سانقل بعض مقاطع من قصيدة لمايكل درانزفليد التي خلقت انقلابا وطنيا في ضمير الامة الاسترالية،وهي مهداة الى جان دمو الذي كان شبيها بحياته،كما اهديها لكل اصدقائه في سدني،التي قبلتني فرفضت حرارتها الخارقة كي ابحث عن دفئ الملاذ في بلاد بابا نوئيل الثلجي النرويج ،وبما اني اعيش هستيريا الاعجاب بهذا الشاعر،ربما يخونني تقديمه كذائقة جميلة لغيري،اتذكر انه قتل في سدني خلال معركة بينه وبين تجار المخدرات وهو في بيع شبابه(1948-1973)،اذ يعتبر هذا الشاعر معبودا للشباب الاسترالي رغم قصر حياته،حيث تنقل من دير للرهبنة الى مدمن مخدرات،وكان مأسورا لقوى خفية عاتية،كما تعرض لحادث سير شل حركته،ثم قتل في سدني بعد طعنه بسكين في صدره وفي معدته،والغريب انه مات في يوم الجمعة الحزينة التي تعد عاشوراء الديانة المسيحية،حيث يوم الاحزانـفكان موته جمعة استراليا الحزينة، العظماء لا يموتون الا بنهاية بائسة والا لم يكونوا عظماء،اذ لا يثير عجبي ان يموت شاعر كالسياب بجنازة بائسة او يموت ادم حاتم بلا مودعين،بل يدهشني ان لا يخرج موكب تشييع مليوني حين يموت طاغية،لانه لو مات بائسا كمثل الشعراء ساتيقن ان الشعب عانق الحرية،ولكن ان يموت طغاة العرب والعجم بهذا التشييع المهيب من قبل الناس، هذا ما يجعل التشييع البائس للعظماء ضرورة في عالم يعبد زنزانته وسجانه ومستبديه،يسفه الفرح ويحترم الحزن،يستخف بجان ويهيب بالضباط الاحرار،يودع عبد الناصر بالملايين ولم يجد يوسف الخال من يحمل جثمانه!!
اربعاء الاورايين
مايكل درانزفيلد
هديّة خريف.غريب، كان خارجيا مرّة،كل مرة، العالم.
سمحت له بالدخول. كنت اعتقد ان العيون هي نوافذٌ،مرايا.. انها ثقوب في حاةٍ
يجب الا يبقى أي شيءٍ خارجا. البشرةٌ،الحواسٌّ،
الثقوب-الفتحات،كل واحدة،نفيذة.
اشق نفقا عبر ذاتي،طيور الغرنوق تحلق على غير هدى،تعوم في تماما.
انزل باتجاه وشائعَ ذهبية وخضراءَ،صفراء،تقعٌ هنا وهناك،المس،استحمٌ
في أرواقٍ ناعمةٍ سقطت على دربٍ،شظايا لطيفة.
سرب من طيور السقساق يقوم ببعثات جديّةٍ مهمةٍ بين جزءِ الايام المنتمي الى الشاعر.
نحن عشنا النار طويلا،روبرت،فرنسيس،ألن واصدقاء اموات قريبون كالفكر.
انهم داخلي،ولا يوجد ندم. شارلز في السجن،جون في المحكمة اليوم. انتم تعرفونهم،
ضحكتم معهم،اخوتي،متٌّم معهم،عشتم الى ما وراء. يوم مات والدي كان شفافا. دفع حسابه اغتسل،اتصل ليقول مرحبا.انه فيَّ الان. ربما كان دائما فيّ.
التزم ارضا كما السديم،بمفردي،مقبلا الكل،جزءا من الكلّ، منكم. اذا قتلتم شجرةً،ذبابةً،الستم تنتحرون؟ المالٌ لا ينفع هنا. تنشقٌ المطرٍ/الشمس،الساقية ورائحة الاكاسيا في الهواء،
ما الحاجة من الاكل؟ والشعر، الفن،التدفق عبر كلَّ الموسيقى،المسرحٌ هي الحياة،الحياة. الصداقة خارج مطالب الجنس. الايام تستعملني برقةٍ،النوم،الحب، المرض،الوحدة،هي ادوات وعلي ان افتش عن سبب وجودها. نشوة الانتظار،الانسجام،بذرة في بلادِ جدي الخضراء
في القرن التاسع عشر.
