حسام مطلق
الحوار المتمدن-العدد: 1667 - 2006 / 9 / 8 - 10:06
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ولد جورج ويلهلم فريدريك هيغل بتاريخ 27 آب عام 1770 في عائلة بروسية تنتمي إلى البورجوازية الصغيرة. كان والده موظفاً في الدولة البروسية. وبعد أن أنهى دراساته الثانوية في مدينته الأصلية شتوتغارت دخل إلى كلية اللاهوت الشهيرة في مدينة توبنغين. وهناك درس التاريخ وفقه اللغة الألمانية والرياضيات بصحبة صديقه هولدرلين الذي سيصبح شاعراً كبيراً فيما بعد, وقد نشأت بينهما صداقة حميمة وعميقة.
ثم التحق به شاب آخر سوف يصبح فيلسوفاً كبيراً فيما بعد هو شيلِنغ . وقد حصل تنافس بينهما أدى إلى نوع من الخصومة عيره فيها شيلنغ بأنه قارىء للكتب الرخيصة. وفي عام 1790 نال هيغل شهادة التفوق في الفلسفة. وبعدئذ أصبح مربّي أطفال لدى عائلة غنية في مدينة بيرن بسويسرا. وقد بقي هناك حتى عام 1796. الف خلالها أول كتاب له تحت عنوان «حياة يسوع» صدر عام 1795. تأثر بكتابات كانط و فيخته التي عكف عليها خلال إقامته في مدينة فرانكفورت بين عامي 1797 - 1800. بدأ عام 1801 حياة جديدة بانتقاله إلى مدينة «يّينا» حيث عمل محاضرا في جامعتها وعير ايضا بضعفه في الخطابة من طلابه.
وفي عام 1807 أنهى هيغل تأليف كتابه الشهير «فينومينولوجيا الروح (أو علم ظواهر الروح/ العقل). ثم أصبح رئيس تحرير لإحدى الجرائد الألمانية. لكنه طُرد من هذا المنصب بعد سنة واحدة لأسباب سياسية. فقد كانت أفكاره ثورية أو تقدمية أكثر من اللازم. ثم ألّف كتاباً مدرسياً في عدة أجزاء بين عامي 1812-1816 تحت عنوان «علم المنطق». وهو ما يسمى أيضاً بـ “المنطق الكبير” مقابل “المنطق الصغير” أو “موسوعة العلوم الفلسفية”
تزوج هيغل عام 1811 وولد له طفلان: الأول سيصبح أستاذ تاريخ، والثاني أصبح قساً بروتستانتياً.. نال هيغل منصباً جامعياً مهماً في جامعة هايدلبرغ عام 1816. وفي عام 1817 نشر كتابه «موسوعة العلوم الفلسفية”. أو “المنطق الصغير” وعندما مات فيخته الذي كان يحتل كرسي الفلسفة في جامعة برلين حل هيغل محله عام 1818. وكان ذلك أكبر منصب يمكن أن يحلم به فيلسوف ليس فقط في ألمانيا ولكن في الكون بأسره. لينتقل بهذا المنصب بشهرته من الوطن الألماني الى ال العالمية ولكن البعض أخذ البعض أخذوا عليه موقفه السياسي المحافظ واعتبروه بمثابة المفكر الرسمي للنظام الملكيّ البْروسيّ. وهكذا هاجمه الليبراليون الذين كانوا يومها فقط تقدميين. وبعد فترة من الزمن راح النظام نفسه يشتبه به ليصبح ضحية ضربات من الطرفين, حاله بذلك حال كل من يحترم ما يفكر به ولا يستجدي إقتناع الآخرين. وفي عام 1821 نشر هيغل كتابه مبادئ فلسفة الحق حيث يتعرض فيه لتصوره للدولة والمجتمع والأخلاق والدين. وفي عام 1827 سافر إلى منطقة فايمار حيث استقبله غوتّه ، ثم سافر بعدئذ إلى باريس حيث رحّب به فيكتور كوزات وبعض المثقفين الفرنسيين الآخرين.
