|
مطر الذاكرة
أثير كاكان
الحوار المتمدن-العدد: 1665 - 2006 / 9 / 6 - 09:54
المحور:
الادب والفن
لم أتطلع إلى الورقة الصفراء وأنا أكتب أن الحزن البربري الذي يجتاح مدني لم يعد له مكان فيها، لم أتطلع إلى الآلهة التي كانت ترسم هالات بلا معنى حول أوجاعي، كذلك لم اتطلع ذاك اليوم إلى وجهها وهي تغادرني دونما رجعة. هكذا رحلت حبيبتي في ذلك اليوم الماطر دون ان تخبر الكون أن السبب الوحيد لولادتها هو الموت المطبق بفكيه على عنقي. كذلك لم أشرح أنا بدوري لها عن دوامات حزني التي ارتسمت على النافذة التي اطللت منها مراقباً خطواتها الذاهبة إلى حيث اللا أين واللا متى. ذلك اليوم، كانت قطرات المطر تدك بقوة وعنف شبابيك أملي بالفجر القادم من أعماق ديجور الظلمات. أمسكت بالقلم ذات مرة ورحت أنقش بالدم الكلمات المنحوتة على جسدي منذ ذلك الأزل والذي لم تعد ذاكرتي تستوعبه. بكل ذرة الم راحت تعتصر قلبي رحت أغرس اليراع في شراييني مستقياً منها المعاني يوم انهارت الحروف على مسلة جسدي وتسربت الطيور معها في الآن نفسه من مخدعي. يومها أقسمت بالهراء الذي الفظه مع كل نفس الا أمنح أعدائي نشوة النصر أو لاحبائي سعادة الراحة الأبدية. بصقت على التأريخ الذي جمعني بهذه الأرض، هذا الحزن، هذا الجرح وهذا الألم والأنهيار وقررت أن المضي إلى الوراء سيزلزل هذا الماضي المتهالك، بيد أن المخاوف راحت تنبت على سطح يدي غابات من الهلع المزكوم، أنهاراً من الزيف المتأصل في جذور كذبة الخطيئة الأزلية والأنثى الباحثة عن إلهها في صورة الذكر المتكامل، الذي لا يخطئ .... الذي لا ... الذي لا ... الذي ... رفعت كفي وهويت بها على سكيني احفر على أجساد إخوتي أن وغداً مثلي سوف تباركه الآلهة لأنه يقتات من جثث الأموات ويحيا بأكاذيب اللقاء المرتقب مع الذين منذ قرون بعيدة -لم أعد أحصيها خوف أن يحسدني الحاسدون على كثرتها- غادروا كهف الحياة بحثاً عن الزيف المتأصل في عروقنا لعلهم يرتوون، فلا أخفيك سراً، أن ... أن... المسافات التي ... باتت تفصلني عنهم قصية إلى الحد الذي ... الحد الذي ... الحد الذي ماذا!!!؟ آه ... آه ... آه، نعم تذكرت الحد الذي بات معه صعب التذكر أو الأدراك، حتى ما عاد عقلي يستطيع تكرارها أو القفز فوقها محلقاً نحو ماض جميل أدمن السكنى فيه ذات يوم. ذلك اليوم، نعم ذاك اليوم عينه، منذ ... منذ ... منذ متى؟ حسناً لنقل منذ اللا ذكرى الأولى، رميت بقلمي يومها وبعثرت أوراقي في كل الاتجاهات، ثم ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟ همممم ... آه ... آه ... نعم تذكرت، وقفت ليلتها وأعلنت للكون أنني لم أعد أخشى السماء ولا غضبها لأن لي قلباً صار ينبض. ساعتها صرخت، توعدت، ناديت، تحديت السماء أن تستطيع النيل مني، لكنها ما أن أرعدت حتى تراجعت إلى جحري وأختبأت. في قرن آخر قررت مصارحة آلهتي بأنني متعب من الترهات التي تشدني إلى ساقية الزمن فقررت أن أفتح لجامي وأنطلق مسرعاً خارج دوامته اللعينة، فعرفت أن الجحيم هو أن يحيا الأنسان بلا نهايات، لكن حالما زمجرت السماء عدت متقهقراً إلى كنفها وأنا أتعاطى حشيشة طمأنينتها. في قرن آخر قلت للأرادة الكونية: لا، أنا لست بحاجة إلى وصايتك