يالروعتكم ايها العراقيون!! يالوفاءكم للموتى، يا لمبالغات الحب والحزن ، حتى ليبدو الضد صديق ضده..وانتم تحتفون بجان،ذلك الضجيج المدوي شاء ان يموت اخيرا الى جانب توامه الاسترالي درانزفيلد( كاتب اربعاء الاورايين)، الحب فيكم مخلب ينسى ان الاحتضان يقتل المحضون حيث يغرز نباله الهوجاء بلا احتساب للعاقبة،والحزن فيكم حداد قبور لن تتوقف عن نسخ الموت في عويل لا يكل.. لكم ايها الرابطون على جزيرة في اقصى المياه،تلك الجزيرة المشابهة لسفينة عملاقة استقالت من التراحيل، توقفت عند فم البحار كي تتحدى ابتلاع تلك الانياب.
كانت لسان الارض في لجة الغرق،تألّسنت في عز صمتها حين استعارت سكتت جان دمو الاخيرة،ذلك الذي غاب ولم ياخذ معه زوادة الموتى والندم. يالبهاءك غيلان الجان الذي سيموت فنتعرف عليه،كم تعرفنا على بعضنا بعد موت.. كم ستنحني هاماتنا ل "آن فيربيرن" زميلة تلك التي غسلت شعرها بقناديل البحر دورتي هيووت،وليز ماري جفري ليهمن جنيفر مايدن.فيكي فدياكس تقول:"سوف يجدون/ مرآة مكسوة بالشفاه"ثم "مادمت ميتة/يمكننا ان نخرب ونغتصب".. عباس بوسكاني فاضل الخياط ،هذا الشكواني اللجوج مارس هواية القلب وخانه التعرف على عينه.. منير العبيدي،اصدقاء جان ، اما اؤلئك الذين لا يحتفون مثلنا باحتفاليات الموت/لانهم مارسوه طويلا،ولم تبق في القبر مفاجاة:سركون بولص،فاضل العزاوي،والبطريك العتيق مؤيد الراوي،فعبد القادر الجنابي وقد اهلكه الصدق حتى اعتلى منصة الشيطان كي يخطب ،لكنه سرعان ما بصق حنجرته على عريف الحفل فاصيب الاثنين بالخرس.. كان جان يبني اللاشيء في شيئه ،كان يبني اللغز في عالم كل وضوحه مزعج،ويترك المزارات في كل مكان كالدراويش المجهولين،مزارات لا احد فيها سوى انها شفاعة غيب لا شغل لديه غير هزيمتنا،ذلك لان الانتصار مقرف،الكامل اسوء من نوبة حراسة مكره عليها. الاتقان بئر الارهاب..
ايها المحتفلون بالموت في كل الجهات،سفراء المقبرة في كل موت.. احتفلوا بالعزاء ،انها مناسبة لاستعادت سذاجة ان تبكي مثل امك على الغرباء حيث يمرون مساءا بين أحيائنا من دون ماوى..ايها الغرباء في سدني.. هل كانت نبوءة او علامة للميتافيزيق،حيث يشغلنا موت جان عن بلاد كلها مقبرة؟ هل يستحق شاعر كجان ان ننسى كل الموتى ونحتفل بموته؟ تلك قوة الخرافة حين تحل بجسد نحيف كان احتجاج البهاء على القبح ..كان يعلم جان ان لا جدوى في القبر لدروس المطبخ او الشعر،البلاد التي كانت قبرا من ألحري ان تكتب قصائدها الممحاة.
اللاجدويون كانوا كثرا في بلاد التدوين والنصوص:منعم العظيم،قتيبة التكريتي،رزاق النجار،كاظم العجمي،مؤيد الراوي،حميد كاظم موزان ، رزاق رشيد الذي استقال منذ الخمسينات ..اكداس من الاسماء التي كتمت على شعرها كمن يكتم على فضيحة او سر،اؤلئك الذين البسوا كلماتهم طاقية الاخفاء،وتموهوا كاجسام زجاجية وسط ماء صاف،ومع كل هذا الاختفاء خانهم بريق الضوء حين اعتكس منهم،وحين انعكس عليهم، وكلآلئ خبيئة افتضح امر نبواتهم كلما مسهم ضوء جارح.
