أبطال القصة
نيبا : منطقة زراعية تدور فيها أحداث الرواية.
سوماتو : مزارع قطن في قرية نيبا.
موزيك : ديك سوماتو.
جوتان : عنزة سوماتو.
سوت : مزارع تبغ في قرية نيبا.
جولي : أخت سوت.
جانينر : جار سوماتو وسوت.
روتار : ابن جانينر.
نيبال : مزارع من مزارعي القرية وصديق لسوماتو.
رينيد : بطة نيبال وصديقة موزيك.
هورين : مالك أرض ثري، وصاحب الأرض التي يزرعها سوماتو.
ماريا : زوجة هورين وابنة جمانفيل.
جوري و موردا و كيلا : أبناء هورين من زوجته الأولى.
مورين : صديق كيلا بن هورين.
لوماه : قط هورين المشاكس.
جمانفيل : حاكم قرية نيبا.
دومير : كلب جمانفيل المدلل.
بيسان : الكلب الذي اغتصب أرض ومنزل سوماتو.
دوماري : مديرة مدرسة الحقيقة.
لايرو : معلم مادة الجغرافيا في مدرسة الحقيقة.
تيتاو : صاحب متجر خضروات في السوق وصديق حميم لجانينر.
أشرقت الشمس ذات صباح، كما هي عادتها في كل يوم، على قرية نيبا العتيقة الجميلة، لتنعش أنسام الحقول الندية وهي تصابح أنفاس أهل القرية التعِبة وترد إليهم أرواحهم بعد قبض دام طويلاً.
كان "موزيك" ديك "سوماتو" النشط أول المستيقظين، ركض موزيك كما هي عادته كل صباح من أول السور الخشبي المتهالك إلى آخره، في قفزات أنيقة، وعيناه تجوبان فضاء القرية الصغيرة الوادعة وحقول نوار القطن الجميلة اللامتناهية. توقف عند نهاية السور، حيث اعتاد موزيك أن يصيح كل يوم، ويرفع عقيرته بالنداء بينما عيناه تتجهان صوب قرص الشمس البرتقالي البهيج ..
يا خالق الصبح الندي
سبحانك اللهم يا الله
أوجدتني من سرمدي العدم
فلك الشكر كما ترضاه
كان لموزيك صوت حاد يشبه صلصلة الجرس ولكنه كان جميلاً رغم ذلك يبعث النشاط في سكان القرية النائمة الحالمة بغد أكثر إشراقاً من أمسها التعيس. بعد قليل من نداء موزيك هاهي أنوار الفريق تضاء نوراً فنوراً، لتتثاءب البويتات الصغيرة في الحي بويتاً فبويت، أيقظ الكبير الصغير والصغير أيقظ الأصغر حتى تكتمل حلقات اليقظة وتسري شعلة النشاط في الجميع.
استيقظ سوماتو كما الجميع على صوت ديكه موزيك لينفض عن نفسه دثار الخمول مرتدياً لباس العمل، تناول قليلاً من حليب عنزته "جوتان" المتبقي من عشاء الليلة السابقة ووضعه فوق النار لدقائق معدودة ومع بعض الخبز الخشن منزلي الصنع تناول ما يسد به رمقه بقية النهار، بعد ذلك على سجادة صغيرة ممزقة صلى لله صلاة الصبح كأجمل ما تكون الصلاة والشكر، ثم لبس بعدها طاقية القش البالية وحمل على ظهره المقوس سلة، بها وضع منجله وأدوات زراعته، تلك الأدوات التي ورثها وورث معها حب عمله عن آبائه عظام النفوس. نظر مودعاً منزله الصغير، نظرة تعوّد أن ينظرها كل صباح حينما يهم بقفل بابه الخشبي من خلفه، نظرة وداع يشوبه أمل بعودة قريبة، ومعانٍ عميقة غائرة في عمق عينين تعيستين.