مات هيغل بمرض الكوليرا عام 1831 أما كتبه عن الجماليات وفلسفة الدين وفلسفة التاريخ فلم تنشر إلا بعد موته
عرف عن هيجل ميله الحاد الى التناقض والتعقيد, فقد دعا الى الأخلاق ونادى بالمسيحية ولكنه في الوقت نفسه أنجب ولدا غير شرعي. تناقض هيغل إنعكس لاحقا على المعجبين به والناقدين له, فهو موجود في الماركسية وذا بصمة واضحة في الاجتهادات البروتستانتية وهو شاهد لدى الوجودين ومرجع للبراغماتين. انه هيجل المتناقض.
يقول هيجل عن فلسفته أنها إحتوت الفلسفات السابقة جميعا. فهو أمتداد وليس نشوء جيد بل هو تفسير لما اراد من سبقه من الفلاسفة ان يقوله ولم تسعفهم التجربة الإنسانية في الإستدلال أو الإيضاح.
يقول ولاس في ذلك " إن مايريد هيجل أن يقوله ليس جديدا ولا هو مذهب خاص, إنما هو فلسفة كلية عامة تتداولها الأجيال من عصر إلى عصر, تارة بشكل واسع, وتارة بشكل ضيق, ولكن جوهرها ظل هو هو لم يتغير, وقد ظلت على وعي بدوام بقائها وفخورة بإتحادها مع فلسفة أفلاطون وأرسطو ".
إلا ان هذا لايعني بحال ان هيجل كإمتداد للسؤال المعرفي الأزلي كان مجرد تكرار. فهو مؤسس الديالكتيكية باعتبارها علما فلسفيا يعمم التاريخ لكامل المعرفة ويصوغ القوانين الأكثر شمولا لتطوير الواقع الموضوعي. ناقدا المنهج الميتافيزيقي, مستخلصاً قوانين ومقولات ديالكتيكية, ولكن أيضا ضمن إطار مثالي. لقد أقام هيجل في فلسفته متتالية من القوانين : تغير الكم الى الكيف, التطور من خلال التناقض والصراع, نزاع المحتوى والشكل, اعتراض الإستمرارية, تغير الإمكانية إلى الحتمية. وهي اسس إستند إليها ماركس وأنجلس كما انها مهدت للإنطلاق العلمي وفتحت العقل البشري على الذرة والأوزان الذرية. لقد عارض هيجل إقفال كانط للباب المعرفي ونفى أن يكون هناك إستحالة في معرفة الأشياء لسبب يتعلق بذات الأشياء أو بذات الطبيعة الكلية. فالقوةالخفية للعالم عنده لا تقف عطلة أمام التوسع المعرفي, كما أن الأشياء بذواتها ليست لها ممانعة معرفية. وهو أكد على وحدة الجوهر والمظهر نافيا الإنفصال الذي اسس عليه أفلاطون فلسفته. وهو ما قاده الى انكار الانفصال المطلق بين العقل والحواس كما فعل اليونان القدماء او بين الحق و الباطل كما فعلت الأديان وتفعل اليوم الأصوليات الحديثة المتصارعة على المسرح الدولي.
لقد ميز هيغل بين ثلاث مفاهيم مبينا التداخل والانفصال فيها ,الحقيقة, والوجود, والوجود الفعلي.
وعبر علاقة معقدة بينها وصل الى ان المعرفة مرتبطة بمدى إدراكنا للمادة وان هذا الإدارك متغير بتغير الزمن والتراكم المعرفي. فنحن نعطي للشيء تعريفه من خلال التصورات التي نملكها في مخزوننا الثقافي وتنطبق عليه. بيد أن تلك التصورات لا تشكل الحقيقة النهائية للشيء. وهو هنا يناقش أفلاطون القائل: لست أنا الذي يصنف الأشياء, لأن الفئات نفسها لها وجود مستقل عن ذهني, فالجانب الحقيقي في موضوعات الحس هو الكليات, ولكن المصدر الذي من خلاله نعرف الكليات ليس الاحساس وإنما العقل. لأن الإحساس لا يستطيع أن يزودنا بالتصورات بما أن التصورات تتكون عن طريق التجريد أو الإستدلال, ومن ثم فالعقل هو مصدر الحقيقة الوحيد. لأن الإحساس يعطينا الظاهر, اما العقل فيعطينا الحقيقة.
