القمر ، الفنار . تسيح أختام الشمع . فينكشف المستور ، ويطلع المكنون ، وتخب خيل الأسرار نافضة ما التصق بأعرافها من غبار ليال بليت في انتظار الفجر المأمول . فأهيم بقلب مفتوح المصراعين ، بلا استئذان ، تداهمني رياح الرؤيا ، تدفعني ، ترفعني ، وتطوح بي ، فأنزلق على بساطها أللامرئي لأسقط على أعتاب الأمل كريشة تخلفت من جناح طائر مهاجر .. هاأنذا اتمرأى بمرآة الرؤيا متلفعا بفروة صباح لا صلة له بصباحات الأيام الخالية ، ماشيا في متاهة درب متعرج طويل ببلدة لم تعد بلدة .. /أسنمة من النفايات/ أكوام من الحجارة/ أسيجة من الأشواك/ أجمات معتمة/ نخيل أصلع/ نهر غائض ينساب كأفعى جريحة/ دخان اسود يركب متن الريح/ ذباب اخضر/ كلاب سائبة/ أفق رمادي/ وهواء مفعم برائحة الموت/ .. أطرق أبواب المجهول بمطرقة الحالمين . أصوات كثيرة تعول في البلدة كعاصفة في الأخاديد . لا أميز فيها صوت البشر .. سائرا أدوس التراب بنعالي العتيق .. لا بلل يدل على ندى الليل ، ولا هالة ضوء تحيط برؤوس الشجر ، ولا نسمة تترع الصدر بهواء عليل .. المنازل جاثمة كالقبور ، الشناشيل عمياء ، لا وجوه حسان تطل ، ولا تخفق في الشرفات رايات شعر طويل : أين اختفت رائحة تفاح العذارى ، وشمام ناهدات الصدور ؟ لم لا أسمع همس المحبين خلف الشبابيك ؟ ولا أقرأ أسماءهم في جذوع الشجر ؟. أسير كأن يدا ما تسوقني على ظهر أفعى المتاهة .. نافورة غبار ، وكوغد ، وعيدان . تنبثق أمامي ، وتصفع وجهي ، فأغمض عيني لأفتحهما على بضعة أرانب ملونة ، تباغتني ، تقفز مسرعة لتدور حولي قبل أن تختفي في مرج بمحاذاة الطريق .. يخيل إلي أنني اعرف تلك الأرانب . ربما ذكرتني بأولاد أزقتنا المرحين .. الم شظايا الذاكرة محاولا استحظار وجوه الأولاد ، تفاجئني نظرات خنزير يركس في بقعة وحل بمستنقع يحتشد بالبردي والقصب . يفتح على جسدي عينين وقحتين ، يتفحصني يتأكد من شكلي .. وحين لا تبدو عليه سيماء الدهشة . يكشر في وجهي ، لا أدري إن كان يتوعدني أو يضحك لي قبل إن يدس خطمه في الطين ، ويتركني متسربلا بالذهول .. أمر بقطيع حمير صفون فلا اعرها اهتماما فلطالما تصفن في دروبنا الحمير . لكني اغطس في لجة الدهشة حين تنفخ في وجهي ماسورتي انف قرد ضخم أطل برأسه الأسود الكبير من بين أغصان صفصافة شائخة ، فانتبهت الى ذكور القرود المداعبة لأعضائها التناسلية في أعالي الغصون .وتكاثفت سحب حيرتي وأنا أرى إناث القرود ، وهي تفلي رؤوس صغارها باحثة عن القمل الذي تلتهمه باشتهاء .. فنط السوأل على لساني ، أفي حقيقة أنا أم في خيال . ؟ وكما تنبثق العاصفة من بؤرة الهدوء . سقطت على رأسي مطرقة الصحو ، ليبزغ نور البصيرة ، يكشف لي وجه ذلك الخنزير الذي كان يتملاني من مكانه في المستنقع : ما الذي يمنعني عن صفع جبهتي .؟ كيف خانتني الفطنة ، وفاتني أن أرى فيه عراف البلدة ، وقد مسخ خنزير اسود مبقع بالبراز/قوائم قصيرة متسخة / أضلا ف مطلية بالوحل / وذيل قصير لا يكاد يستر عورته النتنة/ .. وعرفت الآن قطيع الحمير . إنهم أولئك الثلة في البلدة الذين لا يملكون إلا النهيق. أما القرود فهم الصخابون المطبلون الذين يعرضون بضاعتهم على أعتاب كل سوق جديد .. وقد ذكرتني فحولهم ، برجال البلدة الذين خلقوا للتناسل فقط .. أما الإناث فهن شبيهات عوانس البلدة وعجائزها اللاتي يقعدن عتبات البيوت ، ليسلقن المارة بألسنة حداد .. لذا فاني لن أخطيء في معرفة الغزلان التي تتهادى أمامي .. تسير كأنها ترتفع من الأرض لرشاقة أجسامها وجمال أعينها التي ذكرتني بأعين عذراوات البلدة اليانعات أللاتي كن يملأن صدري بعطرهن المدوخ ، وهن يتمخطرن في دروب البلدة يوم كانت بلدة ..