أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - الدين والتدين في فكر عبدالجبار الرفاعي















المزيد.....



الدين والتدين في فكر عبدالجبار الرفاعي


حيدر جواد السهلاني
كاتب وباحث من العراق


الحوار المتمدن-العدد: 7241 - 2022 / 5 / 7 - 01:15
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


المقدمة:
يشكل الدين أحد الظواهر الاجتماعية المكونة للمجتمعات، فالدين لا ينفصل عن أي مجتمع، حتى المجتمعات التي تؤمن بالعلمانية تجد الكثير من القضايا عندها لا تتم إلا بالرجوع إلى الدين، مثلاً قضية الزواج لا تتم إلا عن طريق الكنيسة، وقضية تأدية الرئيس القسم، يكون الحلف بالله( جل جلاله)، ولكن هناك بعض الدول لا تؤمن بالدين، ولكنها تؤمن بالقدسيات، والقدسيات هنا هي مرادفة للدين، وتصنع لنفسها قدسيات مثال على ذلك دولة كوريا الشمالية، فالزواج مثلاً لا يتم إلا أمام تمثال والد (كيم جون يونغ رئيس البلاد) ، وبذلك يعد الدين العمود الفقري لكل مجتمع، فالدين ظاهرة وجدت مع البشر وستبقى مع البشر، وهو اقدس واقوى مؤسسة في حياة البشر وارسخها اصالة، وانه من الظواهر القديمة المولودة بولادة الانسان، وهو ظاهرة اصيلة تنبع من صميم الانسان، ومن تعريفات الدين، هو مجموعة من المعتقدات والافكار لدى الشخص وهو الايمان بمجموعة من السلوكيات والفرائض والقبول بها في الحياة واتباع دين معين والاخلاص له يعتبر تديناً. ويعرفه كانت الدين" هو معرفة الواجبات كلها باعتبارها أوامر الهية". أما هيجل يعرفه " الدين هو روح واعية جوهرها، وهو ارتفاع الروح من المتناهي الى اللامتناهي". أما عند دوركايم" الدين هو منظومة متماسكة من المعتقدات والممارسات المتعلقة بأمور مقدسة، وهي معتقدات وممارسات تجمع في ايلاف اخلاقي واحد". اما أريك فروم" أي مذهب للفكر والعمل تشترك فيه جماعة ما، ويعطي للفرد أطاراً للتوجيه وموضوعاً للعبارة". ويعرفه لالاند" مؤسسة اجتماعية متميزة بوجود ايلاف من الأفراد المتحدين، بأداء بعض العبادات المنتظمة وباعتماد بعض الصيغ، وبالاعتقاد في قيمة مطلقة" وأيضاً " الدين نسق فردي لمشاعر واعتقادات وافعال مألوفة موضوعها الله".(1)
الدين عند الرفاعي:
يعتقد الرفاعي أن الدين ظاهرة واكبت تاريخ البشرية منذ وجودها على سطح الأرض، والإنسان كائن متدين، وأن تباينت تعبيراته عن تدينه، واختلفت تجليات الدين في حياته، وقد اعتقد بعض الفلاسفة والمفكرين بانحسار الدين وأثره على المجتمع بظل التطور التكنولوجي، إلا أن الدين يبقى عامل مؤثر في المجتمع، والدين لا يمثل مرحلة من مراحل تطور الوعي البشري، لأنه كان موجوداً بوجود الإنسان الأول وسيلبث حتى الإنسان الأخير، فالدين ظاهرة مستمرة ومتواصلة وحاجة بشرية لا يستغنى عنها الإنسان، غير أن تعبيراته وطبيعة حضوره مختلفة من مجتمع لأخر، فالدين له صلة عضوية بكافة الثقافات البشرية، فليست هناك ثقافة عابرة للدين، حتى في المجتمعات التي فرض عليها الإلحاد.(2)
الدين يرثه الإنسان من أبويه وعائلته ومحيطه، ويصبح عنصراً فاعلاً في التربية والتنشئة العائلية والمجتمعية، ويصبح أحد العناصر المكونة للذات، ويدخل كأحد مكونات الهوية المجتمعية للإنسان، وأن فهم الدين يتطور تبعاً لتطور فهم الإنسان لنفسه، وتفسيره للطبيعة واكتشافه لقوانينها وتسخيره لها، على اعتبار أنه كلما تقدم العلم بحقيقة الإنسان، وتم اكتشاف المزيد من قوانين الطبيعة، وتراكمت المعارف كيفا وكما، فلا بد أن يتطور بموازاتها فهم الدين، وتحيين المعنى الديني، بالمستوى الذي يستجيب للواقع الجديد الذي تنتجه العلوم والمعارف والتقنيات الجديدة، فالدين يتغلغل في كل شيء في حياتنا بصورة ظاهرة وخفية، وهو مكون عميق لماضينا وحاضرنا، ومتغلغل في كل شيء في حياتنا، ولا يتحقق فصل الدين أو وصله بحياتنا بقرار نتخذه، أو رغبة عابرة، أو تذمر البعض وانزعاجهم من ممارسات مستهجنة تتخذ من الدين غطاء لها، ويتعذر طرد الدين من حياة الناس، مهما أساء له أولئك الذين يتخذونه ذريعة لسلوكهم المتوحش، إذ الدين مكون أساسي في الهوية، والبنية اللاواعية في ذهن الفرد وثقافة المجتمع، وقد أخفقت مشاريع ودعوات القطع الجذري مع التراث، ولم توصلنا إلى أية محطة لبناء الفرد والمجتمع والدولة، و الطريق الصحيح هو دراسة التراث دراسة علمية معمقة، والتوغل في اكتشاف بنيته التحتية ورؤيته للعالم، في ضوء منطق العلوم والمعارف الحديثة، ومغادرة ما استنفذ غرضه فيه، ولم يعد صالحاً لغير زمانه.(3)
الدين حاجة وجودية:
إن حاجة الإنسان إلى الدين تنبثق من اعماقه، فلا يمكن أن يستغني الإنسان عن الدين، فالدين هو مشروع أدى إلى دور فريد في المجتمعات، والدين هو الذي يسمح بفرض دلالاته الخاصة على الواقع بأكثر نجاعة، لذلك فرض حضوره في مراحل التاريخ المختلفة، وإن كانت درجة هذا الحضور ومستوياته متعددة، تبعاً لمستوى وعي الإنسان ودرجة تطوره الحضاري، والدين لا يمكنه أن ينجز مهمته ما لم يتموضع في مجاله الخاص، وألا يتجاوز كونه حاجة وجودية، فلو تخطى حدوده، واحتكر العلم والمعرفة والإدارة والدولة، يتحول إلى أداة للهدم لا للبناء، وتصعب جداً إعادته إلى مجاله الخاص.
