شريف حتاتة
الحوار المتمدن-العدد: 7207 - 2022 / 3 / 31 - 20:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
------------------------------------------
رن صوتها الودود ، المرح فى أذنى كأنها أصبحت معى فى الحجرة . تحركت فى نفسى شعرة من القلق .. ترى ما سبب اتصالها بنا بينما لم يمر سوى يومان على مكالمتنا الأخيرة لها فى القاهرة ؟ .
سمعتها تقول : " ازيك يا شرف " . " كل سنة وأنت طيب " .
مرت لحظة قبل أن التقط رسالة صوتها المرح . فأنا لا احتفل بعيد ميلادى .. فى الأعماق أحب أن احتفل ، لكننى رفضت الطقوس ، والمظاهر منذ زمن ، ثم أدركت أنها ليست كاذبة دائما .
مرت السنون دون أن أحتفل ، ودون أن يحتفل به أحد . الآن لم أعد اهتم. أتركه يمر ولا ألتفت ، أو يأتينى خاطر سرعان ما يتبدد .. ربما هى الواحد والسبعون سنة من العمر تحدثنى عن انقضاء الزمن . أقول لنفسى : طالما أن كل ما حدث حدث فما الذى يمنع من حدوث ما بعده ؟ . ربما عندى نوع من التعفف ، أو القدرة على نسيان الزمن . أو عندى الآن اكتفاء بما أنجزته . أنتظر بلا قلق . ظل الطموح ، وراح الأرق . ترددت وخفت وجبنت ، ولكنى قاومت ، وفى النهاية لم انحن . قضيت حياتى فى جهد متجدد . فأصبحت قادرا على رؤية السعادة فى المطر ينهمر خلف الزجاج النافذة ، وأنا جالس فى مكتبى . فى الزهور تتمايل على أعناقها ، والأشجار العالية . فى نظرة حب ، وتقدير مشرقة . فى لمسة حانية من يد نوال زوجتى ، عندما أستيقظ ، فى كأس من شراب ومعها ضحكة صافية . فى تصور خيالى لعالم ، سيأتى من بعدنا . فى أحلام أولادنا ووجودهما معنا حول المائدة . فى قطعة لحم محمرة شهية .
ربما أرى السعادة فى أن أفتح نوافذى المغلقة . لا أحد يحتفل بعيد ميلادى ما عدا فتاة واحدة . فتاة شابة شاب شعرها منذ زمن . عيناها عسليتان ونظرتها متأملة . نعشق العرقسوس ، والشيكولاتة من غير لبن . ضحكتها فيها طفولة وقلمها يتحدث بلغة نابضة تنفرد بها هى وحدها . إنها إبنتى " منى حلمى " أو إذا أردنا الدقة إبنة نوال من زواج سابق ، ولكن ما الفارق ؟ . إنها إبنتى لا تترك عيد ميلادى يمر دون أن تحتفى به ، وتهنئنى ولو كنت مسافرا آلاف الأميال .
إذا كنت فى القاهرة تدعونى إلى شقتها فى الأدوار العالية ، لأطل منها على أبراج محطة شمال القاهرة ، على الطاقة الحمراء تومض من عيون أبراجها ، على الموت البطىء يتجمع فى سموم سمائها . فأديرنظراتى بعد قليل نحو الشمس الغاربة تنكسب ألوانها فى مياه نيلنا ، وأرتشف من القهوة التى تصنعها لى جالسا على الشرفة ، شاردا فى الأيام ، والسماء الملونة ، والمساحات الواسعة .
تدعو معى دائما أمها نوال ، وأخاها عاطف حتاتة ، يثير أسمه لدى نوال تمردا ضد النظام الذى أورثه اسم أسرتى وحدها ، وترك اسم أسرتها خارج الميراث . فيدور بيننا النقاش . أقول لها السعداوى اسم جدك ولا يمت بصلة إلى أسماء الإناث فتعترف بهذه الحقيقة . وترد قائلة كان يجب أن نسميه عاطف نوال شريف ، وأن نسقط السعداوى وحتاتة . أليست هى ، التى حملته فى بطنها ، وولدته ، وتحملت الجهد سنة وراء سنة ، إلى أن كبر ، وارتفعت قامته ؟.. أليست هى التى ولدت ُمنى وتحملت مسئوليتها وحدها ، الى أن أصبحت صبية فارعة ، مع ذلك لا تحمل اسمها ؟.
