مؤشرات عديدة توحي بأن دول الخليج مقبلة على تغيرات نوعية كبيرة، لا يعنينا الآن الحديث عن أسبابها، أو مقدار تأثرها بالأحداث الكبرى الأخيرة في المنطقة، بقدر ما نحاول إستعراض بعض أبرز مؤشراتها، فالعديد من البوادر تمثل بنظرنا مقدمات هامة في طريق الإصلاح السياسي القادم في الخليج، والأهم أنها خطوة لابد أن تلحقها خطوات أوسع بالضرورة، فهي ليست ثورة مفاجئة بل تغيرات مدروسة بعناية فائقة.
الأبرز من هذه البوادر القدرة على تجاوز الخطاب الإعلامي التقليدي الذي سجنت فيه الآلة الإعلامية الخليجية والعربية، فمنذ فترة طويلة والإعلام الخليجي يتحدث مع الدول العربية بلسان واحد، ولا تكاد كمتتبع أن تستمع إلى رأي خارج المألوف أو مغاير في أي وسيلة عربية، لكن السنوات القليلة الماضية شهدت أكثر من خروج على المألوف فالجزيرة كقناة كسرت صمتا رهيبا في المنطقة الخليجية، وطرقت لأول مرة أبواب الحديث في أمور كانت تعتبر محرمة، وفي الفترة الأخيرة كسر الإعلام الكويتي حاجزا إضافيا بتبنيه خطاب مختلف عن الخطاب العربي ككل، فبينما غرق الإعلام العربي بشعارات القومية، حاول الإعلام الكويتي أن يفتح طريقا آخر بدعم الحرب وإتاحة فرصة نادرة للمعارضة العراقية للتعبير عن همومها وتطلعاتها، وبغض النظر عن موقفنا المؤيد أو المعارض فإنه يظل إعلام مختلف ينبئ بتحولات قادمة ليس على صعيد الإعلام الكويتي فحسب بل والإعلام الخليجي ككل.
فقد بدت بوادر الحوار في الآونة الأخيرة أكثر سعة في العديد من الدول الخليجية، ففي مقال مليء بالجرأة تحدث الكاتب السعودي المعروف قينان الغامدي في صحيفة الوطن السعودية بصراحة أن سبب الثغرات في جسد الأمة هي الدول الحاكمة التي كانت تقدم فئة على أخرى ولا تنظر إلى رعاياها من المسلمين نظرة واحدة في تعاملها معهم. ولفت إلى واقع الشيعة قائلا : أنهم في معظم الأوطان العربية يعيشون كمواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة، منوّهاً إلى أن هذا فوق كونه يتناقض مع فكرة إقامة الدول، فإنه يهيئ الأرضيات لوجود الثغرات التي يلج منها أعداء الأمة.
كما تحدث الشيخ حسن الصفار وهو أحد علماء الدين في السعودية عن الفرص غير المتاحة للشيعة ولبقية الإتجاهات في وسائل الإعلام المحلية، وضرورة أن تتاح الفرصة لجميع المواطنين بمختلف إتجاهاتهم لأن يعبروا عن آرائهم بحرية وإعتبره السبيل لخدمة الوحدة الوطنية، نافيا وجود جهات في المملكة تفكر أو تعمل على الإنفصال أو تقسيم المملكة، وأن التمييز الطائفي أو المناطقي وحده الذي يمكن أن يستغله من يريد تغذية هذه التوجهات.
ومن المعروف أن ولي العهد السعودي الأمير عبدالله إستقبل قبل مدة مجموعة من المفكرين في خطوة لافتة دللت عند البعض على رغبة رسمية وإتجاه إصلاحي قادم، لاسيما وأن العريضة المرفوعة من قبلهم إشتملت على المطالبة بإجراء إصلاح دستوري، وتطوير النظام الأساسي للحكم، وضرورة الفصل بين السلطات، وإقامة سلطة تشريعية منتخبة من الشعب، إضافة إلى إصلاح القضاء، وإقامة مؤسسات المجتمع المدني ونشر ثقافة التسامح، والتأكيد على حرية التعبير .