ايها الغرباء في تلك القارة،امة الكنغارو، تلك الكائنات السيزيفية التي لا تكتف بالحمل الاول في رحمها،فتقوم بالحمل الثاني في جرابها المقدس،انها ماثرة الله في خلقه،حيث الامومة في الوهة حيوان. يا غرباء سدني،اللائذون تحت خيمة روبرت همستون ابو الشعر الاسترالي، لا تنسوا ذلك الغيلان الذي يستعد هو الاخر كي ينسج ماثرة الغائبين، فيوم كنا شياطين الفاكهاني نستمع لحفيف الولادات الخطرة، الموهبة ترفض ارتداء احذية الاكادميين فتصر على لسير حافية القدمين كي تلامس الطين بلا عوازل،وتشرب الحياة بلا فلاتر، ولم ندر ان هذا الفتى فيه نسل الغرابات الواثقة حيث يكون الحق واحدا والباطل اكثرية ، الاعجوبة نفي ذاتها في الحاضر اذ لا نتذكر حضورها الا حيث تغيب،هذا الفتى المشاكس اللعين الذي كان من بين عشرة صعاليك وبؤساء في وداع علي فودة تحت قبب النار خلال حصار بيروت، وكان مع ادم حاتم يثبتون للجنرالات الهاربين من المعركة،كيف يرتجل الشعر لعبة البنادق ،كيف يكون الشعر اشجع كل الجمود ، وهكذا يصدون اخطر هجمات الدامور والضاحية الجنوبية من بيروت،فيما كانوا اصنام الشعر بين الحانات في شارع الحمراء يكرعون مجد الابطال الصعاليك،يكتبون مذكرات القتلى بين ملاذات النسوة والاطفال،ويصبح النص بطلا والبطل مجهولا!!انني اتذكر تماما كيف ودعوا علي فودة بالقصائد ولم يقرؤوا عليه الفاتحة غير كلمات بودلير"حين نقف على قبر صديق،كاننا ندفن معه جزءا منا"..اجل فرقتنا السياسة وجمعنا الشعر،فرقنا الشعر وجمعتنا الدموع ،فرقتنا الدموع وجمعتنا اخوة الموت،كم سنكون مبدعين ان اجتمعنا على اخوة الحياة،ونفاوض غضبنا حول الانحناء قليلا من على الذرى العملاقة لاستدراك ان الشجر ينمو في الوديان ويرفض القمم. الوعظ المضجر،مغامرة التفكير من دماغ القلب،
المحواط العاقل سحر ذلك الشتيت لقبائلنا العصبية،
المجد الذي تصنعه الاحذية لا يستحق ان يكون تاجا.
سيبقى القلب بضاعة سوداء نهربها بين نقاط التفتيش.
يهرّب قلبه مخترقا نقاط تفتيش الجنة.
لكنه يهرب منه،لاجل الحرية!!
ربما ستكون المقايضة احيانا بين الحبيب والحرية!!
اذا كانت الحرية متوحشة مثل جان دمو هل سيقايض الحرية بصدر حبيب؟ ترى من يستطيع ترويض الوحش هذا ،مؤالفته بالثمن الذي دفعه جان؟ كيف يمكن ان تخوننا المحبة من دون وثن؟ لا اعتقد ذلك.
هي ذي الحرية وثن اخر بعدما أنهت هدم الاوثان،بحثنا تحت الابط في صلاتنا،سيدناها على محرابنا فصارت اسوء من زنزانتنا الاولى.