متكئاً على خطواته النشيطة القوية كخطوات شاب في مقتبل العمر لا تتناسب أبداً مع أقدامه المقوسة، يسير بعزمٍ سوماتو، ماراً على طرف السور مربتاً على ظهر موزيك الذي أحس بقرب سيده منه ففتح عينيه بتثاقل واضح ليرد التحية بأجمل منها. كان السور عالياً بعلو الرابية التي بنى سوماتو عليها منزله منذ سنين طوال، وكانت تحته مزارع لا حد لها ولا حصر مزروعة بأجمل ما في الوجود من قطن. من هذا السور المرتفع، كان موزيك يراقب سوماتو وهو يهبط إلى سفح الوادي الأخضر بنشاط وهمة عالية كأنه ذاهب إلى أول يوم عمل له في الحياة، ومن لحظة لأخرى كان سوماتو يستدير من عمق وهدته رافعاً بصره عالياً مبتسماً ابتسامته الطيبة لموزيك المعلق في أعلى السور.
في هذه الأثناء استيقظت "ماريا" زوجة هورين على صوت مواء قطهما المدلل "لوماه"، ونهضت من فراشها الدافئ، بهدوء حتى لا توقظ زوجها من نومه العميق. بدأت بهدوء توقظ الصغار للذهاب إلى المدرسة، أعدت وجبات الإفطار الثلاث ووضعت كل وجبة في حقيبة، ثم علقت كل حقيبة على كتف، وربتت على كل رأس، فاتحةً باب المنزل، لينطلق العفاريت الصغار نحو مدارسهم. كانت ماريا في الخامسة والثلاثين من عمرها، ولكن من يراها لا يظنها أبداً تجاوزت العشرين.
هورين، الرجل الثري، كان قد تزوج ماريا بعد وفاة زوجته الأولى التي أنجب منها ثلاثة من الأبناء، "جوري" و "موردا" و "كيلا"، كان جوري أكبرهم على أعتاب الرابعة عشرة من عمره، ويليه موردا فكيلا. لم يتزوج هورين زوجته الثانية إلا بعدما أحس بحوجة بنيه إلى أم بديلة لأمهم التي رحلت عن الدنيا وهم صغار بعد صراع طويل مع المرض، فكان أن أشار عليه أصحاب الرأي بالزواج من ماريا ابنة جمانفيل حاكم القرية.
في البدء رفض جمانفيل كل العروض المقدمة من هورين للزواج من ابنته سليلة المجد والحسب التليد، حيث أن هورين لم يكن سوى شخص ثري نبت من أسرة تفتقر إلى الدماء الزرقاء التي تسري في عروق ابنته ماريا. لكنه إزاء الضغوط التي كان يمر بها وديونه المتراكمة، وافق على مضض، خاصة وأن هورين كان يملك ما لا يملكه الكثير من خطاب ماريا السابقين.
أفاقت ماريا والنور يكتسح المنزل اكتساحاً كما هو كل يوم موعد استيقاظها كسيدة تنتمي إلى طبقة نصفها مخملي ونصفها الآخر مرهون بسلوك زوجها هورين، ولكنها استيقظت اليوم والنور أقل حدة عما هو عليه كل يوم فاليوم لديهم زيارة من الحاكم والد ماريا فكان لا بد لها من البدار لتجهيز المنزل حفاوة بجناب والدها العظيم. بدأت بفتح الشبابيك لتسمح للنور بالتسلل إلى ما تبقى من عتمة الغرف والممرات، ونادت كل خادم بالبيت ليقوم الجميع بكنس المنزل وتنظيف الحيطان وترتيب الأسرة والمفارش لتحويل البيت إلى سرايا صغيرة تليق بمقام الزائر الكبير.