تظل غاضبة بذلك الغضب ضد الظلم الذى لا يضعف مع الزمن . ثم فجأة يعود إليها إشراقها بتلك القدرة العجيبة على ترك مرارات الحياة وراءها ، والابتهاج باللحظة الحاضرة .
........................................................................
اللحظات الغالية
--------------
فى أغلب الأحيان تستضيف مُنى فى هذه المناسبة ، عددا قليلا من أصدقائها يحكون لنا عن أحوالهم ، ونحكى عن أحوالنا . نتعرف منهم على آراء جيلهم ، على رؤيتهم للواقع الذى نحياه فى بلدنا . نسمع منهم آخر النكات وذكريات الطفولة ، وأحلامهم . ساعات نقضيها مع هؤلاء الشباب والشابات نجدد فيها نفوسنا ، ونسمع ما لا يتاح لنا أن نسمعه عادة .
مع كل احتفال تهدينى هدية صغيرة ، سلسة مفاتيح ملونة أو قميصا ، أو مفكرة . وإذا كنت غائبا فى أحد البلاد تصلنى منها بطاقة عليها منظر طبيعى ، أو زهور ، أو أطفال يلعبون وكلمات قليلة تعبر بها عن تمنياتها . كلمات تحمل فى طياتها ذلك الفيض من العواطف الذى لا ينضب معينه ، وكأنها تسحبه من منابع جوفية غائرة .
من أين تأتيها هذه القدرة على العطاء لكل منْ لم تغلق بابها أمامه؟ . فهى شديدة الانتقاء ، كأن بستان حياتها الذى تحرث فيه وتزرعه ، وترعاه ، يجب ألا تمتد إلى ثماره ، يد غاصبة أو جبانة لا تدرك قيمة الجهد والإحساس ، الذى بذلته لإنباته .
فى هذه المرة كنت فى " نورث كارولينا " بأمريكا . لم تصلنى البطاقة المعتادة ، وكنت منهمكا فى الكتابة ولا شىء يتغير فى حياتى ، ما عدا الذكريات والصور أرسمها بالكلمات ، ولكن فى ذلك الصباح قرب الساعة التاسعة دق جرس التليفون . كنت أقوم بغسل الأطباق بعد الإفطار ، فجففت يدى على منشفة المطبخ ، وأسرعت إلى الصالة لأرفع السماعة . جاءنى صوتها مثل أشعة الشمس تخترق الأشجار العالية " أزيك يا شرف ؟ كل سنة وأنت طيب .. عامل ايه ؟ صحتك كويسة ؟ واخد بالك من نفسك ولا لأ ؟ ".
اختطفتنى المفاجأة ثم غمرنى تيار من المشاعر الدافئة ، لم تنس . سألتها عن أحوالها . طلبت منها قضاء بعض الأمور التى تخصنى ، وقبل أن أعيد السماعة إلى مكانها ، قلت أشكرك على كلامك ، لم تنس يوم عيد ميلادى فضحكت ضحكة صغيرة معاتبة ، كأن ما كان لمثل هذا الخاطر أن يأتينى ، أن وقالت : أنسى ! أنسى أزاى ؟.
ذكرتنى فى هذا الصباح أننى مازلت على قيد الحياة ، رغم مرور إحدى وسبعين سنة على مولدى وأن فى الحياة أشياء فاتتنى ، ومازالت تفوتنى يجب أن أتوقف عندها .
.............................................................
الدراجة البنفسجية
-------------------
هكذا قبل أن تسقط الشمس خلف الأشجار وتختفى تماما غادرت المنزل ، وسرت على قدمى حتى الشارع التجارى ، " ناينث ستريت " ( أى الشارع التاسع ) القريب من بيتنا . دخلت أحد المحلات ، وخرجت منه ممتطيا دراجة جديدة ، لامعة . لونها بنفسجى ، ولها إحدى وعشرون نقلة موزعة على الفيتيسين الأيمن والأيسر ،وجرس رنان . دراجة خفيفة قوية تستطيع أن تحملنى مثل الطائر فوق الطرق ، أن تخترق حرم جامعة ديوك الذى يمتد فوق 575 فدانا من الأشجار ، والزهور ، والحشائش اليانعة ، أو أن تشق الغابات الكثيفة التى لا أرى لها نهاية ، الا عندما أهبط من الطائرة ، فى المطار الدولى لرالى درهام ، عائدا من القاهرة .