ينجز الدين وعوده بوصفه حاجة وجودية للإنسان، أي أن الكائن البشري هو المخلوق الوحيد الذي لا يكتفي بوجوده الخاص، لذلك يعمل هذا الكائن على تمديد وجوده ، وهنا يقوم الدين بإغناء هذا الوجود عبر الإيمان، وبناء الحياة الروحية بالسفر الوجودي إلى الحق الذي يثري الكينونة ويكرسها، وهذا معنى كون الدين حاجة وجودية، وإن كان الدين كذلك، فلا بد من أن تظهر تمثلاته في حياة الفرد والمجتمع ، و تتجلى هذه التمثلات في حياة الإنسان في مستوين:
1 - المستوى الثقافي، يظهر أثر الدين في ثقافات المجتمعات بدرجات متفاوتة، إذ يمكننا أن نعثر على آثار الدين الظاهرة والمضمرة في أشكال الإبداع الفني والأدبي المختلفة، وفي التعبير الجمالي، وفي أنماط التفكير والإنتاج الثقافي المتنوعة.
2- المستوى السلوكي، يتنوع أثر الدين في السلوك على وفق تنوع الأفراد والمجتمعات واختلافها، فقد يكون حضوره طاغياً في الأقوال والأفعال والمواقف، أو مضمراً مستتراً، عندما يشكل أحد عناصر الإطار المرجعي للتفكير والتعبير والفعل.(4)
الدين الانطولوجي:
يدعو الرفاعي لأن يكون الدين أنطولوجي، وليس إيديولوجي، فالدين الإيديولوجي جعل الإنسان ضحية، ويخرج الدين من حقله الخاص، ويقحمه في مخالفات ومغامرات، وتصادر ذات الشخص البشري، وتوهمه بوعود دنيوية لا صلة لها بالدين، فالأيديولوجيا تهتم بإيقاظ ما يختزنه المجتمع، من مكبوتات تاريخية وجروح موجعة، وإثارة مشاعر محبطة، وتوظف كوقود لتحريض الغرائز، كما تعمل على احتكار أنظمة إنتاج المعنى وتسعى لامتلاك أدوات تسويق الأفكار الجاهزة، وتلقينها باستمرار للمجتمع، وذلك ما يتجلى بوضوح في أدبياتها، فهذه الأدبيات أدبيات جنائزية تقود إلى القبر، أما الدين الانطولوجي، هو دين إرواء مالم يرتوي من سواه، ويشبع حاجات الإنسان.(5)
ت الدين الانطولوجي الدين الأيديولوجي
1_ هذا الدين يمنح عقلك الحرية ولا يفرض عليك حدود. هذا الدين يسخر حياتك وطاقتك وموهبتك لتخدمه ويفرض عليك حدوده واسيجته.
2_ هذا الدين يمحو الكراهيات ويطهر روحك من الخطايا، ويقدم لك مصباحاً يضيء دروب وصالك مع الله( جل جلاله) وتواصلك مع الإنسان والعالم ويروي روحك بما تتعطش إليه من ظمأ للامتلاء بنور الحق. هذا الدين يعطل حياتنا ويستحوذ عليها ويستعبد عقولنا.
3_ هذا الدين يكون مشبعاً بالحياة ويعطيها معنى وروحاً أخلاقياً، ويغتني الإنسان بالهدوء والأمن والسكينة والسلام. هذا الدين يفشل في بناء حياة روحية أخلاقية أصيلة، ويطمس الأبعاد الإنسانية في الدين ويميت الروح والقلب والعقل والضمير.

الدين حالة فردية:
يرى الرفاعي أنه ليس بالضرورة اقحام الدين في كل مجالات الحياة الدنيوية، و يجب إعادة الدين إلى حقله الطبيعي ومن دون ذلك ننهك ما هو ديني، ونبدد ما هو دنيوي، أي أن تمام الدين وكماله ليس بمعنى استيعابه وشموله لكل شيء في الدنيا، وإنما هو بمعنى أن الدين لا يعوزه ولا ينقصه شيء فيما يرتبط بأهدافه وغاياته في الهداية وبناء الذات، ورفدها بما تفتقر إليه الخبرة البشرية، وفي فضاء عالمها الحسي المادي، أما ما يؤمنه العقل، وما تنجزه الخبرة البشرية فلا ضرورة لإقحامه، أو إقحام الدين فيه، وأن كثرة الكلام في الدين وثرثرة معظم الجماعات الإسلامية وبعض رجال الدين تتورط في نسيان الإيمان الذي تتكرس به الكينونة، فالإيمان بمضمونه الأنطولوجي هو مما يتذوق ، لا مما يعلم ويتصور ويدرك ذهنياً.
