|
الربيع
عبدالله رحيل
الحوار المتمدن-العدد: 7216 - 2022 / 4 / 12 - 00:16
المحور:
الادب والفن
الطّبيعة أمٌّ رَؤوم للمخلوقات كافة، والإنسان يُغرم بها، ويعشق مظاهرها، وإن قست عليه أحياناً فهي قسوة الوالدة المشفقة، في قسوتها الرّحمة، وفيها الخِصبُ والعطاء والحبّ، وفيها وسائله وطُرقه في الوصول إلى غايات، ومواطن نفسه التوَّاقة إلى التواصل، والاندماج في مظاهرها، ففيها ما يُثير نفسه نحو مفاهيم إيجابية في التعامل مع الإنسان الخلاّق المَشبوب بالعاطفة. ولقد هام الإنسان بجمالها، وبصفاء سمائها، وأعجب بأشجارها، وبأنهارها، وترنّم على نُوح وُرْقِها، وتغريد أطيارها، وتلاطم أمواج بحارها، وخرير مياه أنهارها الجارية، وأزهارها وورودها الملوّنة، والعَطِرة، وزهو ألوانها، وأشكالها، فجادت قريحته بالخالد من القول، والرّائع من الفنّ في مجالي الطّبيعة، الطّبيعة الصّائتة، والطّبيعة الصّامتة، فمن هذا التّمازج الجماليّ كلّه، والتعدّد الكثيف للصور في مرأى عين الفرد العاشق للجمال، والمستوطنة فيه لغة الوصف والوجد، وفي انعكاساتها لما يهوى، ويحبّ، فقد انعكست نفسه الجليلة، على من يترافق معه ويحيا، بتصرفات ملموسة مادية، وبمعانٍ يرسمها بحروف جمال الطبيعة، يُسمِعها للنّاس وللأحبّة، تراتيلَ عشقٍ وغرام، وقصائد مُزجت بألوان نفسه، وبتناقضاتها المختلفة، كتناقض أحوال الطبيعة، فهما، الطبيعة، والإنسان، ضاحكان طروبان في المسرّات والحبور، وهما الباكيان والحزنى في الألم والشدّة، وهذا يتناثر هنا وهناك خلف أشعار حِيكت، قلَّ نظيرها في إبداع الطبيعة الفريد . فتخدمنا الّلغة كثيرا، وتتفاضل بين أعيننا الكلمات، وتثور في أحاسيسنا التراكيب، حانية قلبها لنا، في اختيارات معبرة ملائمة صامتة، والأحداث والحكايا من حولنا مكتظة بأزمات اختياراتنا المتعدّدة، فتحوم حولنا أفكارنا العتيدة الّلطيفة، وأحيانا أفكار أعيننا الجميلة، لنقطف جملا تحاكي لمسات قلوبنا الحانية الودودة، فنعتصر الفكر بقالب قلوبنا، وأقلامنا السّاحرة المنمّقة، فتثور فينا الذّكريات العميقة السّحيقة الغابرة، نحذف بعضها، ونلمُّ شُعْثَ بعضها، فنوردها حبّاً قد رَوِيْنَ بكلمات فيها الأسى حينا، وفي بعضها كِسَرُ الاعتذار حينا آخر، لتُلاطف قلوباً، سَئِمت نفاق الورى، وتملّق الآسِنين. من هذا كلِّه يتبدّى الرّبيع من فوّهة ثورة الطّبيعة الخلاّقة، فيخلق فينا عناصر الودّ والحبّ، والشّعور النّبيل، فتسمو نفوسنا من عبق الورود والأزاهير، الّتي اعتنت بألوانها، وبمختلف عطورها، لعلّها تجد فينا نسيان الماضي الأليم، وتدفعنا إلى تغيير سلوكنا، كتغيير الطبيعة سلوكها وعادتها، وكتموج الوديان في الانقلاب الربيعي، الذي أسْبته برد الشّتاء، ولعلّنا ننزع من متون صدورنا غلّ ريح صراع الطّبيعة حين تثور شتاءاتنا القارسة. هي الحياة المتغيّرة، بطبيعتها تُغيّر الكون في آذار، وتثمر حبّا وتواصلا، واتفاقا في نيسان، حتّى نجود بمزج قلوبنا واجترار لما حلّ وتراكم في عقولنا، لنكرم من حولنا بعطور أزهار الربيع، وورود لحن الحياة، لأصحاب قد هجروا ونُسوا، لأولاد مغادرين الدّنيا منذ حين، لأمهات ولدْنَ الحياة فينا، قد هُجرت منذ سنين، لإخوة وأخوات قد شُغلنا عنهم بعربات قطار السّعيّ وراء الحياة. فالحياة لكم تقول: احملوا الورود في سَيركم، وفي حلّكم وفي ترحالكم، لعلّكم تُصادفون مَنْ يستحقها، ويحيا قلبه بعطرها، ويتلمّس في آذار إنسانيتكم، ولتورد حياته من جديد، فمن جمال الخلق، ومن سحر الطّبيعة المنمّق، تعدّدت الورود والأزاهير، فكأنّها تعدّدت بألوان نفوس البشر، فمنه البرتقالي، والأصفر، والأحمر، والبنفسجي، والأسود، والأبيض، هذه هي ألوان نفوس البشر فمنها الغيورة، والمحبّة، والعاشقة، والمتذبذبة، والحالكة في السواد، والحنونة، واللطيفة، والعَطِرة، فخذوا وردة تناسب نفوسكم، واهدوها مَن