فقبل أن أعود إلى جامعة " ديوك " لأستأنف التدريس فيها ، قضيت شهرين فى معتكف أدبى للكتاب . أسس هذا المعتكف الروائى الألمانى الراحل
" هينريش بول " . حصل على جائزة نوبل فى الستينيات ، فخصص المبلغ الذى حصل عليه لإقامة أول بيت فى هذا المعتكف . وبعد وفاته تولت زوجته شئون المكان هى ، وعدد من الكتاب ، والشخصيات العامة . قاموا بتكوين مؤسسة للنشاط الثقافى ، وإدارة المعتكف وأضافوا إليه ثلاث بيوت صغيرة مفروشة بابسط الاثاث تحيطها حديقة ، ومساحة فدانين أو ثلاثة مزروعة بالتفاح ، والكرز ، والكمثرى ،والبرقوق ، وهناك اثنان من الخيول . مقره فى قرية " لانغنبرويش " على بعد تسعين كيلومترا من مدينة كولون بألمانيا .
لم تكن فى القرية محلات لبيع الأطعمة ، ولم تكن الأتوبيسات تمر عليها إلا فى مواعيد متباعدة ، فخصصت للضيوف فى البيوت ثلاث دراجات للتنقل من مكن إلى مكان ، والذهاب إلى أقرب مركز يبعد عنها مسافة أربعة كيلو مترات لشراء ما يحتاجون إليه . فعدت إلى ركوب الدراجات بعد انقطاع دام منذ أيام كلية طب قصر العينى ، أى ما يقرب من خمسين سنة.
فى البداية كنت أجد صعوبة فى المناورة ، وأعانى من اختلال فى التوازن والثبات . سقطت من على الدراجة عدة مرات ، مرة فى مصرف عميق ، لكن لحسن الحظ كان مغطى فى قاعه بحشيش عال ، وكثيف مما خفف قوة الصدمة التى أصابتنى . لكنى ظللت مصرا على قبول التحدى رغم المخاطرة . فأنا لست أقل من هؤلاء الشيوخ الألمان العواجيز ، ولا النساء الكبيرات السن ، اللائى يذهبن كل يوم فى الصباح على الدراجات لشراء حاجاتهن .
هكذا عرفت مرة أخرى ، وفى هذه المرحلة المتأخرة من العمر متعة المجهود الجسمانى الشاق ، حرمنى منه الجلوس الطويل خلف المكاتب . أصعد الهضاب فتنقطع أنفاسى ، وينهمر العرق من كل المسام ، ولكن بالتدريج ، أصبح قلبى قادرا على ضخ الدماء فى شرايين ظلت شبه مغلقة لمدة سنين . وأصبح صدرى يتسع للهواء، يندفع إلى الأكياس الصغيرة فى الرئتين فتتمدد لتحتويه . أحسست بالسموم المتراكمة فى جسمى تطرد منه يوما بعد يوم ، بالعضلات فى ظهرى ، وساقى تصلب كالعروق ، بالآلام التى كنت أعانى منها فى المفاصل تزول . ضاع منى الشحم ، واستقام عودى ، وارتفعت قامتى . لم أعد أحملق فى الأرض ، وأنا أسير . أصبحت أرفع عينى عن الأرض إلى الأفق الممتد .
أصبحت أستنشق رائحة الزهور ، والحقول والروث يحملها النسيم فى الأمسيات ، أو الصباح بعد الفجر بقليل ، والأشجار فى الغابة تدفنها الشمس ، أو يغسلها المطر . حول جسمى يلتف الريح ، وعلى جلدى تحت القميص تتسلل البرودة المنعشة . فأنا مثل كل الناس ولدتنى الطبيعة . أنا ابن الشمس ، والمياه ،والأرض ، والنبات . انتزعتنى المدينة ، وحاصرتنى باحكام فى الغرف الضيقة ، فلما سرت بين الحقول ، ورأيت الذرة والشعير ، عادت إلىً روائح قريتى ، فنمت الليل ملء جفونى ، مطلقا جسمى لأحلام خضراء كالزرع فى أرضنا .