على صوت الضجة استيقظ هورين، وبتثاقل واضح، جلس على طرف السرير ليلبس خفيه الدافئين، ويحرك أقدامه نحو باب غرفة النوم. فتح الباب وهو يسمع أصوات العاملين بالخارج، وعندما رأى الحركة والنشاط لم يعر الموضوع اهتماماً على الرغم من نسيانه للموعد المضروب للزيارة. نظرت ماريا إلى زوجها وتجاهلت الموضوع، فهي قد اعتادت على هذا السلوك من زوجها، واللا مبالاة التي تضرب بأطنابها على كل تصرفاته. كانت تعلم رده مسبقاً على كل سؤال ستسأله له، لذا آثرت الصمت على سماع ردود حفظتها عن ظهر قلب.
فرغ لوماه القط من تناوله لطعام الإفطار، واستعد للخروج خارج المنزل في نزهته اليومية. كان قطاً مشاكساً إلى أبعد الحدود، فما أن تجاوز عتبات المنزل حتى بدأ في رحلة الاستفزاز اليومية، التي يقطع فيها مسافة طويلة من منزل سيده إلى الطرف الآخر من القرية حيث منازل الفلاحين تعساء الطالع، كان الجميع يعلم أن هذا القط هو قط سيدهم صاحب الأرض، وكانت لديهم تعليمات واضحة بعدم المساس به أو إيذائه بأي شكل من الأشكال. لوماه كان يعلم بطريقة ما تمام العلم بهذا القانون الذي يفرض على الجميع احترامه وعدم المساس به مهماً كانت الظروف، فكان يجيد أيما إجادة التحرش بالمزارعين عبر التحرش بأغراضهم الممتدة من كوخ سوماتو في أعلى الرابية إلى منزل نيبال في أقصى الوادي.
اليوم قرر أن يتحرش بـ "بيزي" قطة سوت مزارع التبغ، كان سوت مزارعاً شاباً في أواسط العقد الثالث من عمره يعول أسرة مكونة من سبعة أشخاص بالإضافة إلى والدته العجوز، وكان يعمل بجد طوال النهار ليوفر لهم ما يعتاشون به آخره. لم تكن بيزي قطة مدللة بل كانت جزء من نظام البيئة في منزل سوت، حيث كانت تهتم بالتخلص من الفئران المزعجة التي كانت تعيث فساداً في منزل سوت، ونظراً لقلة الطعام في منزل سوت كانت الفئران قليلة، لذا لم يكن غريباً أن تكون بيزي واحدة من أنحل القطط في القرية.
- لماذا أنت نحيلة أيتها القطة ؟
- لأن الفئران قليلة في منزلنا يا سيدي لوماه.
- وما دخلك أنت بالفئران ؟ أنا أسألك عن سر نحفك.
- لأنني أعيش على الفئران يا سيدي.
- يا لك من قذرة، يا إلهي، تأكلين الفئران ؟
- نعم والحمد لله.
- وهل تعلمين أن هذه الفئران ليس ملكاً لك ؟
- لا أعلم يا سيدي.
- حسناً من اليوم وصاعداً لا تأكلي أي فأر، فهذه الفئران كلها ملك لي نيابة عن سيدي هورين.
- ولكن كيف لي أن أعيش يا لوماه دون الفئران، لا أملك مصدراً لطعام غيرها ؟
- تصرفي، فأنا لا أحب أكل الفئران.
- سمعاً وطاعة.
مضت بيزي حزينة لا تلوي على شيء، حتى وجدت نفسها في الطرف الآخر من القرية، لم تنتبه إلا على صوت يناديها من على بعد، فالتفتت إلى مصدر الصوت لتجده موزيك ذلك الديك الهرم الذي كان صديقاً لوالدها قبل سنين طوال، بدت الفرحة على موزيك وبيزي معاً، وبينما هو يقترب من بيزي ثارت كمائن حزنه حين تذكر الموت الأسطوري لوالدها حينما حمله التيار الجارف بعد إنقاذه لقط صغير كاد أن يغرق في مياه النهر.
- ما بك يا صغيرتي لا تأتين لزيارة عمك العجوز موزيك، أم أنستك الأيام أصدقاء أبيك ؟
- لا والله يا عماه، لم أنسك أبداً، ولكني كنت مشغولة في منزل سيدي سوت.