تحبّون، فلعلّه ينتظر منكم بعض الأمل في عيش كريم، أو في نسيان ماض قد آلمه، وكَثُر العتب فيه. فوق غصنٍ أخضرَ طويلٍ، تفتحت أوراقها في الصباح، وتمايلت براعمها في هبوب نسيم الأمل والحب، تاركة وراءها آلام الخريف، وتجريد الشتاء، وقد طَرب لمرآها بلبل غَرِدٌ، فراح يملأ الوادي والجبال لحنا، يطرق شغاف قلوبنا، فتثور حبا لبعضها، ويندى الزمان فيها والمكان، ليختلط عطرها بدمائنا، وتعتلج نفوسنا بالغرام، لمرآها باسمة فوق وريقاتها الخضر، ابتسمت فتاة، وطربت، ونسيت أمهات جور الأبناء، وتغافل الأصحاب عن فراق ونُبذ، وتعالت أصوات المحبّة في السماء، ونسي المرضى مآسيهم، ونامت الطفولة في دفء الأسرة، فما أحرانا أن نتلون بألوان الزهر والورد! لننقل الحياة إلى محطات المحبة والقبول، ونصير حدائق ورد خالدة تعج بعبقها الحياة، وفي تمايل النسيم نرقص فرحين متآخين، الكل منا يعشق الكل في سيرورة الزمان الطويل. فالأرض قد نشرت فرشها، ومدت رداءها، ولبست زينتها، وبرز الوردُ من أكمامه، واهتَّز الروض لتغريد حمامه، والأشجار قد فاض شعورها، وتمايلت رؤوسها، والدنيا قد أبدت بِشرها، وأماطتْ عبوسها، وكأنّ بها قد أطّلعتْ من كلّ ثَمَرِ ضروبًا، وأبدت من جناها منظرًا عجيباً، فهذا فصل ضُرِبَتْ فيه مِيزات البهاء، وأعرست الأرض فيه بالسماء، فالغُصن يتلوَّى ويتثَّنى، والحمامة تُرجَّع وتتغنّى، والماء يرْقص من طربٍ ويُصَفِّق، والورد فيه متنوّع عبق، فمنه كتوريد الخدود، ونرجس كمقل الغيد، وأوراق أخذت بذلة المحزون، وبنفسج حاكى زرق اليواقيت، حتى لنجد نقط الغيث على ثغور الورد والزهور، لؤلؤاً تناثر في عقده المنضود، فما أجمله لو يلتقط! ونستاف ريحا عليلة اختلطت بماء الورد والعنبر، ولتلك المعاني الساحرة في الربيع، فقد شكلت الورود والأزاهير رمزية في العلاقات الإنسانية عبر الدهور والعصور، فلم تخلُ أمّة من الأمم، دون أن تلفت إلى هذا السّحر، في تضمنين معاني الورد، وألوانه لغةَ بيان صامتة، بليغة معجزة في تودِّد، ونشر محبّةٍ وتدانٍ لعلاقات سامية بين البشر والأحبّة، ولجلالة قدر الورد، ومنزلته المؤثرة في نفوس البشر، ولما له من تقوية العلاقات العاطفية أو الاجتماعية، فقد ورد ذكر الورد في الكتب السماوية، التي نزلت من عليائها تقر شرائع وقوانين الدنيا والبشر، فقد جاء في القرآن الكريم: ( وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ )، وذُكر في الكتاب المقدس (سفر نشيد الأنشاد 2: 12)"الزُّهُورُ ظَهَرَتْ فِي الأَرْضِ. بَلَغَ أَوَانُ الْقَضْبِ، وَصَوْتُ الْيَمَامَةِ سُمِعَ فِي أَرْضِنَا" و(إنجيل متى 7: 16) "مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا"؟ - كما ورد ذكر الريحان في السنة النبوية، فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَن عُرض عليه ريحان، فلا يردّه فإنه خفيف المحمل، طيب الرائحة). أيها الراشفون من عبير الورود، خذوا أمتعتكم من رحيقها، وارحلوا، وانثروا العطر في دروب الخرائب، كي تعود ديارا مؤنسة، وانثروا الأوراق في ساحاتها؛ كي تورق النبت الجليل، ليكون بلسم الربيع، لجراح المدائن خلف زحام الفكر، وبين أروقة الأحداث العديدة، انظروا في حنايا الطبيعة، تجدوا أنفسكم بين وريقاتها وورودها، تتغذى من عذب الماء، ولذيذ الثمر، ومن عطر الزهر، ومن اعتلال النسيم وقت الأصيل، وخذوا زينتكم منها، لترتقي النفوس بالثقة، وتترفع عمّا يخالجها من شرور، لتؤلفوا تباريح الهوى قصائد حبّ لمّن نهوى، ولنزرع قلوبنا بربيع الحب، تاركين وراءنا لحظات المآسي في متون التباعد، الذي أثقل عقولنا بقطع علاقة كنا بين ظهرانيها نحبّ، ونمتّع مَن نحبّ.
#عبدالله_رحيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خلف نافذة صغيرة
-
حديث السنابل
-
ضحك البؤساء
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|