|
نجيب محفوظ ... وهج بدء متكرر
محمد سمير عبد السلام
الحوار المتمدن-العدد: 1669 - 2006 / 9 / 10 - 04:53
المحور:
الادب والفن
من خلال الصيرورة المتوهجة ، للدوال النصية – الكونية ، تمتد أعمال نجيب محفوظ ( 1911- 2006 ) ؛ لتحدث انقطاعا في مدلول العدم من خلال ظهوره دائما كبداية وجودية قلقة ، فالعدم عند محفوظ يناهض نفسه بوصفه عدما ، في حركة السرد الروائي التي تكرر في عناد – عن طريق اندفاع الأخيلة و طاقات اللا وعي – لحظة البدء ، في بكارتها الأولى ، هل هي احتفالية لاستعادة الحياة وفق بهجة مغايرة تقاوم موت محفوظ ؟ أم أنها تأويل ممتد للموت ببعث طاقة البدء الكامنة في الصخب السردي اليومي التالي لحدوثه المفاجئ ؟ صار محفوظ إذا إشارة لمسيرة البدء المكررة في انقطاعها الزائف المعروف بالغياب ، لقد اختلطت أسئلة الوجود و العدم عند محفوظ بممارسة حية للوجود في أشكاله المختلطة بحيث يمكننا أن نعاين في سرد الممارسة المتجددة لعلاماته طاقة متوهجة للعدم ؛ ففي أصداء السيرة في نص بعنوان ( قبر ذهبي ) يصف السارد ذلك القبر الذهبي وصفا معلقا لمدلوله المباشر على الموت ، و في الوقت نفسه يمنحه حركة و امتدادا للبهجة المتعالية في نهاياتها الخاصة الزائفة عند القبر ، فقد نمت فوقه شجرة سامقة مغطاة ببلابل شادية و قد كتب عليه : " هنيئا لمن كانت نشأته في بوتقة الهجران " محفوظ يستدعي النشأة الأولى من خلال القبر المتكرر في حدوثه الجمالي و صعوده الأسطوري الجذاب من خلال الشجرة ، نحن أمام أداء للعدم ، قد استبدل العدم بالقبر الذهبي ذي المدلول المعلق دائما . و في مجموعة الأحلام – في الحلم رقم ( 145 ) يقام مهرجان عظيم تحضره رموز الأمم و يسلم رئيس المهرجان البطل كرة ، فيقرر أن يتبرع بها لأعمال الخير، لكنها تنفجر لحظة الانقسام و تتناثر حولها بقايا الإنسان و الحيوان و النبات و الجماد. لم يعد للتعارضات الفكرية القديمة مكان في رؤى محفوظ حول الموت و الحياة و النشأة الأولى ، فلكل دال من دوال الحياة المتمايزة و دوال التدمير المتناثرة طاقة تختلط بالأخرى على نحو معقد في مشهد احتفالي يقاوم العدم ، بل يخترقه ليستعيد لحظة البداية و يفجرها في اتجاه سردي آخر . لقد امتزجت مشكلة الموت بأخيلة الحياة المتجددة عند محفوظ منذ بدايات مشروعه الروائي ، بحيث تبعث هذه الأخيلة لحظات تكوين جديدة خارجة من باطن العدم ففي رواية ( بداية و نهاية – مكتبة مصر – ط14 – 1984 ) يعاين الفتيان حسنين و حسين لحظة الانقطاع المفاجئة من داخل الصخب اليومي المتكرر ، عندما أخبرهما الناظر بوفاة والدهما فجأة ، و كانا قد تركاه في صحة جيدة صباحا ، فقد تبلور العدم فيهما من خلال تأثير صورة الوالد الميت السحري ، فقد وقف حسنين أمام جثة أبيه و قال : " رباه ، لماذا يجمد هكذا ؟ إنهم يبكون ، و لكن في تسليم من لا حيلة له . لم أكن أتصور هذا ، و لا أتصوره . أم أره يمشي في هذه الحجرة منذ ساعتين ؟ ليس هذا أبي ، و ليست هذه حياة " ص8 . لقد فجر موت الأب حالة وسطى من الاختفاء ، نتيجة لما خلفه و جوده الحي من ذكرى في عقل حسنين ، تبدو وحدها تمثيلا للحياة التي لم تعد نفسها أبدا ، مثلما لم يعد الأب ممثلا لهويته الأولى . لقد أصبح شبحا أو ذكرى بعد ساعتين من حضوره المادي ، أما حسين فقد سرد بداخله رجفة من تأثير زرقة وجه أبيه المختلطة بسكون غير دنيوي يصفه السارد بالعمق اللا نهائي . للموت إذا فاعلية داخلية توحي بالانتشار المفاجئ في الآخر مثل الحياة تماما في تضاعفها و انتشارها ، و لهذا علت نغمة الحياة لحظة وداع الأب ليستعيد بداية متجددة لحضوره الأول المقاوم للحضور الثاني كذكرى : يقول السارد " و ألقى الشابان نظرة أخيرة على الجثمان المسجى ، و هما يعتقدان أن عيني أبيهما تريانهما رغم الموت ؛ فلم يولياه ظهريهما ، أن يسيء إعراضهما شعوره " ص 9 . بدأ الأب غيابه عن مستقبل الأسرة بحضور ملازم للأحداث المقبلة ، و مستبدل لحياتها الانفصالية عن العدم ، الأب يبدأ مسيرة أخرى في السرد تؤسس للغياب داخل مركزية الحضور . بدا هذا أكثر وضوحا في شخصية نفيسة / الابنة التي تجلت فيها فاعلية التفريط المستمرة المختلطة بالطاقة الإيروسية اللا واعية ، فقد اختلطت بكارة الممارسة الجنسية اللا واعية ، بذكرى حادث اعتداء أبوي قديم استدعى طاقة قتل مضادة ، و محولة في آن باتجاه الموضوع ، أو العلامة البديلة المشوهة عن الأب الممثل للتابو الإنساني العبثي في حضوره الأول ، بحيث تكتسب نفيسة طاقته المقدسة و الزائفة معا ، يقول السارد بصدد تخلي سلمان عنها : " و هيجها حديثه فجأة ؛ فعاودها الجنون ، و انقضت عليه مرة أخرى بدافع غريزي ، ثم أمسكت بتلابيبه ، كشيء يريد الإفلات ، و تأبي عليه بكل قواها – أن يفلت و ركبه الذعر ؛ فانحل تماسكه " ص 133 . لقد اندمجت دوافع التدمير داخل نفيسة بالتحام بالصنم الذي تولد للتو من تحجر سلمان و اختفائه من المشهد . يمتد إذا التدمير في اتجاه ذاتي مضاد ، تجلى فيما كونه المجموع من صور لها فاعلية الإغواء Seduction كما يطلق عليه جان بودريار BAUDRILLARD ، فقد استبقت نفيسة العدم في الصورة كي لا يحدث هذا العدم أبدا : " و جعلت تنظر في سهوم إلى صفحة الكنافة الموردة ، حتى تخيلت نفسها في الصينية ، تحترق ، و قد اسودت بشرتها ؛ و في تلك اللحظة بدت الحياة لها عابثة قاسية ، تعبث في قسوة ، و تقسو في عبث ؛ فتساءلت لماذا خلقني الله ؟ ، و مع ذلك كانت تحب الحياة ، و لم يكن يأسها و عذابها و خوفها إلا آيات على هذا الحب " ص 277 . لعبة الاحتراق تكتسب حضورا تأويليا يستبق العدم ليحترق في اللعبة بوصفه عدما ، و تجديدا لمادة الرغبة في تجردها من التبعية للمجموع ، النار انعزال انتحاري يذكرنا بتكرار الانتحار عند دور كايم في التجمعات ذات القدرة الاستبدالية للفرد ، إنه تجرد الحريق المباشر من هذا الخطاب من داخله . و يثير موقف انتحار نفيسة عقب اكتشاف حسنين أنها متهمة بالدعارة ، تأويلات عديدة تضع الوعي بها نفسه في محل الشك