سلاما لكم غرباء سيدني ،الهابطون من بين الغرقى بعد ان خانتهم سفينة نوح على شق العباب الرهيب،المقبرة التي دفن الاحياء بها قرب شواطئكم، سلاما للغرقى داخل السفينة وليس في الطوفان.. الى ذلك الجزء من العالم،لارخبيلات الارض الفوضوية ، في الغابات التي دكنت فيها الوان الاخضر كلما شح الضياء على الوارفات من شجره،سلاما للدموع التي تاهت في بحر عملاق ولم يبحث عن هذا الماء الغارق بالماء غير قصائدكم. ومن على المحدودب الاخير ، حيث راس الارض الكسو بالثلج والشيب الابيض، اتنابض مرسلا للقلب الاخير على هذا الكوكب،لاستراليا ماثرة الكنغارو ،واحزان تشارلز باكماستر الذي شج قلبه فانتحر ليكتب حاشية القصيدة، الى الاناقات الضارية لباميلا براون،شاعرة الاماسي الكسيرة.. سلاما على ضفة للفرات ارتكبت حماقة الكنغارو ويباب الماثرة،الى المبكى المضاء بالشموع الاشورية حين تعصف كربلاء بقسوة اسرحدون،وحين تتزيّنب دموع سمورامات كي تنكسر السيوف على بوابات صيدا،ربما الاحزان تنسى غضبها حين تهدم مدنا على رؤوس اهلها، هي ذي سمورامات مجدنا العتيق ، الحلوة الغابرة بين سلالة ملوكنا القتلة والمقتولين، تهيل الثرى على اخر ملوك اشور،اخر صعاليك الامم العابرة فوق مجد الفرات،المدلهمة بالجنود والانبياء..ارمي عليكم رتيلة هذا المساء مراثي ملوك بغداد المتوجة سرا فوق نشيج الراحلين الى هول المقابر.
هل ثمة متسع لقناديل البحر كي تضيء باجسامها الزجاجية اشعة الامل؟ "ومقابر كانت قديما ديارا،سترانا كما نراها قفارا" حيث نعود ، هل نبني معالي الحديقة،ونتذكر كيف ننسى مقابرنا؟ ثمة متسع لذكرى المستقبل،فالقبور تسحبنا لخانع الدمع والانكسار ابدا كلما قفزت ذاكرة الموتى على مساء الاكاسيا،والاقحوان..الزهرة تتوضأ بالمسرة، وتنتحي جانبا بين حانات تيمت اسماءها بملامح جان،في تلك الهوامش الخبيئة ينشق جراب السلام، تتساكن الزهرة على اخوة المقبرة،وكالملاك تتحد اضداده فلم يعد ممكنا ان تفرق بين جمجمة ميت او مزهرية،لنصنع مزهرياتنا شبها للجماجم..لنصنع اوتار قيثارنا من جلود قتلانا،لنصنع من الضلوع اقواس الرباب كي نحيل الموت موسيقى وجيوكندا!!لا خيار غير المسرة بين فوهات الجرح،وعلى قصص الغائبين نعلن ابا نؤاس دفان قبورنا، كي نعلم الموت كيف يسكر بلا انين. تصور ان انت كتبت على القبر اسم جان دمو من سيصدق ان الموت حق؟ تصور حين يموت جان من منا لا يعتبر الموت دعابة؟ انقذوا الشعراء من قوائم الشهداء لئلا يجرون عربات الزاحفين للسلطة..
وداعا يا غوليساري، ايها الحصان الجميل ستبقى بلا عربة بعد اليوم.
وداعا ايها السلاح ستبقى بلا جنود،
وداعا ايتها الحرب ستبقين بلا قتلى ولا اعداء،
وداعا ايتها الاقبية السرية ستبقين بلا مؤامرة،
وداعا ايها المنفى ستبقى يتيما بلا اوطان مقبرة
وداعا ايها الحقد الباهظ الثمن فالمحبة مجانا.
وداعا ايها الخوف لا نخيفك بعد الان.
وداعا ايتها الكراهية سنرمي عليك معاطف غاندي.
وداعا للقاتل لم نعطيك ارث الضحية كي تبقى عاطلا عن العمل
وداعا جان تهرب من استحقاق نبي بملاذ الشعر والحانات
وداعا ايها الشعر الذي اطلق قصائده بكواتم الصوت.
هي ذي ورود الليلك تفضح نفسها وهي تودع خجل البنفسج السري،اختباء الازرق في الظلام وقد رحل الرماديون من الواننا..هي ذي سدني الاخرى،لن تكتم احزانها ،تبكي علنا ولا تخجل اذ تعترف ان البحر اكبر الدموع.
ايها الململمون شتيت الموت على مدافننا الموزعة بين عواصم الدنيا..آن لكم ان تموتوا في العراق.