|
رواية -الطوفان الثاني-.. أزمنة وأماكن لم تغادر حتى تبدأ من جديد!!
عصام الياسري
الحوار المتمدن-العدد: 7246 - 2022 / 5 / 12 - 14:28
المحور:
الادب والفن
سنحت لي الفرصة مؤخرا من قراءة رواية الصحفي والروائي العراقي فاتح عبد السلام الموسومة “الطوفان الثاني”، الطبعة الاولى، الصادرة عن الدار العربية للعلوم ـ بيروت في آب/ اغسطس 2020، والتي تقع في أكثر من ثلاثمائة وخمسين صفحة من الحجم المتوسط وغلاف من تصميم الفنان علي القهوجي. وعشرين فصلا، تحمل سلسلة من الاحداث الواقعية وصور دراماتيكية تبدو كحكايات من الخيال العلمي. تفاصيل أزمنة وأماكن متغيّرة، ما ان يغادرها القهر حتى يعود اليها من جديد. الرواية عملا دراميا ببصمة فنية، عوالم واضاءات واحداث وتواريخ حقب مؤلمة كادت ان تقضي على خطوات “محو الامية الثقافية” في بلاد الرافدين وتعود بها الى العصور الظلامية..
رواية مثيرة للاهتمام والدراسة، لكن لابد من الاضاءة الى انني في هذه الفسحة الكتابية، لست من المتحمسين لتسمية “الكتابة” فيما يتعلق الامر بالاصدارات الشعرية او الروائية بـ “العمل النقدي”، كما متعارف عليه بين بعض الكتاب العرب،، لفهمي على ان الكتابة تعني “تقييم باستخدام معاييرموضوعية”، اي تمظهر يتيح للقاريء الوقوف على جماليات السرد الروائي، او بالمعنى التقريبي “فحص العمل الادبي” لتكون المسافة بين الروائي والمتلقي ثنائية ومباشرة، لا “انشاءً إعلامياً” غير قادر على وصف الرواية في تنوعها وتميزها عن الاشكال الاخرى في ممارسة الكتابة وفن التعبير “لغويا”. بمعنى آخر اثارة فضول المتلقي، للبحث عن مصدر لاستكشاف الرواية، بدل رأي الناقد “كناقد”، وهو في أغلب الاحيان رأي مجازي او نسبي ان جاز التعبير، واحيانا مرتبط بالموقف الشخصي في مجتمعاتنا العربية.
فاتح عبد السلام كاتب وروائي وصحفي عراقي ولد بمدينة الموصل، ويقيم حاليا في لندن، تخرج من قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة الموصل، حصل على درجة الماجستير في الأدب العربي عن دراسة قدمها بعنوان «الشخصية الريفية في قصص يوسف أدريس»، ثم حصل على درجة الدكتوراه عن رسالة قدمها بعنوان “الحوار في الرواية العراقية”. عمل في العراق استاذا مشاركا في مادة الأدب العربي الحديث. صدر له العديد من الاعمال الروائية والقصصية والفكرية والنقدية والدراسات الاكاديمية.
روايته الجديدة “الطوفان الثاني” تجمع بين الواقع والخيال، فصلها الاول الذي تبدأ عنده رحلة الرواية، يثير تساولات جوهرية لم تتوقف عند حدود الخاتمة “الفصل العشرون”. بل كشف لنا الكاتب عبد السلام من خلال امكانياته الابداعية والتجريبية واسلوبه السردي عن “جوهرة” النص الادبي الذي يمثل الأساس، وما تمتاز به الرواية ـ وعن مفاهيم وانماط جمالية بطريقة واضحة وأنيقة.. ((ثنت رقبتها على ركبتيها، وأحاطت بذراعيها ساقيها المنطويتين على شكل هرم. غطس رأسها بين ركبتيها، ولم يبق ظاهرا منه سوى جزء من شعرها. بدت كمَن تمارس تمرينا رياضيا يقتضي حبس انفاسها)).. يبدو ان الكاتب عندما بدأ كتابة هذا النص في مستهل روايته (ص 5)، اراد ان يبقي الباب موصودا، على غير العادة، بطريقة مختلفة عن نشأة الرواية، اية رواية، ومقدماتها، جعلت النص عملا متكاملا بدون تعليق، لكنه مستمر وواضح تماما. يكشف عن إمكاناته السردية التفجيرية في الفصول اللاحقة، مع تفاصل دراماتيكيه أكثر ملاءمة من وجهة نظر جمالية ـ اليوميات، الازمنة، والاماكن، الأمثال، السير الذاتية التلقائية وما إلى ذلك.
