نبيل حاجي نائف
الحوار المتمدن-العدد: 1671 - 2006 / 9 / 12 - 09:29
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
وظيفة المحاكاة عند الإنسان عند جاك مونو
يقول جاك مونو " إن النمو الشد يد لوظيفة المحاكاة واستخدامها المكثف هما ما يميز كما أرى الخصائص الوحيدة لدماغ الإنسان . وذلك على أعمق مستوى للوظائف الإدراكية الذي ترتكز عليه اللغة , والذي لا تعبر عنه إلا جزئياً , ومع ذلك فهذه الوظيفة ليست محصورة بالإنسان , فالكلب الذي يبدي فرحه عند مشاهدة سيده يتهيأ للنزهة يتصور حتماً . أي يستبق محاكاة الاكتشافات التي سيقوم بها , والمغامرات التي تنتظره , والمخاوف اللذيذة التي ستنتابه د ون أي خطر بفضل الوجود المطمئن لسيده , ثم فيما بعد إعادة محاكاة كل ذلك في الحلم . عند الحيوان كما عند الإنسان غير الراشد لا تبدو المحاكاة الذاتية منفصلة عن النشاط العصبي الحركي إلا جزئياً , وتظهر ممارستها باللعب .
أما عند الإنسان الراشد فالمحاكاة الذاتية تصبح بالدرجة الأولى الوظيفة العليا وظيفة الخلق , إنها هي التي تنعكس بالواقع الرمزي للغة والتي يعبر عنها بنقل عملياتها واختصارها . من هذا الواقع الذي ركز عليه شومسكي في أن اللغة حتى في استعمالاتها المتواضعة هي في الغالب محدودة , وذلك أنها تنقل تجربة ذاتية واختلاقاً خاصاً وجديداً بشكل دائم . بهذا أيضاً تختلف اللغة البشرية جذ رياً عن الاتصال الحيواني , فهذا الأخير يقتصر على صرخات أو تنبيهات تقابل عدداً معيناً من الأوضاع المحسوسة المقبولة , فأشد الحيوانات ذكاء أي القادر على المحاكاة الذاتية على شيء من الدقة لا يملك أية طريقة لتحرير وعيه سوى الإشارة بشكل دائم في الاتجاه الذي تتحرك مخيلته , أما الإنسان فإنه يستطيع الحديث عن تجاربه الذاتية , وهكذا فإن التجربة الجديدة أي اللقاء الخلاق لا يند ثر مع ذلك الذي اختلقه للمرة الأولى . إن النمو الشد يد للمحاكاة عند الإنسان هو نتيجة تطور قامت خلاله عملية الانتقاء باختيار فاعلية هذه الصيرورة وقيمة بقائها , وذلك من خلال النشاط الملموس المهيأ من قبل التجربة الخيالية .. إنها إذاً القدرة على التصور الملائم وعلى التكهن الصحيح المؤيد بالتجربة الملموسة التي دفعت بمقدرة المحاكاة للجهاز العصبي المركزي عند أجدادنا إلى المرحلة التي وصلت إليها عند الإنسان العاقل .. إن جهاز المحاكاة الذاتية كان عليه ألا يخطئ عند ما كان الأمر يتعلق بصيد النمر بالأسلحة التي كانت بتصرف الإنسان الجنوبي (إنسان القرد ) أو حتى الإنسان العاقل ( كروماتيون ) ولهذا فإن المنطقية الخلقية الموروثة عن أسلافنا لاتخدعنا وهي تسمح لنا بأن نفهم أحداث الكون , أي أن نضعها بلغة رمزية , وأن نتوقعها شريطة أن يزودنا جهاز المحاكاة بعناصر الإعلام الضرورية .
إن جهاز المحاكاة أداة التوقع التي تزداد غنى د ون انقطاع من نتائج تجاربها الخاصة هو أداة الاكتشاف والخلق , وتحليل منطق أدائه الذاتي هو الذي سمح بوضع قواعد المنطق الموضوعي , وبخلق أد وات رمزية جديدة كالرياضيات , إن المفكرين الكبار قد دهشوا من أن الكائنات الرياضية التي كونها الإنسان تمثل الطبيعة بهذه الدقة بينما لا تمت إلى التجربة بصلة .