لقد أيد هيجل في نقاشه لمقولة أفلاطون تلك أن هناك إنفصالا بين الحسي والعقلي ولكنه ليس إنفصالا مطلقا, بل علاقة متداخلة. وأن المعرفة بكليتها ناتجة عن تلك العلاقة المتداخلة بني الحسي والعقلي. ومن هذا الاساس الجدلي نشأت فكرته عن الوحدة المطلقة بين الفكر والوجود وشكلت الأساس الذي قامت عليه فلسفته برمتها.
لقد رأى هيجل ان الوصول الى الوعي من المادة مستحيل, كما يرى الماديون, كما أن إستخلاص المادة من الوعي, كما تقول الأديان, مستحيل بدروه. لذا نظر إلى الوعي بوصفه نتيجة للتطور السابق لجوهر أولي مطلق لايشكل وحدة مطلقة للذاتي و الموضوعي دون أي تمايز بينهما, وعليه فالوحدة الأولية التي تشكل الأساس الجوهري للعالم هي وحدة الوجود والفكر. حيث يتمايز الذاتي والموضوعي, فكريا فقط.
فالفكر بالإضافة إلى انه نشاطا إنسانيا ذاتيا هو في نفس الوقت ماهية موضوعية مستقلة عن الإنسان ومصدر الوجود بكليته وهي محركه لغايته النهائية. فالتطور : هو الكامن أو المستتر من النور أو المعرفة في اللحظة. وبذلك يكون الله أو البادىء المحرك هو الوعي الذاتي المطلق, وهو بشكل ما كما كان عند أرسطو فكر الفكرة, وهو ما يمكن إستدلاله من تعريف أبو بكر الرازي : الله يدرك الجزئيات ككليات, بعد الأخذ بيعن الإعتبار المحظورات الإسلامية.
فالوحدة والتمايز بين الوجود والفكر بين موضوع الفكرة والفكرة ذاتها تعبير ضروري عن ماهية الفكر الذي يعقل ذاته ويجعل من ذاته مادة الفكر بإنقسام ذاتي وموضوعي. هذا الأساس الذي إستند إليه هيجل شرحه مفصلا في منهج منقسم إلى ثلاث أجزاء,
الأول : المنطق وقد نقله من الصور والأشكال الأفلاطونية.
الثاني : فلسفة الطبيعة التي يرى أنها الفكرة المطلقة التي أدركت ذاتها بذاتها وقررت طوعاً أن تحل نفسها لتشكل الطبيعة. وفي ذلك شيء من الرأي الإسلامي الذي يعتبر أن الخلق جاء لتوق الله ان يعرف, بعد ان ظل زمنا بعيدا مثل كنز دفين, فخلق الخلق لكي يعرفوه " نص غير حرفي لحديث قدسي ".
الجزء الثالث : فلسفة الروح وهي المرحلة الأخيرة من تطور الفكرة المطلقة بعد أن عادت إلى ذاتها منفصلة بإرادتها عن الطبيعة لتشكل الروح المطلق. والتي هي تطور المعرفة الفردية والإجتماعية التي ترتقي بالتراكم لتصوغ الآراء الفلسفية.
يمكننا أن نسمي ما سبق بأنه الخطوط العريضة لفلسفة هيجل, فكيف قرأ التاريخ وكيف نظر للدولة من خلال ذلك.
لقد كان للثورة الفرنسية و رؤية نابليون يمتطي جودة حصانه وقد فتح المانيا محررا رافعا قيم العدالة والمساواة ولاشك تأثيرا كبيرا على إبن التسعة عشر عاماً. فذلك كان عصر إعادة تشكيل الدول وبروز فكرة المواطنة وإنتقالها من نظريات جان جاك روسوا إلى التطبق الفعلي. ومن هنا كان دور الدولة في تقسيماته لفلسفة الروح . فالروح هي الروح الذاتي : الفينومينولوجيا والأنثروبولوجيا, والروح الموضوعي ممثلة بالحق والأخلاق والدولة, والروح المطلق كمرحلة أعلى لوعي الفكرة المطلقة لذاتها ممثلة بالفن كرمز للجمال والإبداع, والدين كرمز للسلام والمجتمعية الفاضلة, الفلسفة كرمز لحرية الفكر والإرتقاء المعرفي.
وهنا سوف نتوقف لنطلق تسمية جديدة على ما أسماه هيجل بالروح الملطق ألا وهي: الإنسان النهائي في التوصيف الفردي لها أوالليبرالية الإنسانية في التوصيف الإجتماعي لها.