يحاول الرفاعي أن يبعد الدين عن ارتباطه بالمؤسسات، أو يكون مؤسسة تدبر المجتمع، بل الدين هو حالة فردية خاصة وروحية، فيقول الرفاعي" لا أريد أن يدرس الدين بوصفه مؤسسة، أو متموضعاً في مؤسسة اجتماعية، وإنما من حيث هو ظاهرة حياتية تعبر عن أعمق متطلبات الوجود والكينونة الذاتية للشخص البشري، وهي رؤية تبصر النظام الوجودي ومراتبه، ومرتبة الحق تعالى في سلم الوجود، وكيف أن وصاله والسفر إليه، إنما هو المنبع للحياة الروحية، والعلاقة به هي مصدر الالتزام في الحياة الأخلاقية، وأن ما يشوه صورة الدين في مجتمعاتنا هو اختلاط الدين بكل شيء." (6) ( في الحقيقة أن الدين منظومة أخلاقية، والأخلاق تدخل في كل مجالات الحياة العلمية وغيرها، أما ما يشوه صوره الدين، فهو الفهم الخاطئ للدين، أو التعمد في الفهم الخاطئ للدين، وذلك بسبب المصالح الدنيوية).
الدين والحياة:
يدعو الرفاعي إلى أن يكون الدين عملي ومتواجد في الحياة الدنيا، أي لا يفهم الدين بأنه سبيل العبور من الحياة والتضحية بمتطلبات الجسد، بل أن يكون الدين حاضراً في متطلبات الجسد، أي عدم التنكيل بالجسد، والتضحية بمتطلبات الضرورية وحاجاته الغريزية، لحساب الإيديولوجيا الذي يفضي إلى تجاهل طبيعة الجسد وقمعه وتعذيبه بمحاربة الغرائز والعمل على اجتثاثها، وبذلك يدعوا الرفاعي إلى:
1_ إشاعة السلم والتراحم والمحبة بين الناس، والدعوة للتعددية والتسامح، وارساء قيم الاختلاف واحترام الآخر، والسعي لتجفيف منابع العنف والعدوانية والتعصب.
2- لا يعني التدين اختزال الانسان في مجموعة مفاهيم وقيم مثالية ، تتعالى على بشريته، مثلما تريد بعض الاتجاهات الصوفية والدعوات الرهبانية، بل ايجاد حالة من التوازن والانسجام بين متطلبات جسده من حيث هو كائن بشري، وامكانية غرس وتنمية روح التصالح مع العالم، والتناغم مع ايقاع الكون، وتكريس حالة الانتماء للوجود، والتعاطف مع كافة الكائنات الحية والشفقة عليها، وتعزيز اخلاقية المحبة ، وتدريب المشاعر والاحاسيس والعواطف على القيم النبيلة، والسعي لاكتشاف روافد ومنابع الهام الطاقة الحيوية الايجابية في هذا العالم، والتواصل العضوي معها.
3- يجب انهاء التفسيرات المتعسفة القمعية للنصوص، وتخطي المفاهيم والمقولات النمطية المغلقة في اللاهوت الكلاسيكي، و يتحقق ذلك بفتح باب الاجتهاد في علم الكلام، وتحديث التفكير اللاهوتي، ومحاولة بناء لاهوت عقلاني مستنير.
4- الدعوة لبناء مجتمع مدني تعددي تسود حياته قيم العيش المشترك، والعمل على تكريس حق الاختلاف، والتثقيف على أن الوطن يتسع للجميع، وللجميع الحق في الحياة والعيش الكريم.
5- تحرير المرأة من الاعراف والتقاليد الجاهلية، وحماية كرامتها من الانتهاك والعنف البدني أو العنف الرمزي تحت أية ذريعة، ومنحها الفرص المناسبة للإسهام في بناء المجتمع والانخراط في التنمية الشاملة.
6- ينبغي إعادة بناء المناهج الدراسية ومقررات التربية والتعليم في كافة المراحل، والتركيز على التعليم الأساسي، والاهتمام الفائق بالطفولة في الحضانة والمرحلة الابتدائية، وبناء التربية على فلسفة أن الطفل ليس وعاء نملأه بالتلقين، وإنما هو طاقة خلاقة قابلة للاشتعال.