وفي الواقع أنه لاشيء يعود للتجربة الفردية المحسوسة , بل كل شيء يعود لمزايا جهاز المحاكاة الذي نحتته التجارب العديدة والقاسية لأسلافنا . إن مقابلتنا المنهجية بين المنطق والتجربة حسب الطريقة العلمية هي في الواقع مقابلة بين كل هؤلاء الأسلاف والتجربة الحالية .
إذا كنا نستطيع التكهن بوجود هذه الأداة الرائعة , وإذا كنا نستطيع ترجمة عملياتها بواسطة اللغة , فإنه ليس لدينا أية فكرة عن أدائها أو بنيتها . ويبقى تحليل اللغة الذي لا يكشف صيرورة المحاكاة إلا من خلا ل تحولات غير معروفة ولا يظهر أبداً جميع عملياتها " .
المحاكاة والتقليد عند البشر .
نحن كبشر نعتمد على ما هو منتشر بيننا كأساس فيما نتبنى من أفكار وعادات وقيم ومعارف و نقاوم كل ما يستدعي تغيير ما تبنيناه , فالمحافظة وممانعة تغيير مبادئنا المعتمدة هما أساس تصرفاتنا , ولا نقوم بتعديل أو تبديل أي منها إلا بصعوبة وببطء وبالتدريج ونادراً ما نتقبل التغير السريع , وهذه الممانعة أو العطالة لها ما يبررها ويستدعيها في الواقع .
كلنا مقلدون وكلنا محافظون نقاوم التغيير وأمثلة على ذلك :
أثناء دراستي في مجال الإلكترونيات درست الصمامات المفرغة وعملها في الدارات الإلكترونية وتعاملت معها بفهم وفاعلية واستطعت أن أفهم بوضوح كافة أعمالها المتنوعة , من تكبير, وطنين, وكشف, ومزج ..... ففهمت بشكل جيد كيف يعمل الراديو والتلفزيون والرادار والكثير من الأجهزة الإلكترونية التي تستعمل فيها الصمامات , ولكن عندما فرض علي تعلم الترانزيستور , ثم الدارات الحديثة , واستبدلت الصمامات بالترنزيستورات , لم يستطع فكري تقبل هذا التغير , فظللت أقاوم بطريقة شعورية ولا شعورية , التعامل معها . ولم أفهمها جيداً , وإذا فهمتها أعود وأنسى , ولا أتبنى ما فهمته . لقد كرهت الالكترونيات والتعامل معها لأنها تصنع من الترنزيستورات , مع أن الفرق بينهما صغير , وكل ما يلزم تطوير الأسس بشكل بسيط , ولكن هذا صعب علي . وكان هناك رفض آخر للتغير وهو : لقد تعلمت التعامل بالرموز الرياضية العربية (س.ع.ص.ا.ج.د .......) أثناء دراستي الثانوية , وعندما ااستبدلت هذه الرموز برموز أجنبية في الجامعة , لم أستطع التعامل معها بفاعلية , وضعفت قدراتي في الرياضيات قليلاً نتيجةً لذلك , وكنت أحول الرموز الأجنبية إلى رموز عربية وأحل المسائل, ثم أعود وأحولها إلى الأجنبي .
الذي أريد قوله : إننا في كل أسس تفكيرنا وتعاملنا مع الأفكار نستعمل مناهج وآليات محددة اكتسبناها وتعودنا عليها , ويصعب علينا تغييرها حتى وإن كنا مقتنعين بأفضلية وضرورة هذا التغيير , فهذا التغيير يكون صعباً علينا , وكثيرا ًما نلجأ لتبرير ذلك بشتى الطرق المنطقية وغير المنطقية , والموضوعية وغير الموضوعية .