أواصل المسير في طريق المفاجآت، والوقت صار ضحى لا كالضحى الذي ألفناه . لأصل الى ديوان البلدة ، السرداق الكبير ، المكان المعتاد لأصحاب القرار / الوجهاء / الأعيان / رؤساء العشائر/ .. فيتخلى قلبي عن أطرافي ، ويأخذني الرجفان ، حائر ، بين مكذب ، ومصدق وأنا أرى الديوان يغص بالأسود ، والنمور ، والفهود الشبعانة وهي تتثاءب منطرحة في عتمة أشجار باسقة متشابكة الأغصان ، كثيفة الأوراق . لا تنفذ من خلالها زرقة السماء .. انسحبت بعد هظم الصدمة لائذا بالشجيرات محاذرا أن تلمحني عيون الثعالب المختلفة الأشكال والألوان المنتشرة حول ديوان البلدة . مهرولا ، تاركا آثرا عشوائية هي بصمات خطواتي المتعثرة .. محاولا أن أعيد في رأسي تشكيل صور أصحاب الديوان الذين ينثرون دقيق الآمال في رياح الزمن .. وقد عرفت بعضا منهم كانوا كما تصورتهم تماما /مخالب / أنياب/ جلود مخططة ومبقعة/ ذيول طويلة منتهية بحزمة شعر كثيف/ .. كنت أسير دائخا مما رأت عيناي أو سمعت أذناي ، حين سدت نفايات الديوان الدرب بوجهي لتمتلأ عيناي بمجاميع الغربان التي حطت على أكوام الجيف تنهش ، وتتشاجر مع الضباع الكريهة التي كانت فكوكها منشغلة تلوك فضلة جثث الفرائس التي تتخلف عن موائد الديوان .. أصابني الخبال مما حلّ في البلدة . جمعت كل ما تبقى من قوة في فؤادي ورميتها في ساقي ، وركضت هاربا نحو واحد من منعطفات الطريق . فاصطدمت بثور ضخم كاد يجرحني بقرنيه.. عرفته ، وعرفني ، وهل أخطيء في معرفة مختار بلدتنا البدين؟ .. أطلق خوارا اجشا ولحس بلسانه الوردي الخشن ما سال من لعاب على شفته . واستمر بأرجحة ذيله الطويل ، جالدا خاصرتيه في محاولة لأبعاد الذباب الذي يحلق مناورا ليحط من جديد على بقعة أخرى من الجسد الكبير.. اجتزت منعطف المختار ، وخواره يلاحق أذني ، وقد ترسخت قناعتي بالبلاء الذي حلّ في البلدة .. تذكرت كل البلدان التي حل فيها الغضب في الحقب الخالية .. ففكرت بحكيم البلدة : ومن يقدر غيره على حل اللغز ، وفك الالتباس . صوت في داخلي ، همس لي :تخلص من ضيق صدرك، تشجع ، وأطلق لسانك ، وارم بأحزانك إلى صاحب/ الصدر الواسع / والعقل الراجح / والفكر النير/.. حثثت الخطى نحو بيت الحكيم . ولكني للأسف لم أتمكن من رؤيته ، لانعزاله في عريشة متشابكة من النباتات المتسلقة . وقد أوجست خيفة من كلاب الحراسة التي تحيط بمكانه أو تبسط اذرعها بالوصيد .فابتعدت تاركا الحكيم ، يتصيد الحكمة ، في توحده، وقد أضفت إلى همومي هما آخر: ترى إلى أية صورة مسخ الحكيم .؟ فلم أنتبه وأنا أغيب في جب أفكاري إلى مجاميع الدجاج التي كانت تنبش التراب . أو اسمع مواء القطط التي تفتش في المزابل .. كنت أبحث في داخلي عن تفسير لما يحدث في البلدة . حين استفزني صياح الديكة ، لأجد نفسي على مشارف أفول النهار ، في نهاية درب مفتوح على صحراء لا أفق لها ، وقد برزت أمامي بضعة ذئاب ، قذفتها الكهوف البعيدة باتجاه البلدة . رأيتها والجوع يعوي في بطونها الضامرة . كأنها لا تتنفس ، تراقب بعيون كالجمرات، ثم أشرعت مخالبها وتقدمت بخطوات خفيفة لا تكاد تمس الأرض ، فشعرت لأول مرة إن حياتي تلخصت في لحظة خوف فطري . حين لسعت ظهري قشعريرة صاقعة ، وسالت لتنزل في أطرافي . فكرت حينها أن الذئاب تتهيأ للانقضاض على كبش ساقه حظه التعس ، ليكون مزقا بين أنياب هذه الذئاب .. تلفت مذعورا باحثا عن ذلك الكبش التائه لأحذره فلم أر غير ظلي الذي تبعني حتى نهاية الطريق .
#حامد_فاضل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العلبة
المزيد.....
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
-
بشعار -العالم في كتاب-.. انطلاق معرض الكويت الدولي للكتاب في
...
-
-الشتاء الأبدي- الروسي يعرض في القاهرة (فيديو)
-
حفل إطلاق كتاب -رَحِم العالم.. أمومة عابرة للحدود- للناقدة ش
...
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|