|
ما هديتُك في عيد الأم؟
فاطمة ناعوت
الحوار المتمدن-العدد: 7198 - 2022 / 3 / 22 - 21:55
المحور:
الادب والفن
الهدايا التي جلبناها صغارًا في "عيد الأم"، أبدًا لا ننساها. لأن ذكرياتنا القديمة التي نسجتها طفولتُنا، محفورةٌ في خزانة "الذاكرة العميقة" التي تعبرُ فوق الزمن، وتتحدّاه. عكس "الذاكرة السطحية"، المؤقته، التي تُسرِّبُ ما يُنسى من عوابر الأمور. مازلتُ أتذكر أول هدية جلبتها لأمي وأنا في الصف الأول. وزّعت علينا "ميس فريدة" بطاقاتٍ صغيرةً ملوّنة مُزيّنة بالزهور. وكتبتْ على السبورة: “إلى ماما الحبيبة، كل سنة وأنت طيبة" لننقلها في بطاقاتنا، ثم نوقّعها بأسمائنا، ونُهديها لأمهاتنا حين نعود إلى بيوتنا. ومع مرور السنوات توالت هداياي لأمي وتطوّرت: قارورة عطر، مناديلُ بيضاءُ مطرَّزة بالورود، أجندة مواعيد، قلم، وغيرها من الهدايا كنتُ أشتريها من بوتيك "عم يونان" أسفل عمارتنا. وكان الرد الدائم لأمي على هداياي وهدايا شقيقي: (مش عاوزة هدايا، انتوا هديتي.) وكثيرًا ما كنت "أستعبط" وأسترد الهدايا، بعد أسبوع، مبررةً لنفسي تلك الخطيئة بأن ماما "مش عاوزة هدايا”! ثم دخلتُ في مرحلة جديدة من الهدايا المعنوية. القصائد. ورقة بيضاء، أكتب فيها عدّة أبيات على بحر الكامل أو الوافر أو المتدارك، لأنها الأسهلُ عَروضيًّا، ثم أزيّن حوافَّ الورقة ببعض رسومات القلوب والزهور الملونة. وبعدما غدوتُ كاتبةً كان الإهداء في تصدير الصفحة الأولى، لكتابي الأول: إلى “سهير” أمي الجميلة. ونحن أطفالٌ في مدارسنا، كان عيدُ الأمّ بالنسبة لنا يحملُ الشيءَ ونقيضَه. كثيرٌ من الإثارة والشغف، وكثيرٌ من القلق والمنافسة، وكثيرٌ من الحزن والشفقة والشعور بالذنب. نشعرُ بالشغف والإثارة ونحن نختبئ في زوايا غرفنا، قبل عيد الأم بأيام، لنكسر الحصالات ونعدُّ القروشَ النحيلة التي ادخرناها من أجل ذلك اليوم المهم؛ حتى نشتري هدية تليقُ بالشخص الجميل الذي تتعلّق عيونُنا بعينيه. الأمُّ. نفرحُ حين تفرحُ هاتان العينان، ونخافُ إن مسّهما غضبٌ. نهزُّ الحصالات لنزِنَ بأيدينا العملات المعدنية الحبيسة؛ علّنا نُخمّن حجم "الثروة”. ثم نذهب إلى المحال نختالُ بثروتنا الصغيرة نودُّ أن نشتري العالمَ لـ ماما. بعدئذ ندخلُ في المنافسة "الحُلوة" التي تناسبُ طفولتنا حين نقارنُ هدايانا بهدايا الرفاق في المدرسة، فخورين بما جلبنا لأمهاتنا، وننتظرُ أن توزّع علينا المعلمةُ بطاقات كارت بوستال الملوّن ليُرافق هدايانا؟ تجولُ عيونُنا في الفصل من حولنا فنجد تلميذًا تدمعُ عيناه وهو يتسلّم بطاقة المعايدة الخاص به؛ ولا يدري ماذا يصنع بها، أو تلميذةً تُطرق برأسِها فوق الديسك لتُخفي عينيها عن عيوننا. هذا أو تلك لا يحبّان "عيد الأم" ولا يُحبّان تلك البطاقات؛ لأن المُرسَل إليه: "غير موجود”. الأمُّ غادرت العالم ولن تعود، فكيف نُرسل لها هديتها؟ هنا يبدأ الحزنُ وتأنيب الضمير لأن صديقة لنا أو صديقًا، ليس لهما ما لنا من نعيم وفرح. الأم. هذا الفريق الحزين من الأطفال، يتعذّبون في عيد الأم، لأنه يُربِكُ حساباتهم ويفتح لهم سؤالاً وجوديًّا صعبًا: (أين أمّي؟ ولماذا لأقراني ما ليس لي؟) مثلما يفتح لنا نحن المُنعّمين بوجود الأم سؤالاً لا يقلُّ عُسرًا عن سؤالهم: (أين أمّهاتهم؟ و لماذا لنا ما ليس لأقراننا؟) سؤالهم مضفورٌ بالحزن والشعور بقلّة الحظ، وسؤالنا مضفورٌ بالأسى ومرارة الشعور بالذنب. اليومَ، وقد غادرتني أمي قبل سنوات مرّت كالدهور، انضممتُ إلى ذلك الفريق الذي يحملُ له عيدُ الأم شيئًا من المرارة بعدما فقدتُ نعمتي. أين أمّي التي غدا بوسعي الآن شراء نفيس الهدايا في عيدها؟ هي الآن في مكان كلُّه هدايا وشموسٌ ونجومٌ وألماساتٌ وأنهارٌ من اللؤلؤ النقيّ. هي الآن حيث تصدحُ الموسيقى وتُشقشقُ العصافيرُ بالنغم والشدو. هي الآن في حضرة الله الغنيّ السخيّ الذي يُحبُّ الأمهاتِ بقدر ما أحببنا، فوهبنا من فيض حُنوّهن وليالي سهرهن لكي ننام ونكبُر ونغدو أمهاتٍ وآباءَ. لكنّ الأمهات قبل أن يسافرن في رحلتهنّ الأبدية نحو السماء يتأكدن أنهن تركن لأولادهن بدائلَ تملأ الفراغَ البارد الذي يصنعه غيابُهن. فهذا العالمُ مليء بالأمهات الرائعات اللواتي يصنعن الفرح. اليومَ سوف أذهب إلى "دار الأمير لرعاية المسنين" في شبرا، لأقضي "عيد الأم" مع أمهاتٍ جميلات نسيهنَّ أولادُهن. شكرًا لأمي العظيمة القوية التي صنعت منّي إنسانًا جادًّا مسؤولا يقدّس العمل ويحترمُ الآخر، طوباها حيثما تكون في أي زاوية من زوايا فردوس الله الأعظم. وشكرًا لمعلماتي اللواتي كنّ بالنسبة لي أمهات أخريات تعلّمتُ على أياديهن البيضاء العلوم والقيم. في عيد الأم، اليومَ أقول لكل أمٍّ: كلّ عام وأنتِ زهرةٌ من زهور هذا الكون.
***
#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الستّ نعيمة … مبسوطة جديدة ...تحسبُهم أغنياءَ!
-
الشيخ طنطاوي … البابا شنودة … ذكرى طيبة
-
ماعت المصرية … على منصّة القضاء
-
جائزة صموئيل حبيب … سمفونية العطاء
-
خرافةٌ اسمُها: قبولُ الآخر!
-
معجزاتُ أجدادي
-
نسورٌ كثيرةٌ … وفريسة!
-
محمود أمين العالم… أمي خائفةٌ منك!
-
أكاذيبُ زجاج الشرفة
-
هابي فالنتين
-
ياسر رزق … وسنوات الخماسين
-
إصبعُك والثعبان … أصحاب ولا أعز
-
العالمُ المخبَأ في ورقةٍ صفراءَ صغيرة
-
معرضُ الكتاب … والشتاء وآلزهايمر
-
عيدُ الغطاس … والقلقاسُ الأخضر
-
رسالةُ سلام للعالم … من أرض السلام
-
منتدى شباب العالم … ميلاده الرابع
-
تهاني الجبالي … الماعت … وداعًا!
-
مِحرابٌ ومَذبح … في الجمهورية الجديدة
-
جرسُ الجامعة يُودِّعُ عصفورَ الأدب
المزيد.....
-
80 ساعة من السرد المتواصل.. مهرجان الحكاية بمراكش يدخل موسوع
...
-
بعد إثارته الجدل في حفل الغرامي.. كاني ويست يكشف عن إصابته ب
...
-
مهندس تونسي يهجر التدريس الأكاديمي لإحياء صناعة البلاط الأند
...
-
كواليس -مدهشة- لأداء عبلة كامل ومحمد هنيدي بفيلم الرسوم المت
...
-
إحياء المعالم الأثرية في الموصل يعيد للمدينة -هويتها-
-
هاريسون فورد سعيد بالجزء الـ5 من فيلم -إنديانا جونز- رغم ضعف
...
-
كرنفال البندقية.. تقليد ساحر يجمع بين التاريخ والفن والغموض
...
-
أحلام سورية على أجنحة الفن والكلمة
-
-أنا مش عايز عزاء-.. فنان مصري يفاجئ متابعيه بإعلان وصيته
-
ماذا نعرف عن غزة على مر العصور؟ ولماذا وصفت بـ-بنت الأجيال-؟
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|