إن هذه الصعوبة لها أسسها في بنية جهازنا العصبي , وفي آلية عمله , ونموه وتناميه , فكل تعلم يتم نتيجة إشراطات معينة جديدة , وأي إلغاء أو تعديل لهذه الإشراطات التي تم إكتسابها (بناؤها) غير ممكن إلا بتعلم (إشراط) جديد فوق الإشراطات السابقة , ويكون هذا على شكل نمو محاور ومشابك للخلايا العصبية وبالإضافة لآليات أخرى كهربائية و كيميائية مساعدة , وأي محاولة تعلم جديدة (في نفس المجال) سوف تصطدم بما هو موجود سابقاً , و لا يمكن إلغاء المحاورأو المشابك العصبية التي تم بناؤها ويجب البناء فوقها . فتعديل الأفكار والعادات التي تم اكتسابها ( وخاصةً إذا كان التعلم قوي وثابت)لا يمكن أن يحدث بسهولة مثلما يحدث هدم بناء قديم وإقامة بناء حديث مكانه , إن كل ما يتم اكتسابه وتعلمه لا يمكن إزالته نهائياً فسوف يبقى ويجري التعديل عليه فقط , ضمن حدود معينة , أو يبنى فوقه . فالتعلم لطريقة تصرف أو تفكير جديدة صعب وليس مستحيلاً , و يحتاج إلى مجهود وممارسة أكثر من التعلم الأولي الذي تم بناؤه عندما كان الدماغ شاغراً.
إن هذا يحدث شبيه له في المجتمعات أثناء تطورها وتغيرها, وتشكل البنيات الاجتماعية الجديدة , فالتغيير الجذري ليس بالأمر السهل وهو قليل جداً , فهو لا يحدث ألا بالتسلسل وأثناء النمو ونتيجة التغير التدريجي للأوضاع , وفي كل جيل جديد هناك إمكانية متاحة للتغيير في العادات والأفكار, ويمكن أن تحدث تغيرات سريعة في البنيات الاجتماعية , ولكن ضمن حدود معينة تسمح بها الأوضاع .
أما في التغير الجذري أو السريع للبنيات الصناعية والتكنولوجية والعمرانية فيكون أسهل بكثير , ويمكن أن يحدث بسهولة في هذه المجالات .
إذاً في المجال العصبي والفكري والنفسي وكذلك الاجتماعي لا يمكن إزالة القديم وإحلال الحديث محله , فالتغيير يجب أن يتم مع بقاء القديم , وذلك إما بالإضافة عليه أو تعديله بما يسمح الوضع .
إننا الآن بلغنا مرحلة صار التطور والتغير في مناح كثير من حياتنا سريعين جداً وأسرع من قدراتنا البيولوجية والاجتماعية على تحمله واستيعابه والتعامل معه بكفاءة , وهذا ينتج قوى تسعى إلى تعديل الأسس البيولوجية والاجتماعية والفكرية لكي تتماشى معه , ولكن الأسس البيولوجية والعصبية والنفسية يستحيل تعديلها بسرعة , نعم هناك القليلون جداً ممن يملكون القدرة العصبية والنفسية على مجارات هذا الوضع , وهؤلاء سيفرضون بالتدريج تأثيراتهم الفكرية والاجتماعية على الآخرين , ويجعلون بعضهم يحاكونهم ويقلدونهم . والمحافظون سوف يتعرضون لضغوط كبيرة ويصبحون من ثم أقلية, وسوف تنتشر أفكار وعادات ومبادئ المجددين , وهذا راجع ليس لأن المجددين أفضل , فالأفضلية نسبية( وتابعة لمرجع التقييم) بل لأن تسارع التغيرات والتطورات الحاصلة للمجتمعات البشرية وما نتج عنها صار يستوجب التجديد السريع .
إن غالبية الأفراد تعتبر أن كل شيء قد عرف وعين وحدد , وخاصةً الأسس. فالحقيقة واضحة , والحق واضح , والباطل واضح , وكذلك الخير والشر , وكافة المعارف والقيم الأساسية تمت معرفتها بشكل تام وفي كافة المجالات .
فكل شيء محدد ومعروف وتم اعتماده ولا يلزم سوى (المحاكاة والتقليد ) بتنفيذه والتقيد به .إن هذا يناسب الأوضاع المستقرة الثابتة ويحقق المطلوب بأفضل طريقة , وهذا ما جعل التقليد والنسخ منتشر في المجالات التي لاتخضع للتغير والتبديل , وكان التجديد عندها يقاوم لأنه عبث ولعب غير مجد , ولكن الآن وبتغير الأوضاع , وفي مجالات متزايدة , لم يعد كاف ومجد التقيد بالتقليد والنسخ والمحافظة على الأسس (إن كانت عملية أو معرفية أو قيمية), وهذا ما لم يقبل به الكثيرون , لأن هز الأسس أو تعديلها أو تبديلها ليس بالأمر البسيط ويقاوم عملياً,أو نفسياً,أو فكرياً, وتعديل أو تغيير القواعد والأنظمة والأسس له نتائجه الكبيرة .