ويطرح صومائيل هينغتون هذا المفهوم محاولا جعل الليبرالية المسيحية الكاثوليكية التي إحتضنتها الدولة الرومانية الديمقراطية, وفقا للعصر, بوصفها الروح المطلق . وهو يختلف مع فرانيس فوكوياما في جدلية تراتبية لا أكثر. فكليهما مجمع على أن الليبرالية المسيحية هي الشكل النهائي للتاريخ .ولكن فوكوياما رأى, ثم تراجع, انها حققت نهاية التاريخ, فيما يرى هينغتون أن هناك مرحلة سابقة هي مرحلة صدام الحضارات. مؤسسين أن حقوق الإنسان والإنتخاب الحر والعدالة والمساواة الإجتماعية, سواء بين الأفراد أو بين الأعراق أو بين الرجل والمرأة وباقي القيم الفاضلة التي صارت أخلاق إنسانية جمعية هي نتاج المسيحية الكاثوليكية. ولأن كنا نقبل مبدأ ان الروح المطلق هي الشكل النهائي وأنها تحقق نهاية التاريخ فإننا نتحفظ على جعل المسيحية الكاثوليكية شكلها النهائي أو محققا لها. فالروح المطلق هي نتيجة الإمتصاص والطرد الذي يحققه التاريخ ويحقق به غايته, كما شرح هيغل, وسوف نشرح هذا المصطلح بعد سطور. لذا لابد لنا أن نعتبر ان المسيحية الكاثوليكية ممثلة بالغرب هي حامل لواء النظم الأخلاقية المتمثلة بحقوق الإنسان والمساواة والعدالة الحرية والديمقراطية ولكن مع تحفظين:
الاول أن هذا ليس الشكل النهائي للروح المطلق, فما نراه اليوم من الليبرالية الغربية هو حالة إمبراطورية أكثر منه حالة أممية. انه فهم لايبتعد كثيرا عن فهم هتلر لهيغل. فهم قاده إلى قوة العرق الآري, ويقود المسيحيون الجدد العالم نحو الأمركة لا الأممية.
والثاني ان جميع الحضارات ساهمت عبر الطرد والإمتصاص بإنتاج تلك القيم. وليست الليبرالية الغربية إلا الوريث الشرعي لإرث تناقلته أسرة الحضارة الإنسانية عبر العصور. ولكن تلك الأسرة مستمرة في الفعل في ذلك الإرث, طردا وإمتصاصا. ولعل ما أوصل كل من هينغتون وفوكوياما إلى هذه النرجسية, وقوعهما فيما حذر منه هيجل وهو عدم إعتبار التاريخ مدونة نظرية يستمر المؤرخون بالإضافة لها أو الأخذ منها بصورة الخط المستقيم الذي يتعرض للوقائع بقصد إستخلاص العبر للحظة الزمنية, كما فعل مكافيلي وإبن خلدون ويفعل هينغتون وفوكوياما. فالتاريخ كما يرى هيجل يحتاج إلى عقل فيلسوف ليفهمه وليس مجرد مؤرخ وهو يقول بالحرف : ينبغي أن ننظر إلى التاريخ بعين العقل التي هي وحدها القادرة على اختراق السطح المبرقش للأحداث اليومية. التاريخ يتقدم نحو المزيد من وعي الذات، هذا الوعي الذي يجعل الإنسان متحرراً من الضرورات. التاريخ يتقدم باتجاه المزيد من العقلانية، والأخلاق، والحرية. هذا هو طموح التاريخ النهائي والأخير. إنه يهدف إلى تحقيق السعادة للبشر على هذه الأرض، وكذلك تحقيق التقدم المادي والمعنوي. ليس هذا بعيداً عن البشر، بل بفعل البشر أنفسهم. البشر هم الذين يصنعون تاريخهم، لكن ليس على هواهم، بل وفق ضرورات وشروط مادية عليهم وعيها وتجاوزها. حسب ما أضاف ماركس لاحقاً.
فالتاريخ بحركته التي تبدو لنا عفوية ينتج قوانين خاصة وهو بقصد ووعي تام ومطلق يحقق غرضا نهائيا. هو السعادة الإنسانية التي جعلها هيجل الروح المطلق. غير مكترث بالزمن الآني وشخوصه التي تحاول دائما ان تسقط قوانينها النهائية على حركته, كما يفعل هينغتون وفوكوياما, او فعل مكافيلي وإبن خلدون.