في رواية “الطوفان الثاني” لا يمكن اختزال “القيمة الادبية” للاحداث والحروب الكارثية المؤلمة والشاقة بعيدا عن مظاهر القيم الفنية مثل بانوراما عريضة.. اقتبس من صفحة الغلاف الاخيرة: ((في “الطوفان الثاني” يواصل الروائي العراقي فاتح عبد السلام. الماكث الابدي في كنف الحروب، مشروعه السردي في البحث عن ذلك المعادل المستحيل لانهيارات الحروب.. بؤرة روائية تنبض تحت انساق من رماد ماكر. يغطي ذات الارض التي نحت فيها الطوفان الاول اصوات الملاحم والاساطير وانفاس المدن المضيئة.. هنا “الطوفان الثاني” خط مشروع منكسر لحياة حالمة. لا يقهرها تنين النار. حياة تأبى الا ان ترسم ملامح الوجه الحتمي الآخر من الحرب، اية حرب)).. بالمعنى الاوسع: الأعمال الادبية هي في الأساس مساحات مادية محددة لها طابع جمالي أو فني مقصود. اراد الكاتب في مستهل الرواية، ايصالها للمتلقي ببساطة، كشرط ضروري. وعلى ضوء ذلك، يمكن فهم الاماكن والازمنة التي تم إنشاء الرواية في ظروف اكتنفها العديد من المصائب والاخطار والترحال. وفي النهاية، لا يخضع الجزء الاول لهذه الظروف والاشياء فحسب، انما تأثرت الفصول التسعة عشر الاخرى باحداثها الفرعية والرئيسية والنوعية الشاملة.
((اشتراك بريطانيا في الحرب مع الامريكان لاحتلال العراق. انتابتني دفقة من افعالي الصبيانية، وقلت في سري “ماذا لو اطلقت الآن صرخة في العربة، انا عراقي؟)) ص 137 الفصل العاشر. ((ما سر هذه الارض التي طردتني طفلا، ورمت بيّ في ذلك البحر المظلم، ثم اعود اليها رجلا فاجدها غريبة عني، كلما شممت ترابها فاضت في نفسي موجات من الحزن، تغمرني حتى اثمل من الدهشة، او لعله الخوف دون سواه من المشاعر، غير ان رائحة التراب الساحرة كانت تعاند بقوة في سحبي الى ذلك الشوق الغامض الذي لا ينتهي)) ص 287 الفصل الثامن عشر..((اخبرني عمي وهو يرقبني بالمرايا ان هناك مَن سرق اجزاء من تلك الاعمدة... كانت ابراجا عملاقة لم استطع تخيل صورة الشخص الذي يمكنه ان يسرقها... كان اكبر همنا هو كيف نجتاز حاجز سيطرة يصادفنا، وكيف لنا ان نميّز انه حاجز تابع لقوات الحكومة او لمسلحين يرتدون نفس ملابسها ولديهم نفس سياراتها ايضا، من الممكن ان يقتلوا الانسان بسبب اسمه او دينه او مذهبه؟)) ص 350 الفصل العشرون.
اعتمد الكاتب في كتابة روايته آليات الدقة الزمنية والاجتماعية والمكانية، إذ حددها على أنها قلب العمل، وليس فقط عمل روائي احداثه متشابكة ومعقدة خلال ازمنة مختلفة ملأها المؤلف بالحياة.. وفقا “لأنوشكا باتي” (تحفيز المادة) ـ ليصبح “الصخب الكامل والصخب مقدما” في نقطة التبلور المبكرة التي يمكن من خلالها تنظيم كل الإضافيات بطريقتين على الأقل. من ناحية، المزيد من المواد الأدبية، ومن ناحية أخرى تلبية مطلب “فن الكتابة” كما يشير الى ذلك العبقري “موريس بلانشو” (القدرة على زيادة الأداء المعرفي للكاتب).