7- التثقيف على نفي الإكراه في الدين، وتعميم مبدأ ( لا اكراه في الدين) والاستناد اليه كمرجعية ومعيار قيمي في التعاطي مع الآخر.(7)

الدين والمقدس:
المقدس هو المقولة التي يبنى عليها السلوك الديني، والمقدس ليس صفة تملكها الأشياء في حد ذاتها، بل هو عطية سرية فاضت على الأشياء أو الكائنات وأسبغت عليها تلك الصفة، ويعتقد البعض أن المقدس والدين في علاقة جدلية، فلا وجود لأحدهما من دون الآخر، ويحتل المقدس موقعاً جوهرياً بالنسبة إلى الدين، بل هو عماده الأساسية، ذلك أن المؤمن يوليه كل مظاهر المحبة والخوف والرهبة، ويعتقد البعض الآخر أن المقدس لم يعد محصوراً بجوهر الدين أو بالعلاقة مع الله(جل جلاله)، إذ اقتحمت مظاهر الدنيوي هذا العالم القدسي، واحتلت موقعاً أساسياً فيه فقد اتسعت دائرة المقدس بشكل كبير، وطالت مسائل وقضايا لا صلة لها بالدين ولا بالمقدس، ونعتقد أن المقدس هو صناعة دينية وقبلية وثقافية وحضارية وحتى أسرية، فقد تمثل المقدس على مر التاريخ بكثير من الشعائر والطقوس، وقد ارتبط المقدس ليس فقط في الديانات السماوية من خلال الأنبياء والرسل والأوصياء أو الديانات الوضعية ، بل ارتبط بقانون الدولة وشعارها ، وبذلك أن نشوء فكرة المقدس في بادئ الأمر هي فكرة دينية خارقة للطبيعة، ثم اتخذت أشكالاً عدة إلى وقتنا الحاضر، ونعتقد أنه لا يمكن للمجتمعات أن تعيش بدون فكرة المقدس، حتى في المجتمعات الأشد ألحاداً، أذ يوجد لديهم بعض المقدسات هي من تجمع المجتمع، وفي الكثير من الاحيان يكون المقدس، وبغض النظر عن كونه جاء من الدين أو من خارج الدين، يكون له السطوة والسلطة العليا، وإذ تعارض الدين والمقدس، تكون الكفة العليا للمقدس وهذا ما يحصل في المجتمعات ، فعندما يغيب المنطق العقلي، تظهر الكثير من المقدسات الجوفاء والتي تتحكم بالمجتمع وتسيره حسب أهوائها.
يعتقد مرسيا الياد أن المقدس يتجلى دوماً على أنه واقع من نظام آخر غير نظام الوقائع الطبيعية، فالمقدس يظهر دائماً كحقيقة من نظام آخر غير الحقائق الطبيعية، وتستطيع اللغة أن تعبر عن المقدس من ميدان طبيعي أو الحياة الروحية للإنسان، وأن إدراك الإنسان المقدس باعتباره واقعاً موضوعياً ومتعالياً من خلال تجربة عقلية أو انفعالية شعرية أو رمزية، ومن جهة أخرى يعبر الإنسان عن هذا الواقع ويجعله أمراً محايثاً للإنسان، ويرى فهمي جدعان أن المقدس هو ما يحيل إلى الموجود المفارق المتعالي أو العلي السامي الطاهر المبارك الذي يحظى بالاحترام والتبجيل بالإطلاق ولا يجوز تدنيسه وهتكه والاعتداء عليه وخرق حدوده وأحكامه، والمقدس وجه جوهري للدين وعماد أساس من أعمدته، والمؤمن يتمثل هذا المعنى تمثلاً دقيقاً شاملاً، ويخضع على وجه التبجيل والاحترام والمحبة والخوف والرهبة والطاعة والتسليم، وأن أحكام المقدس ومنطقه أنه يتعين احترامه بإطلاق والانحصار عن مساءلته أو مناقشته أو الدخول معه في سجال، أما روجيه كايوا يعتقد أن الصفة الوحيدة التي يصح إثباتها للمقدس بشكل عام، إلا وهي تعارضه مع الدنيوي، وأن أي تصور للعالم يفترض التمييز بين المقدس والدنيوي و ضرورة حماية المقدس من كل اعتداء دنيوي، إذ من شأن هذا الاعتداء أن يفسد كينونة المقدس ويفقد ميزته النوعية ويجرده دفعة واحدة من قدرته العاتية والخاطفة، وبذلك ضرورة ابعاد كل دنيوي عن المكان المقدس.(8)
يعتقد الرفاعي أن الدين يلتقي بالمقدس، لكنهما لا يتطابقان مفهوماً، ولا يتحدان مصداقاً دائماً، إذ تتقدس أشياء خارج الدين، كما أن هناك أشياء في الدين ليست مقدسة، والمقدس والدين أحيانا تتحد وظيفتهما، ويلتقيان ببعض مصاديقهما، وأحيانا تتنوع وظيفتهما، ويختلف كل منهما عن الآخر في مصاديق أخرى، وبذلك ليس كل مقدس ديناً، وليس كل ما في الدين مقدساً، إذ في كل دين ما هو مقدس وما هو غير مقدس، و حضور المقدس الحقيقي محدود جداً في الأديان أو نادر لحظة نشأتها، لكن المقدس يتوالد بالتدريج بمرور الأيام، تبعاً لتضخم المخيلة، وتوسع الميثولوجيا لدى أتباع الدين، و كلما اتسع فضاء الميثولوجيا في الدين اتسع فضاء المقدس، وكلما غاص الدين في باطنية غائمة تنامى فيه حضور المقدس، والمقدس يشعر القلب بهيبته ورهبته وقوته، ويتلذذ من يعتقد به بالتواصل معه وتحسس حضوره، و المقدس تجاوزي، عابر للزمان والمكان، و يزحف المقدس على ما هو دنيوي، فتتقدس أشياء وأيام وأماكن وكائنات غير مقدسة بمرور الأيام، ويطمس المقدس الزائف ما هو أخلاقي في الدين، وتنضب منابع إلهام الروح فيه، ولا يقع المقدس موضوعاً للعقل النقدي، أو موضوعاً للعلم، لأن المقدس خارج حدود العلم وأدوات كشفه.(9)