قد نفهم أن السيدة رايس فهمت من هذا الكلام أن إلقاء القنابل على بيروت وقتل الأطفال هو ما يحقق غاية التاريخ وبالتالي أطلقت مصطلحها العجيب " مخاض الشرق الأوسط الجديد " ولكننا لا نرى أي تحققٍ للمزيد من الأخلاق أو الحرية أو العدالة أو السعادة التي وعد بها هيجل لنقول أننا قد بلغنا الروح المطلق. لذا لايسعنا إلا أن نعتبر أن اللحظة السياسية هي في المحصلة مجرد صورة فتوغرافية لحالة متحركة, علاقتهما علاقة المتوالية, لها ما قبلها وسيكون هناك ما بعدها . فهيجل نفسه حين اعتبر معركة جينا نهاية التاريخ إنما قصد بداية النهاية, أي خروج قيم الحرية والعدالة من المكنون الزمني الى التواصل البشري. وهذا حادث بالفعل, بيد انه لم يبلغ مرحلته النهائية. فالإدراك الذاتي الذي سوف يلغي في النهاية التمايز بين الذات والآخر بالإمتصاص المتبادل لم يتحقق. ومايزال فعل الطرد بين الواحد والآخر فاعل بقوة. بيد أننا نستطيع أن نؤكد أن الإمتصاص أكثر فاعلية, ولكننا في الوقت نفسه لا نستطيع أن نقول ان الإمتصاص يقع بإتجاه واحد. فالأسرة, كمكون إجتماعي نادى به هيجل, ينتهك بقوة في اليبرالية الكاثوليكية, وهي في الوقت نفسه تعيد إحياء دورها التاريخي في الحضارة اليابانية والصينية والإسلامية. ولا يمكننا إدعاء تحقق سعادة نهائية إلا بقيام إمتصاص متبادل بين الحرية الفردية وتقديسها من جهة, وبين احياء دور الأسرة من جهة ثانية, لصالح توازن أساسه أكثر أخلاقية من التفسخ الغربي او التبعية الشرقة. إذن ماتزال علاقة الواحد بالواحد الآخر علاقة سلبية والوجود ينتهي إلى وجود ذاتي بإمتصاص متبادل مع الآخر الخارجي كما يقول هيجل. هذا الصراع في الواحد بين الطرد والإمتصاص أسماه هيجل: صراع العناد والهوية. وهومايزال مستمراً ولكننا نستطيع ان نسجل أن الإمتصاص صار أكثر فاعلية ويسجل نقاطا أعمق وابعد على الطرد. ولكن كما قلنا إن الإمتصاص هو ليس دائما لصالح الليبرالية الكاثوليكية وإنما لصالح غاية التاريخ من القيم الفاضلة النهائية التي تتحقق في الليبرالية الإنسانية. وفي اسقاطنا ذلك على اللحظة السياسية لمحاولة إستشراف المستقبل لابد لنا ان نفرز عناصر الآحاد المتفاعلة في عملية الطرد والعناد بحثا عن الهوية وهي وفقا للمشهد السياسي: الدين – القومية – الإمبراطورية. وكان آخر مشاهد صراع هذه الآحاد حرب حزب الله مع إسرائيل. فحزب الله كممثل للأصولية الدينية وراغب في القفز فوق الدولة هو طرف, وإسرائيل كدولة دينية قومية وممثل للنزعة الإمبراطورية الأميركية الطرف الآخر. وفي الخفاء لدينا المحور السوري الإيراني المتناقض بين الإسلامي والقومي يشكل صورة لصراع الحضارات والغرب والولايات المتحدة وإرتصاصهم وراء إسرائيل يعطينا الطرف الآخر لصراع الحضارات.