ما يلفت الانتباه في “الطوفان الثاني”، ان الكاتب فاتح عبد السلام، كان موفقا في جعل “فصول الرواية” متألفة مع بعضها البعض كـ “حبكة سينمائية”، تسميها (تيريزا فريدريش) بـ “عمل بمعنى الكدح”. كما مكننا من اكتشاف الكثير من المواقف الاجتماعية والعديد من الاحداث والأزمات والاضطرابات المثيرة للاهتمام في السنوات القليلة الماضية. فيما يظهر الابداع الأدبي “للرواية” نفسها، سياقات فيزيائية بارزة، ترتبط بسير الاحداث. لكنها، تظل غير واعية (كالهروب الى عالم آخر، كحل آني) لاجل الحفاظ على “تدفق الكتابة” وهو ما كان بالفعل. اخيرا لابد من التنويه الى ان العناصر اللازمة، حتى في المرحلة الجامحة اثناء كتابة النص الروائي، كانت حاضرة، واللحظة “الهارمونطيقية” لعبت دورا مهما، غالبا ما يتم تجاهلها في الكثير من المناهج الشكلية لأدب الرواية.
#عصام_الياسري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
السياسة والحروب تطرق مضاجع الثقافة من ابوابها الواسعة.
-
على حافة الرصيف التمييز المفرط في مفردات الحياة اليومية
-
على حافة الرصيف الغزاة من هيأ لنهب العراق وشعبه!
-
الصراعات الطائفية وأزمة الانتخابات الرئاسية؟
-
مع الذكرى التاسعة عشر لغزو العراق .. هل يستطيع الشباب ان ينه
...
-
على حافة الرصيف 15
-
النظام السياسي في العراق واعادة مفاهيم صدام الخطيرة إلى الأذ
...
-
فيلم فاطمة -سيدة الجنة- دراما تاريخية مثيرة تحاكي عصرين مختل
...
-
لماذا يمارس الاعلام دور الوسيط غير النزيه اثناء الازمات الدو
...
-
أوجه التشابه والإختلاف في روايتي هيرمان هيسه وجميل الساعدي
-
التضليل الإعلامي في السلم والحرب
-
مهرجان برلين السينمائي -برليناله 72- الدولي 2022 ثقافة سينما
...
-
نسخة جديدة من الفيلم الموسيقي الكلاسيكي -قصة الجانب الغربي-
-
كيف خطط بوش وبلير للحرب في العراق
-
تشكيل الحكومة الجديدة في حلبة المصارعة.. فما النتيجة المنتظر
...
-
ماساة التعليم واستهداف الكفاءات والهجرة القسرية.. من المسؤول
...
-
الاستراتيحية الايرانية في العراق بعد الانتخابات
-
التحول النقدي لظاهرة الفلسفة الثقافية .
-
أحلام العراقيين تراوح داخل حلقة الصراع الأكثر شهرة
-
متى تنتهي ماساة العراق والعراقيين وتتوقف احزاب السلطة عن اطم
...
المزيد.....
-
الفلسطينية لينا خلف تفاحة تفوز بجائزة الكتاب الوطني للشعر
-
يفوز بيرسيفال إيفرت بجائزة الكتاب الوطني للرواية
-
معروف الدواليبي.. الشيخ الأحمر الذي لا يحب العسكر ولا يحبه ا
...
-
نائب أوكراني يكشف مسرحية زيلينسكي الفاشلة أمام البرلمان بعد
...
-
مايكروسوفت تطلق تطبيقا جديدا للترجمة الفورية
-
مصر.. اقتحام مكتب المخرج الشهير خالد يوسف ومطالبته بفيلم عن
...
-
محامي -الطلياني- يؤكد القبض عليه في مصر بسبب أفلام إباحية
-
فنان مصري ينفعل على منظمي مهرجان -القاهرة السينمائي- لمنعه م
...
-
ختام فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي بتكريم الأفلام الفلسطي
...
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
المزيد.....
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
المزيد.....
|