التدين:
يعتقد الرفاعي أن الانسان كائن متدين، وأن اختلفت تجليات التدين ، وتباينت التعبيرات الدينية في حياته، تبعاً لتنوع البشر واختلافهم، والحياة لا تطاق من دون خبرات وتجارب دينية، ذلك أن نزعة التدين تمثل ظمأ أنطولوجيا لا يروى، إلا من خلال التواصل مع المطلق، و تختلف أنماط التدين تبعاً لطبيعة البناء النفسي للأشخاص، وتكوينهم التربوي والتعليمي والثقافي، والواقع الذي يعيشون فيه، وهكذا تختلف أنماط التدين في حياة الجماعات تبعاً لسياقات تاريخها السياسي والاقتصادي وطرائق عيشها، وثقافاتها، ولغاتها، وهوياتها، ومعتقداتها الماضية المترسبة في اللاوعي الجمعي، فالدين يتخذ شكل المحيط المجتمعي الذي يحل فيه، ويصطبغ بنوع الشخصية البشرية وطبيعة العمران ومختلف الظروف التي يعيشها الناس، والدين مثلما يؤثر في حياة الناس يتأثر بثقافاتهم وتقاليدهم وطرائق عيشهم، وهذا يعني أن حضور الدين بالشكل الذي يكون معه فاعلاً إيجابياً في البناء والتنمية يتوقف على نمط تدين ملهم للروح والضمير الأخلاقي والحس الجمالي، ويرتبط ذلك عضوياً بإعادة بناء أنظمة التربية والتعليم في ضوء مكاسب العلوم والمعارف الحديثة، والاهتمام بالقيم الكونية المشتركة بين البشر، وخلق وعي جديد مواكب للتحولات الكبرى في العالم.(10) وبذلك يرى الرفاعي عدة أنواع من التدين ومنها:
التدين الاخلاقي:
يرى الرفاعي أن التدين الأخلاقي تدين يتجلى فيه صوت العقل، بموازاة حياة الروح، ويقظة الضمير الأخلاقي، ويتذوق فيه المتدين تجليات الجمال في العالم، و تدين تتكرس فيه كينونة الكائن البشري، ويحقق فيه الدين وظيفته في إرواء ظمأ الإنسان للمقدس، و تدين يتموضع فيه الدين في مجاله الخاص به، وينجز وعوده في الحياة الروحية والأخلاقية والجمالية، فهو تدين متصالح مع العقل والروح والقلب، ولا يقترن الدين في هذا النمط من التدين بالخوف، ولا المقدس بالرعب، فالإيمان بالله في هذا التدين حالة يتذوقها الإنسان وليس معلومة يدركها، والتوحيد يعني نمط حياة توحيدية ملهمة، وليس اعتقاداً بمفاهيم ذهنية محنطة، و الإيمان فيه ليس فكرة يتأملها المتدين، أو معرفة يتعلمها، أو معلومة يتذكرها، ويحتفي هذا التدين بالفن، ويدرك حاجة كل كائن بشري للجمال، كحاجته لكل ما هو أساسي من الاحتياجات في حياته، فهو تدين يدرس الدين بوصفه ظاهرة لها حقيقة تقع داخل أفق الدين ذاته، ويمكن إدراك جوهرها في الفضاء الخاص للحياة الروحية، ويدرك هذا التدين أن احترام الآخر المختلف ضرورة تفرضها ثقة الذات بدينها وهويتها وثقافتها، والتدليل على أخلاقية دينها وانسانيته، فمن لا يحترم الآخر المختلف في مجتمعه تعوزه الحجة في البرهنة على مصداقية أخلاقية دينه وانسانيته، ويغترب عن مجتمعه وعصره، وينشد هذا النمط من التدين التحرر من كل ألوان الاستعباد والصنمية، فهذا التدين ضد كل ما يستعبد الروح، وضد كل ما يستعبد القلب، وضد كل ما يستعبد الضمير، وضد كل ما يستعبد العقل، لكن ومع ذلك يشكل هذا التدين الأقل حضوراً في الحياة الفردية والاجتماعية اليوم، وينشد هذا التدين تحقيق:
‏١ _حياة روحية ملهمة.
‏٢_ حياة أخلاقية ملهمة.
‏٣_ تذوق لجماليات العالَم.(11)
التدين الشكلي:
يرى الرفاعي أن هذا التدين مفرغ من نبض الحياة الروحية ووهج الضمير الأخلاقي، و يضع معايير ظاهرية شكلية تقاس درجة التدين بمدى الالتزام بها، بغض النظر عن بناء الكيان الداخلي للمتدين، وينشغل بشكل اللباس، ولغة الجسد، وتعبيرات الوجه، ونوع الحركة والمشي، ونبرة الصوت، مما دعى أكثر المتدينين بهذا النمط من التدين لصناعة جدار سميك بين شخصيته الحقيقية في باطنه، وبين ما يظهره للخارج من سلوك، وأفضى ذلك إلى انشطار الشخصية إلى كيانين، خارجي لا يشبه الداخلي، وداخلي لا يشبه الخارجي، واصبح هم المتدين إيصال رسالة للجماعة التي ينتمي إليها تعلن تدينه وتقواه وورعه، لذلك تجده يجاهر بكل ما يعمله من صلاة أو قراءة القرآن الكريم، أو مساعدة الفقراء، ومثل هذا التدين نشأ في قصور الخلفاء والسلاطين في عالم الإسلام، ثم تسرب بالتدريج إلى المجتمع.( أن هذا التدين يحتل اليوم وخاصة في المجتمعات العربية مكانة كبيرة جداً، إذ كثر التدين الشكلي بشكل مخيف جداً، وقد أثر هذا التدين على الرؤية المجتمعية للدين).