ماذا نقرأ : ان حزب الله إضطر في النهاية إلى العودة الى حاضنة الدولة وهو الراغب بقوة في تجاوزها كونها تقوض هويته الأصولية بالمواطنة وباقي المفاهيم الليبرالية . إيران الأصولية وسوريا القومية قد تبادلتا إمتصاصا قاد إلى تحالف قوض الآحاد إلى واحد حضاري. الولايات المتحدة التي يديرها المسيحيون الجدد ,وهم الذين بدأو عهدهم بإحتقار الأمم المتحدة, يعودون إليها لفض النزاع, تماما كما حدث في العراق. العناصر جميعها, القومية و الدين والإمبراطورية, عادت إلى التنظيم الدولي الأكثر ليبرالية والأكثر تجاوزا للهوية, بالرغم من المآخذ على هذا التنظيم, ولكننا نتحدث عن اللحظة الفتوغرافية ولسنا نفترض بلوغنا مرحلة الروح المطلق. إذن التاريخ قام بفعل إمتصاص متبادل خلال محاولة الآحاد القيام بطرد متبادل. وبقدر ما ينتظر أن يحقق صمود حزب الله أو المعسكر السوري الإيراني نزعة للمقاومة وبقدر ما سمي ذلك الصمود إنتصارا إستراتيجيا, وهو كذلك, بقدر ما ستشكل العودة الجماعية إلى الأمم المتحدة حافزا لتفعيلها وربما في مرحلة أخرى من صراع الآحاد فرصة لإعادة إنتاجها بصورة أكثر ليبرالية. بل لا بد لنا أن ندرك ان نصر حزب الله الإستراتيجي لم يتحقق على الليبرالية ولكن تحقق على هوية أخرى. فلو فرضنا جدلا أن دولة حزب الله بفعل هذا النصر باتت قريبة, بل حتى انها تحققت, فإنها حتى لن تستطيع ان تعيد إنتاج الخمينية التي أنشأتها في رحمها. فالخمينية اليوم قد غسلت الكثير من صور الهوية وأعادت رسمح ملامح ليبرالية. ومن أمثلة ذلك إلغاء الحد الشرعي عن الزنا و إطلاق مساحات جديدة من الحريات العامة لن تقوى دولة حزب الله حتى على البقاء عند حدودها. ولو اردنا أن نسقط تجربة حزب الله على القومية, كواحد طارد آخر, فإن النتيجة ممثالة إلى حد بيعد. ولان الحالة السورية متحققة وليست في طور النشوء, كما هي حالة حزب الله, فسوف نضرب مثلا الحالة الكردية. فمع أن الصدامية هي غاية يجاهر بها الكثير من منظري تلك القومية, إلا ان عوامل تحلل الهوية الكردية الصدامية تكمن في نفس عناصر قيامها. وأقصد هنا العلاقة مع الغرب. فالقومية الكردية ترتكز على عنصر فاعل واحد وأساسي في نشوءها هو الإحتضان الغربي, لكن هذا الغرب هو ليبرالي وليس بإستطاعة الدولة الكردية, إن قامت, ان تفعل فعلها الطارد والممانع لتغير الهوية في الظلال كما تفعل الآن. فقيم المواطنة والعدالة والمساواة والملفات الأخرى الكثيرة التي بإمكانها أن تهرب منها وهي حركة تحررية لن يكون مجديا باي حال تجاوزها حين تصبح الحركة التحررية دولة. وليس سقوط جنوب أفريقيا, رغم أثرها في الإقتصاد العالمي والعلاقة المميزة مع الغرب والتي تتعدى المصالح إلى العرق, إلا دليلا قاطعا على ان العنصرية غير ممكنة إلى ما لانهاية. وعليه فالحالة الكردية كمثال للحالة القومية ليس بإمكانها في النهاية إلا أن تقوم بفعل إمتصاص ذاتي لصالح الليبرالية. وهنا يبرز سؤال : هل تفسخ الهوية المنتظر سوف يقود إلى امتاص الآحاد في واحد؟. تبدو وإلى حد بيعد تنظيرات هينغتون عن صراع الحضارات إجابة واقعية على هذا السؤال ومندمجة إلى حد بعيد مع نظرية هيجل عن القصد الخفي الواعي لحركة التاريخ, ليس بأن صراع الحضارات هو الحالة النهائية, ولكن في أنه صورة فتوغرافية أخرى في متوالية مستمرة تختصر الآحاد إلى واحد جديد يعيد إنتاج فعل الطرد مع واحد آخر ينتهي بدوره إلى واحد جديد لتتحقق في النهاية حالة أممية تقدس الإبداع وتساوي بين البشر وتعلي الأخلاق, هي ما يمكن أن نسميه الصيرورة الليبرالية الإنسانية.
#حسام_مطلق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