وفي بادرة شيعية رفع عدد من الشخصيات السعودية ورقة بعنوان " شركاء في الوطن" لولي العهد السعودي، ضمّنوها مطالبهم برفع كافة أشكال التمييز الطائفي، وضرورة النظر إلى أبناء المناطق الشيعية كمواطنين لهم ما لغيرهم من حقوق وعليهم ما على غيرهم من واجبات و تحقيق المساواة بين المواطنين علي اختلاف مناطقهم ومذاهبهم. كما دعوا إلى تشكيل لجنة وطنية عاجلة ذات صلاحية بمشاركة عناصر مؤهلة من الشيعة للنظر في واقع التمييز الطائفي ومعالجته بتمثيل المواطنين الشيعة في المناصب العليا للبلاد كمجلس الوزراء، ووكلاء الوزارات، والتمثيل الدبلوماسي، والأجهزة العسكرية والأمنية، ورفع نسبة مشاركتهم في مجلس الشورى. وتجريم وإدانة أي ممارسة للتمييز الطائفي قد تصدر من بعض المغرضين والمنتفعين، ووقف كافة الإجراءات الأمنية التي لا تستند علي قانون كالاعتقال والمتابعة والاستجوابات والمنع من السفر والتوقيف عند الحدود والتفتيش الشخصي بما يرافقه من إهانات، والعمل علي إزالة آثار الإعتقالات السابقة، وإنهاء كل أشكال الكراهية والبغضاء القائمة علي بعض التوجهات المذهبية.
أما في البحرين فقد أشهرت عدد من الجمعيات السياسية عن نفسها رسميا، ووضعت دستوراً ورؤية لحاضر البلاد ومستقبلها، ويعد إشهار الجمعيات في البحرين خطوة هامة في إتجاه الإعتراف بالأحزاب السياسية في الخليج، واعتبارها حلقة وصل، تربط بين المصالح المباشرة للمجموعات والجماعات المختلفة في أي مجتمع وبين السلطة الموجودة فيه.
ويهتم المراقبون بقضية المرأة كدلالة على مدى التطور وحقيقته في أي مجتمع من المجتمعات ربما لقول سان فورييه "تحرر المرأة هو مقياس تحرر المجتمعات البشرية" وفي هذا الموضوع لم يحصل تقدم نوعي في المجتمعات الخليجية، لكن ثمة بوادر ومؤشرات جديرة بالنظر مثل السماح بدور سياسي للمرأة في قطر والبحرين والإمارات، والتوجه الأخير نحو السماح بإصدار هوية للنساء في السعودية، والقرار الهام بدمج تعليم البنات ضمن التعليم العام بعد أن كانت المؤسسة الدينية السلفية مهيمنة على تعليم البنات ومؤسساته.
المعارضة السياسية في الخليج كما السلطة تتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية في تأخير عملية التغيير، فآخر المعارضات الفاعلة تضاءلت قوتها ووجودها منذ الثمانينات، ومع بداية التسعينات لم يتبق من المعارضات السياسية الخليجية سوى أسماء ورموز دينية وسياسية، فالتيار الشيعي لايزال يعاني من التحولات السياسية من التأثر بالمد الثوري الإيراني أو المعارض العراقي إلى ضرورة العمل السياسي الداخلي السلمي، ورغم أن حركته الفكرية مبشرة ومتصاعدة في بعض المناطق إلا أنها نائمة أو مضطربة في مناطق أخرى، وهو ما يتطلب المزيد من الجهد لبلورة خطاب أكثر إهتماما بالحقوق السياسية والفكرية.
أما التيار السني فهو يعيش مخاض قاسي جدا حيث أصابته التطورات العالمية )حرب الخليج الثانية، والوجود العسكري الأجنبي، وبروز طالبان وأحداث سبتمبر ( بتغيرات سياسية جوهرية مما أخرج هذا التيار عن تقليديته المعهودة ولم يعد إلى توازنه بعد، والأمر لا يختلف بالنسبة للتيار القومي الذي تهدمت أهم أركانه بسقوط حزب البعث في العراق، والتيار الليبرالي الذي فقد قواعده وجماهيره ولم يستطع حتى اللحظة إعادة الثقة به وبإطروحاته بسبب عدم امتلاكه لرؤية إستراتيجية واضحة المعالم، كما ألقى هذا التيار ثقله وآماله على المشروع الأمريكي ورغبته في التغيير، وهو ما عمق من غربته وغربة رموزه الذي ينظر لهم الشارع العام بأنهم هواة تنظير ونقد حاد ولم يثبتوا أنهم أهلا للإنصاف والموضوعية والبناء.
ثمة دلالات واضحة على تغيرات نوعية في الخليج، لكن إلى أي مدى يمكن للفعاليات الإجتماعية والقوى السياسية أن تستثمرها وتسرع من حركتها ؟ هذا ما يتطلب حوارا جادا يخرج عن تقليدية الخطاب المتحفظ، إلى القراءات الجديدة والنوعية بين أبناء الخليج بكافة إنتماءاتهم الفكرية و السياسية.