سرت على شاطىء نهر الأودر . تأملت مياهه الصافية تتدفق من أعلى الجبال . تأملت الأشجار تهتز فى العاصفة وكأنها محيط . لمحت البرق يمد أصابعه المضيئة كأنه يبحث علىً دون سواى . سمعت الرعد غاضبا منذرا يحثنى على الإسراع . عدت إلى التوحش البدائى للإنسان يواجه الكون ، أشحذ كل طاقات الجسم لاخترق المسافات ، والمطر ن والرياح ، لأصعد الهضاب ، وأهبط منها مسرعا دون أن يفلت مِنى الزمام . تخلصت من الإحساس بالأعضاء العاطلة العاجزة بينما خلقت فينا لنستخدمها دون صعاب . فقد أبدعت فينا الطبيعة طاقات للحركة ، والخلق لا حدود لها . لكن المجتمع الذى نحيا فى ظله يفقدنا الإدراك لهذه الطاقات ، حتى يبقى الاستعباد قائما .
بعد هذه الأشهر التى قضيتها هناك ، عادت إلىً طاقات فقدتها . زادت ثقتى بجسمى ، وبقدراته . أستطيع الآن أن أرتاد المسافات فوق دراجتى ، أن أستمتع مثل الشباب والشابات ، أراهم يجوبون المسافات دون عائق .
عدت إلى المنزل ، وضعت الدراجة فى بئر السلم ، وجلست أمام مكتبى . ظل صوت ابنتى يتردد فى أذنى مثل رنين الجرس فى الصباح الباكر .
............................................................................
تبادل الأدوار
---------------------
سألت نفسى من أين تستقى هذه الفتاة فيض العواطف التى تمنحه لنا ؟. من أين جاءتها هذه الرغبة فى أن تشع على منْ حولها دائما ؟ ، مع ذلك تحمل معها حزنها ألمحه فى عينيها تشرد . حزنها من العالم الذى يحيط بها . إنها خليط عجيب من الفرحة ، والضجر ، من الطفلة الضاحكة ، والنضج الماكر . فى لحظات تبدو فى سكونها كأن روحها غائبة ، فاعرف عندئذ أنها رافضة . وفى لحظات تكون مقبلة ، مبتهجة بها تسمع وترى ، فمن أين هذا الشمول المتناقض ؟. أمن نوال والدتها ، أو من المجتمع ، أو من الاثنين معا ؟ . فهى امرأة فى مجتمع ورث القهر الذكورى والطبقى منذ أقدم الأزمنة .
عاشت مُنى ، تغيرات المجتمع المصرى .. كانت طفلة بالأمس ، ثم فجأة أصبحت أديبة لها قلم . هكذا يبدو لى فاندهش . طوال السنين لم أر.شىء كالمعجزة حدث بين يوم وليلة ، أم سنة وراء سنة ، وأنا غافل عما يجرى فى أعماقها ، فبدت لى معجزة .
وجدتها أمامى فارعة القوام ، ممتلئة الجسم ، والثقة بنفسها ، ضاحكة ، ساخرة . وجدتها محبة عاشقة ، ورايتها تمسك بالقلم لتسجل التناقضات والصور بقلم ، كشفرة الحلاقة يقطع فى اللحم الحى دون ن نشعر به ، ويسيل الدم الأحمر ، أو كريش النعام يكتب عن أدق الخلجات ويخط كلمات الحب ، والأرق ، أو العزم الذى لا ينثنى . كلما فكرت فيها اندهش . كبرت من خلف ظهرنا كالزمن . كنت أباها ، وهى طفلتى ، فأصبحت هى الأم ترعانا بحبها .
هكذا تداخلت الأمور بينى وبينها لتزول الحدود الفاصلة ، وليسقط هرم الأبوة الأكبر . هى ابنة جاءتنى من أين لا أدرى ، وفرضت نفسها . قالت أنا هنا . أنا وعد الأجيال القادمة ، والمرأة تُولد . أنا بالنسبة إليك سأكون عنصر تحد ، وقلق .
سلامى إلى ابنتى مُنى وامثالها من الشباب ، جعلونى أشترى دراجة بنفسجية لامعة فى عيد ميلادى الواحد والسبعين ، لأجوب فى المساحات الواسعة ، وأستعيد أشياء كنت على وشك أن أفقدها .
من كتاب " فى الأصل كانت الذاكرة " 2002
-------------------------------------------------------------------
#شريف_حتاتة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