- وكيف حال سوت ؟ هل هو بخير كما عهدته ؟
- نعم الحمد لله، على خير ما يرام لولا وعكة والدته الأخيرة لكان أسعد من على هذه القرية.
- يا الله، إن لديه والدة طيبة لم أر في يوم من الأيام أطيب منها.
- نعم يا عم موزيك، يا لها من امرأة فاضلة. وانت ما أخبار سوماتو ؟
- إنه بخير وفي أتم الصحة، رغم الوهن الذي بات يدب في عظامه، ولكنه نشيط كشاب في العشرين من عمره.
- الحمد لله.
تحرك الاثنان نحو حافة النهر حيث السواقي تضخ الماء للمزارعين الذين يسقون بما تجود عليهم به السواقي جدب الأرض، وهناك توقفا لحظات ليبدأ موزيك في اجترار ذكرياته المؤلمة، عن وفاة والد بيزي، وكيف أنه قفز من هذه المنطقة لينقذ ذلك القط الصغير الذي رفعته الساقية في الهواء وألقته في غيابة النهر، فما كان من والدها إلا أن قفز خلفه ورمى به خارجاً بعد صراع طويل مع النهر، لم يستطع بعده إلا الاستسلام لتياره الذي جرفه بعيداً إلى حتفه.
- كان القط اسمه لوماه.
- هل هو لوماه ذلك القط المنتفخ الذي يسكن بمنزل هورين ؟
- نعم هو بعينه.
وصل لوماه إلى منزله، ليجد المنزل قد أخذ زينته وصار كأنه بيت جديد، لم يكن لوماه يدري سر التغيير والتجديد المفاجئ، ولكن حيرته لم تدم طويلاً، إذ سرعان ما حياه نباح شد ما كان يرعبه هذا النباح، تذكر النابح فإذا بذاكرته تعود إلى ذلك اليوم الذي تركه فيه صاحب الصوت معلقاً بين الحياة والممات، مثبتاً له أن لكل قانون ما يخرقه، ولكل قاعدة شواذ، فهناك من لا يسري عليه قانون الغابة الذي وضعه هورين على حيوانات القرية التعيسة، هذا الكلب "دومير" هو الوحيد دون حيوانات القرية يتمتع بسلطة استثنائية، إذ أنه يعود بملكيته إلى حاكم القرية الأرستقراطي العجوز جمانفيل الذي يعتبر مصدر التشريع الأوحد في قرية نيبا، وجميع القوانين التي يضعها تسري على الجميع باستثنائه هو، فمثلاً، الجميع متساوون أمام القانون، كانت عبارة كثيراً ما تتردد على أنها مقولة خاصة بجمانفيل، ويعتقد الكثيرون أنهم سمعوها مباشرة منه، ولكن سكان القرية جميعهم يعلمون تمام العلم أن الجميع تعني الكل ما عدا جمانفيل وملحقاته.
نيبا هي منطقة زراعية بين القرية والمدينة تضم في داخلها عدد كبير من الضياع، لكل ضيعة مالك وللجميع حاكم واحد، عددها مجتمعة اثني عشر ضيعة، يطلق على جميع الضياع المجتمعة في هذه المنطقة الجغرافية إسماً موحداً هو "قرية نيبا". لم يكن هناك من يعلم بحقيقة نيبا، التي تكونت قبل قرون من اجتماع ملاك الضياع ألاثني عشر، واتفاقهم على التوحد وتكوين سلطة مركزية واحدة تملك الحق في اتخاذ القرار نيابة عنهم ولها الحق في صنع القوانين والقرارات التي تتعلق بالجماعة، فيما عدا ذلك، كان كل مالك ضيعة لديه الحق في التصرف داخل حدود ضيعته بما يشاء من قوانين. كان الحاكم العام لنيبا ينتخب مباشرة من شعب القرية ويستمر في حكم القرية مدة من الزمن حتى يتم تغييره بحاكم جديد.