التقليد و المحاكاة وعلاقتهما بالأنظمة والقوانين
يمكن أن نعتبر المحاكاة والتقليد والنسخ هم نقيض اللعب , فالبنيات المنتظمة والمتشابهة لا يمكن أن تتشكل أو تستمر إلا بالمحاكاة والنسخ سواء كانت بنية حية أو بنية تكنولوجية , وكذلك التعليم ونقل المعارف يعتمد بشكل أساسي على النسخ والمحاكاة فالمدارس والجامعات وما شابهها تعتمد بشكل أساسي النسخ والتكرار والمحاكاة من حيث المناهج وطرق التدريس والاختبارات والامتحانات .. , وكذلك العلاقات الاجتماعية, والتجارية , والقانونية .. لا يمكن أن تنتظم وتستمر إلا بالنسخ والتكرار والمحاكاة - دون اللعب والفوضى- .
فالمحاكاة أساس الانتظام والتوحيد والقوانين , فيجب أن ينتهي اللعب عند الوصول إلى أفضل الأوضاع - أي التوازنات- وعندها تعتمد الخيارات التي أدت إلى ذلك ويبدأ بتقليدها ونسخها وتكرارها دون تغيير , إلى أن تتغير الأوضاع فتستدعي التغيير للحصول على توازنات جديدة فعندها يبدأ اللعب من جديد .
إذاً اللعب ضروري ولابد منه في أول الأمر , فالتجارب والاختبارات والتغيير , والمقارنات والتقييمات تكون الأساس في أول الأمر . ولكن بعد التوصل للمناسب أو للمطلوب أو للتوازن يتم اعتماده ويتوقف اللعب ويبدأ دور المحاكاة والنسخ والتوحيد والانتظام ضمن خيارات محددة معينة ثابتة . وهذا هو الجد الذي هو عكس اللعب فدور اللعب ووظيفته واضحة , وكذلك دور المحاكاة والنسخ واضح , فهناك مجالات و أوضاع يكون اللعب فيها مطلوباً أكثر (كما في الفنون كافة) وهناك مجالات أوضاع يكون المطلوب فيها المحاكاة والتكرار أكثر كما في الصناعة والتجارة والعلاقات الاجتماعية , فاللعب شبه محرم وخاصة في مجال القوانين .
لننظر إلى بنية الحياة أين تلعب وأين تقلد وتنسخ , إنها في عملية التوالد تعتمد المحاكاة والنسخ بشكل أساسي وبدقة عالية , وتدع جزءاً صغيراً للعب والعشواء - الطفرات وغيرها- و الاختيار – وهذا ما يسمح بالتطور - وهي تلعب في حياة كل كائن حي .
ولننظر إلى الإنسان أثناء حياته إنه يعتمد اللعب بشكل أساسي في بداية حياته , ثم تبدأ المحاكاة و يتناقص اللعب , بعكس الحشرات التي تعتمد المحاكاة - المبرمجة وراثيا- أكثر من اللعب في تصرفاتها أثناء حياتها.
وتطور الكائنات الحية كان باتجاه تزايد مجالات اللعب مع بقاء المحاكاة والتقليد والنسخ في المجالات الهامة والضرورية, فالغرائز والانفعالات هي مثال على المحاكاة والنسخ المبرمج المتوارث, وكذلك العادات والتقاليد واللغة هم مثال على المحاكاة والنسخ الاجتماعي.
إن التقليد والمحاكاة في حياتنا أكبر مما نتصور بكثير, فكما تكتسب اللغة بالمحاكاة والتقليد , كذلك تكتسب أيضاً بالتقليد والمحاكاة أغلب تصرفاتنا وعاداتنا وأفكارنا وعقائدنا. فالمحاكاة تشمل كافة مناحي عمل فكرنا الواعي وغير الواعي, فانتشار العادات والتقليد والعقائد والأديان... وحدوث ما يشبه توارثها ناشئ عن المحاكاة والتقليد
#نبيل_حاجي_نائف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