آثار التدين الشكلي:
ينمي هذا التدين النفاق السلوكي الذي يفرض على كثيرين ارتداء أقنعة تختبئ خلفها الشخصية، و يؤدي إلى ظهور بعض الأمراض النفسية التي تتخذ من التدين غطاء، وتظهر تعبيرات هذه الأمراض النفسية بأشكال متنوعة، فتجدها أحياناً في اللغة وأساليب التعبير والصوت الذي قد يتمثل في نغمة تخدش السمع، أو على شكل تعبيرات في الوجه تثير القرف، أو حركات منفرة في لغة الجسد، أو أنماطاً عنيفة في التعامل مع الآخر، كما تنحرف الطقوس في التدين الشكلي عن مقاصدها الروحية والأخلاقية، حتى الصلاة قد تتحول أحياناً إلى غاية بذاتها.
منابع التدين الشكلي:
يتغذى التدين الشكلي في مجتمعاتنا من العائلة والمدرسة والعشيرة والمجتمع والسلطة السياسية، كل هذه المؤسسات تتولى تدجين الطبيعة البشرية، وتعمل على تنميطها، فتبث الرعب ببراعة في القلوب، وتسقي العقول والمخيلة أوهاماً خادعة، حتى تودعها في صندوق مقفل، ويتغذى أيضاً من الازدواجية ، إذ يعمل هذا التدين على تغذية وترسيخ الجذور العميقة لانشطار الشخص إلى كيانين، كيان باطني يعبر عنه كما هو في ذاته، وكيان ظاهري يحاكي ما يحقق له حضوراً ومكانة مجتمعية، وهذا الكيان لا يعبر عنه إلا بالشكل الذي يريده الناس، لذلك يفرض عليه ارتداء أقنعة تختبئ خلفها شخصيته الباطنية
نتائج التدين الشكلي:
يؤدي هذا التدين إلى كثر النفاق والحيل الفقهية وكثرة الجدل في الدين، والثرثرة في قضايا دينية هامشية، ويؤدي إلى فقر في الحياة الروحية، فهو تدين يعجز عن تذوق جماليات الوجود، وتدين ضد الفنون، وتدين ضد الفرح، ومن النتائج الخطيرة لهذا التدين هو عزوف الشباب عن الدين.( أن هذا الشكل من التدين بدأ ينتشر بكثرة بمواقع التواصل الاجتماعي، ويظهر لنا رجل الدين بشكل غير متزن، مما أدى إلى النظر إلى الدين بنظرة غير مطمئنة، وخاصة أن عالم التواصل الاجتماعي له أثر كبير على المجتمع وخاصة فئة الشباب، فبدأ الكثير من المنتحلين صفة رجل دين بلبس العمامة وعمل دعاية أو اعلانات تجارية، وعمل بعض الأمور التي تخل بالدين).(12)
التدين الرحماني:
يعتقد الرفاعي أن هذا التدين يعني استحضار اسم (الرحمن) في بناء الصلة بالله(جل جلاله)، وتمثل الصورة الرحمانية لله(جل جلاله) في الرؤية التوحيدية للمتدين، وهذا التدين يبدأ بمشاعر عفوية بسيطة تتطور بنمو التجربة الدينية وتراكمها في الحياة الروحية للمتدين، وفي مراتب عليا يمكن أن يصل المتدين بهذا النوع من التدين في سلوكه الروحي إلى مقام لا يرى فيه إلا الرحمن، ولا يعيش صلة أصيلة في الوجود إلا به، وتتجلى له صورة الرحمان في كل فعل وموقف، ولا يصدر عن المتدين إلا الرحمة بالخلق، وعندها تتحول الرحمة المكتسبة إلى مادة لروحه ومقوماً لحقيقته الوجودية، بنحو تكون الرحمة فيه سجية وملكة ثابتة، فيصبح رحيماً لكل من حوله من الناس، بل حتى مختلف الكائنات الحية ، لأن التدين الرحماني مادته محبة الخلق، وهو مرآة تتجلى فيها صورة الرحمن، لذلك تكون الرحمة مقاماً أنطولوجياً سامياً في الحياة الروحية، و تشكل مكوناً لهويته الوجودية، فيتميز بها عن غيره من المتدينين.