منذ اللحظة، فطريقي سوف أشقه بمخالبي لو أردت، ولكنني مع أول ضربة كف تكسرت أظافري فعدت باكياً إليك أيها الكون متوسلاً المأوى. على حافة قرن آخر، أخبرتني التي كانت أسيرة الآلهة بأنها تعبد قيدها، وبأنها ليست مستعدة للتخلي عنه فقلت لها: أنني ذاهب لملاقاة قدري فإذا كان كلامك صحيحاً فسأجدك حيث تركتك. بيد أنني حين جئتها ثانية كانت قد تحولت إلى شجرة، أما أنا فلم أجد نفسي أبداً حيث أنني نسيتها هي الأخرى في مكان ما عند الله، لكن ما أن أنجاب الليل عن الحقيقة فإذا بالشجرة جذع يابس غادرته الآلهة، وهو منذ ذلك الوقت ينعيها فيما قررت أنا السباحة مع الزمن. وهكذا توالت القرون وحبيبتي بانتظار مجيء الآلهة التي هجرتها، حتى تحول الجذع اليابس إلى كذبة، فأسطورة، فرعد، فبرق، فقنبلة، نعم هكذا تحولت حبيبتي إلى سم زعاف، نعم هكذا كانت تخرج كل ليلة لالتقاط ضحاياها، هكذا كانت تقتلع في كل وليمة عشرات الرؤوس ملقمة الفضلات لكلابها وأبنائها اللاشرعيين وعشاقها الذين لم أكن من بينهم، لذلك فإنها كانت تزحف كل يوم من تحت الطاولة التي تعودت الآلهة أن تجلس حولها، كانت تأتيني كأفعى ذات أجراس مع أنين أخوتي وأوجاعهم، خانقة أياهم ورامية بجثثهم كفرائس عفنة صارت الآلهة تقتات منها كي تحيا، كي تخلد، كي لا تفنى في غبار الذاكرة المطحونة بدماء الذين استباحوا صدورهم في سبيلها، كانت الآلهة كل يوم تشرب دم الذين ماتوا في سبيلها ممزوجاً بسم حبيبتي فيما تنزع اللحم من أفخاذ من أحبوني. بيد أنني استيقظت ذات صباح لأقول لحبيبتي هذه المرة بأنني مغادر إلى الأبد. قلت لها أن أرض الخطيئة التي جمعتني وإياك لم تعد وطني، أخبرتها أن الخلد وثمرة معرفة الحقيقة لم تعد ضمن أولوياتي. قذفت في وجهها: أن أجندتي المليئة بالأكاذيب ما عادت تروقني فاستبدلتها بواحدة مزينة بالقلق الملون، فهو أجمل. صارحتها بان الانتظار والوحدة وارتشاف سمها الزعاف كي اكون جديراً بها لم يجتذبني يوماً لأن الحياة التي أريد لا تسير على خطى الآلهة، لأنني أنا وأنا فقط من يكتب قصائدها، وأنا فقط أقرر كيف يجب أن تكون. عندها فقط أقفلت مفكرتي، لملمت أورقي من على المائدة المبللة بمطر الذاكرة ورحت إلى حيث لا تستطيع حبيبتي اللحاق بي، لاستمتع وحدي بما تبقى من سمها الذي بات يزحف في عروقي.
#أثير_كاكان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أنثى بلا ذاكرة
المزيد.....
-
-قصتنا من دون تشفير-.. رحلة رونالدو في فيلم وثائقي
-
مصر.. وفاة الفنان عادل الفار والكشف عن لحظات حياته الأخيرة
-
فيلم -سلمى- يوجه تحية للراحل عبداللطيف عبدالحميد من القاهرة
...
-
جيل -زد- والأدب.. كاتب مغربي يتحدث عن تجربته في تيك توك وفيس
...
-
أدبه ما زال حاضرا.. 51 عاما على رحيل تيسير السبول
-
طالبان تحظر هذه الأعمال الأدبية..وتلاحق صور الكائنات الحية
-
ظاهرة الدروس الخصوصية.. ترسيخ للفوارق الاجتماعية والثقافية ف
...
-
24ساعه افلام.. تردد روتانا سينما الجديد 2024 على النايل سات
...
-
معجب يفاجئ نجما مصريا بطلب غريب في الشارع (فيديو)
-
بيع لوحة -إمبراطورية الضوء- السريالية بمبلغ قياسي!
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|