و إعادة النظر ، ووفقا لبول ريكور Paul Ricoeur فقد مر النظر إلى الوعي بتحول جذري منذ نيتشه و ماركس و فرويد فالوعي الديكارتي الذي يلتقي فيه المعنى بوعي المعنى تحول إلى شك في الوعي ، و اتجاه نحو التأويل و تفكيك التعابير ( راجع / بول ريكور / التحليل النفسي و حركة الثقافة المعاصرة / ت – منذر عياشي / مجلة فصول / عدد 65 / خريف 2004 ، و شتاء 2005 – هيئة الكتاب / ص 91 ) . في هذا الموقف السردي ، لا يبدو الموت كما يتبلور في الوعي بوصفه موتا ، لكنه ذلك الصوت المنفلت كطاقة لا واعية لها امتداد و حياة خاصة : " أما هي ، فألقت بنفسها ، أو تركت نفسها تهوي ، و قد انطلقت من حنجرتها صرخة طويلة كالعواء ، تمثل لعيني المبتلى بسماعها وجه الموت ، فجاوبها حسنين بصرخة فزع ، و لكنها ضاعت في صرختها " ص 386 . إن جملة تركت نفسها ... توحي باستلاب السقوط للذات غير الواعية ، بالعبث المصاحب لمركزية الإدراك أمام طاقة الإغواء ، ذلك الذي استلب صوت الحياة / صرخة حسنين في صوت العدم / صرخة نفيسة الأقوى حضورا في خطاب عدم يشكك المشهد و تأويله في إشباعه بالحدوث . ألم تكمن فاعلية التفريط في أسرة حسنين منذ البدء بموت الأب و انتشار صوره ووجوهه في الأخوين ، ثم اضطرار الأسرة لبيع مخلفاته ؟ ألم تكن تلك الفاعلية مرتبطة بالعدم على نحو معقد يشكك في سيادة العدم على حركة السرد باتجاه الحياة عند محفوظ ؟
#محمد_سمير_عبد_السلام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تناثر المرآة و اللعب بالقصيدة .. قراءة في ديوان فوق كف امرأة
...
-
طفرة الخروج ... التجاوز و التجديد في قصيدة النثر المعاصرة
-
نهاية النموذج .. قراءة في كسبان حتة ل .. فؤاد قنديل
-
الاستباق و التحول - التفاعل المعاصر بين التراث الثقافي و الع
...
-
أرشيف الكتابة .. قراءة في ديوان النشيدة ل .. علاء عبد الهادي
-
مقاومة الهامش في ديوان المدخل إلى علم الإهانة ل ..مهدي بندق
-
العقل يتجاوز إطاره
-
ارتباك الواقع في مجموعة هشاشة عقول ل نبيل عبد الحميد
-
جماليات الاندماج الكوني.. قراءة في الغزلان تطير ل محمد المخز
...
-
هارولد بنتر .. و الاستعادة المقدسة لتموز
-
فرح التفكيك .. قراءة في ديوان لك صفة الينابيع ل .. علاء عبد
...
-
التسامح الحضاري في سيرة نجيب محفوظ و أحلامه
-
الأدب يفجر أسئلة العمل و العمل الافتراضي
-
عبد الرحمن منيف ... الوجه الجمالي للشخصية العربية
-
ما بعد الحداثة... و جماليات التناقض..قراءة في الأشياء الفريد
...
-
مطاردة الفراغ... قراءة في ما بعد الحداثة و ما بعدها و الملام
...
-
الفكر النسائي من قضايا الهوية إلى تجاوز الواقع
-
تحولات المألوف .... قراءة في رقصات مرحة ل محمد حافظ رجب
-
صدمات سياسية ...قراءة في عرض مجاني للجميع لأحمد الشيخ
-
قضايا النشر و اليسار في الحوار المتمدن
المزيد.....
-
-ثقوب-.. الفكرة وحدها لا تكفي لصنع فيلم سينمائي
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|