ويشير الرفاعي إلى أن التدين الرحماني والتدين الأخلاقي بينهما مشتركات كثيرة ، بمعنى أن الشخص ما دام متديناً أخلاقياً فهو متدين رحماني، وما دام متدينا رحمانياً فهو متدين أخلاقي، لكن المتدين الأخلاقي لا يكون بالضرورة رحمانياً، وإن كان كل متدين رحماني أخلاقي بالضرورة، أي إن بعض الناس ربما يكون أخلاقياً في تدينه وحياته الشخصية، وتعامله مع الغير، غير أن حالة الرحمة لم تصبح مكوناً لهويته الوجودية، لذلك تراه يجسد العدالة والإنصاف في سلوكه وتعامله مع الناس، إلا أنه لا يسمو في بعض المواقف التي تتطلب منه التسامي إلى الرحمة، و المتدين الرحماني يجسد العدالة والإنصاف في سلوكه ومعاملاته المختلفة مع الناس، ومع ذلك يتسامى إلى مرتبة الرحمة، والرحمة لا تفوقها مرتبة لأنها أسمى مراتب الاهتمام بالناس ورعايتهم والتضحية من أجل أمنهم وسلامتهم وسعادتهم.(13)
التدين السياسي:
يعتقد الرفاعي أن هذا الشكل من التدين ظهر منذ تأسيس الإخوان المسلمين سنة 1928، وتعزز حضوره لدى الجماعات الدينية التي نشأت بعد ذلك، وهو تدين مسكون بالسياسة، و يغيب عنه أي أفق روحي وأخلاقي وجمالي للمعنى الديني ، لذلك لا يعبأ هذا التدين كثيراً بالقيم والحياة الروحية، ويحرص على الشكل، ولا يهتم بمضمون الشريعة ومقاصدها، ولقد تفشى هذا الشكل من التدين لدى الجماعات الدينية في نصف القرن الأخير، بعد أن غادروا المرحلة السرية في عهد الأنظمة القمعية، وتخلصوا من بطش الحكام المستبدين، وتفاقم بشكل مخيف بعد وصول هذه الجماعات للسلطة، وينكشف ما هو مضمر في هذا التدين لحظة تستحوذ هذه الجماعات على السلطة، إذ يفتقر تدين بعض رجال السلطة من أتباعها إلى الأخلاق، ويتراجع حضور الحس الديني لدى أكثر من يحتل موقعاً في السلطة، بالشكل الذي يمنعه من تجاوز الحدود التي يسمح بها القانون والأخلاق والشريعة، وبغية الاحتفاظ برصيده الديني في الجماعة التي ينتمي إليها، و يحرص رجل السلطة على تبرير سلوكه ومواقفه من خلال اللجوء إلى الحيل الفقهية، وفتاوى (مجهول المالك)، وكل ما يسوغ له الاستحواذ على المال العام، فيتخذها قناعاً يخفي سلوكه الغير مشروع خلفه، وينتج هذا التدين بيئة لنمو الكراهية، فتكون حدود التسامح فيه ضيقة ، فهو غالباً لا يعرف حق الإنسان في الخطأ، ولم يتكرس في تقاليد التربية في هذا التدين الحق في الاختلاف، لذلك لا يستطيع أغلب الأشخاص الذين يتمسكون بهذا النوع من التدين تحمل أصحاب المعتقدات الأخرى، ويتعذر على كثير منهم العمل مع من يختلف معه في رؤيته للعالم، ويصعب عليهم قبول التفكير الذي لا يتطابق مع تفكيرهم، و يعيش الشباب المنخرطون في هذا التدين حالة توجس من المختلف، بنحو يصاب فيه بعضهم بالشلل النفسي في إدارة علاقاته خارج جماعته.( أن هذا الشكل من التدين في الوقت الراهن يحكم بعض الدول العربية، وقد نتج عن حكمهم خراب المجتمع بكل مجالات حياته، فلم تعد سيادة للدولة، وبدأ المجتمع يعاني من تفكك في أخلاقياته وعروبته، وغاب مفهوم الوطن، وبدأ تظهر بمقابله الطائفة، وحتى الطائفة قسمت إلى عدة مجاميع ومذاهب، أما التربية والتعليم، فأصبحت مجرد ورقة تحصل فيها على وظيفة، والدين أصبح ظاهري وشكلي).(14)
التدين الشعبي:
يعتقد الرفاعي أن التدين الشعبي، هو تدين فطري عفوي، يتوارثه الناس جيلاً بعد جيل منذ عصر الرسالة، وهذا التدين متصالح مع طرائق عيشهم وطبيعة حياتهم، ولا يجدون تناشزاً فيه مع فنونهم الشعبية ، ولا يشكل عبئاً على علاقاتهم بمحيطهم، ولا يفرض عليهم سلوكاً متشدداً في علاقاتهم الاجتماعية بالمختلف في الدين أو المذهب أو الهوية أو الثقافة، و لا يحضر في هذا التدين التدقيق الفقهي ، وفتاوى الاحتياط بالجمع بين الحكم الترخيصي والأصلي، مثل الجمع بين القصر والتمام والصوم والقضاء في السفر، فهو تدين لا يعرف التشدد والمبالغة في الاحتياط، إذ يؤدي المتدين فيه الصلاة والصوم والفرائض المتفاعلة مع الثقافة المحلية، و حدود التسامح في هذا النمط من التدين، ليست ضيقة في التعامل مع المختلف في الدين والمعتقد والمذهب.
يرى الرفاعي أن هذا التدين طالما وقع ضحية للجهل، وافترسته الخرافة، لأن الأمية والفقر والمرض لا تغادر مواطن الجماعات الشعبية في القرى والأرياف والأحياء الفقيرة وأحزمة البؤس في المدن، وهذه العوامل تمثل بيئة خصبة لظهور الخرافات ، وعلى الرغم من نفحات الروح الرحيمة في هذا التدين وحضور الأخلاقيات، لكن يلتبس أحياناً في هذا التدين ما هو أخلاقي بما هو شكلي، ويصعب على الناس التمييز بين الديني والدنيوي والمقدس وغيره، لذلك تتسع دائرة المقدس باستمرار، لتستوعب غير المقدس وتدمجه في فضائها.(15)
التدين الشعبوي:
يشير الرفاعي إلى أن هذا التدين هو نمط تدين شكلي ذرائعي، يظهر في مختلف الأديان، لكنه ينشط كلما تبلد العقل أكثر، واشتد تزييف الوعي، بعد أن يحدث انزياح للتدين عن مجاله، وترحيل لوظيفته، فبدلاً من توظيف الدين في بناء الحياة الروحية، وإيقاظ الضمير الأخلاقي، تصبح الشعائر المفتعلة، لأغراض لا صلة لها بوظيفة الدين الروحية والأخلاقية، وتنضب فيه الطاقة الروحية، وعادة ما يتحول إلى سلعة يتداولها الأفراد لامتلاك رصيد يعلي من مكانة ودور الفرد في الجماعة، وترسخ بواسطته المؤسسات حضورها المجتمعي، لذلك يدخل سوق مزايدات مبتذلة أحياناً، و الشخص الذي يبحث عن دور ومكانة في الجماعة لابد أن ينخرط في مهرجانات الشعائر، فكلما كان حضوره فيها أكثر صار أكثر تديناً، على وفق معايير السوق الدينية لهذا التدين، واكتسب بذلك مكانة استثنائية عند الجمهور، ووجاهة اجتماعية مرموقة، ومقاماً دينياً رفيعاً.
تساعد بعض السلطات السياسية وبعض المؤسسات الدينية في تكريس التدين الشعبوي، واستغلاله لأغراض على الضد من وظيفة الدين الحقيقية، فيتخذ التدين وسيلة للاستحواذ على السلطة والثروة، فهو ضرب من تنويم العقل وتفشي الجهل الذي يتخذ من الدين غطاء، لذلك تتشوه فيه براءة الروح، ولا تتجلى فيه عفوية وطهارة النمط الفطري للتدين الشعبي، وعادة لا يخلو التدين الشعبوي من افتعال يتولاه دجالون يضللون الناس لغايات غير سامية، ويمتلكون وسائل بارعة في تجييش مشاعر الناس، وإذكاء انفعالاتهم النفسية، والإفراط في استغلال المقدس لتغذية هذه الانفعالات وتفجيرها متى شاءوا.(16)
الهوامش:
1_ ينظر محمد خاتمي: الدين في العالم المعاصر، ترجمة حيدر نجف ضمن كتاب تمهيد لدراسة فلسفة الدين، إعداد وتحرير عبدالجبار الرفاعي، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ط1، 2014، ص237_238.
2_ ينظر عبدالجبار الرفاعي: الدين والنزعة الإنسانية، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ط3، 2018، ص190_191.
3_ ينظر عبدالجبار الرفاعي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ط2، 2019، ص50.
4_ ينظر المصدر نفسه، ص113_114.
5_ ينظر عبدالجبار الرفاعي: الدين والظمأ الأنطولوجي، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، ط3، 2018، ص148_149_150.
6_ينظر المصدر نفسه، ص143_146.ينظر أيضاً عبدالجبار الرفاعي: التجربة الدينية والظمأ الأنطولوجي، ضمن مجلة قضايا إسلامية معاصرة، الهرمينوطيقا والمناهج الحديثة في تفسير النصوص الدينية،(4)، العددان (61_62)، مركز دراسات فلسفة الدين، بغداد، 2015، ص365.
7_ ينظر عبدالجبار الرفاعي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص72.
8_ ينظر مرسيا الياد: المقدس والعادي، ترجمة عادل العوا، دار التنوير، بيروت، ص_37_38_39. وينظر أيضاً فهمي جدعان: المقدس والحرية(وابحاث ومقالات أخرى من أطياف الحداثة ومقاصد التحديث)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ص22_23. وينظر أيضاً روجيه كايوا: الإنسان والمقدس، ترجمة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ص10_11.
9_ ينظر عبدالجبار الرفاعي: الدين والنزعة الإنسانية، ص45_46_47.
10_ينظر المصدر نفسه، ص190_191.
11_ ينظر عبدالجبار الرفاعي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص114_115.
12_ينظر المصدر نفسه، ص115إلى ص125.
13_ ينظر عبدالجبار الرفاعي: التدين الرحماني، بحث منشور على شبكة الأنترنيت، موقع الحوار المتمدن، 2019.
14_ينظر عبدالجبار الرفاعي: التدين الشعبي والتدين الشعبوي، بحث منشور على شبكة الأنترنيت، موقع الحوار المتمدن، 2019.
15_ينظر المصدر نفسه، وأيضاً ينظر عبدالجبار الرفاعي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص125.
16_ ينظر عبدالجبار الرفاعي: الدين والاغتراب الميتافيزيقي، ص125. وأيضاً عبدالجبار الرفاعي: التدين الشعبي والتدين الشعبوي.



#حيدر_جواد_السهلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موقف عبدالجبار الرفاعي من التربية
- موقف عبدالجبار الرفاعي من الاستبداد
- الدولة في فكر عبدالجبار الرفاعي
- عبدالجبار الرفاعي سيرة وفكر
- البرلمان في فلسفة جون ستيوارت مل السياسية
- مفكر بعقل فقيه، ماجد الغرباوي
- بيل جيتس
- فلسفة الثورة عند سيد الشهداء الحسين بن علي(ع)
- الطبيب الثائر، جيفارا
- زها حديد وفن العمارة التفكيكي
- دجلة
- العمل التطوعي ، الثقافة الغائبة
- ظاهرة التفاهة
- المنطق عند جوزايا رويس
- مفهوم الولاء عند جوزايا رويس
- مفهوم البطل عند توماس كارليل
- فلسفة العلم واللاعلم عند كارل بوبر
- مفهوم الإرهاب
- مفهوم الاستبداد
- حفار اليقينيات عبدالرزاق الجبران


المزيد.....




- السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
- الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
- معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
- طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
- أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا ...
- في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
- طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس ...
- السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا ...
- قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
- لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حيدر جواد السهلاني - الدين والتدين في فكر عبدالجبار الرفاعي