|
من طعن - ابن المقفّع - ، كليلة أم دمنة ؟ قصة قصيرة محمود يعقوب
محمود يعقوب
الحوار المتمدن-العدد: 7162 - 2022 / 2 / 14 - 21:26
المحور:
الادب والفن
الأمر ليس بمثل هذه البساطة !
على الرغم من أن " ابن المقفّع " نجح في ابتكار حيوانات وطيور في غاية الأناقة والجمال ، من خلال طرفته القيّمة ، ( كليلة ودمنة ) ، التي متّعت الأذواق ، والعقول ، والمشاعر ، والأحاسيس ، على مدى الدهور والأعوام . وأطلق تلك المخلوقات الباهرة ، في بادئ أمرها ، في بريّة حاضرة البصرة الفسيحة ، لتعيش حكاياتها الطريفة المحبّبة لكل نفس ؛ وتسكن جوار بعضها بشيء من الألفة .. شيء مهما كان يسيراً من هذه الألفة ، بعيداً عن الأنظار . عاشت ردحاً من الزمن على سجيتها ؛ إلّا أنها سرعان ما سقطت فريسة لأمراض الغل ، والحقد ، والكراهية ، والعداوة . ولم تلبث أن انطفأت الأنوار في صدورها ، وكفّت قلوبها عن الحب .
كثيراً ما نشبت الفتن والاضطرابات واحتدمت الحروب بينها ، بحكم الجشع ، والطمع ، والغيرة ، وطغيان الأنانية . ما انفكّ الكثير من تلك الحيوانات تتساقط قتيلة أو جريحة ، ويتعرّض البعض منها إلى عاهات بليغة تظلّ تقاسيها طوال حياتها ، جراء ما ابتليت به من تلك الأمراض . كانت عرضة لحوادث كارثية خطيرة رغم أنف الكاتب ، حتى أنه وجد نفسه ، بعد لأي ، ينكص ، بخجل ، عمّا بدر منه ، وعمّا صنعت يداه ، وبات يعرض عن ذكر تلك الشخصيات التي افتقرت إلى الحكمة وعفوية الخاطر، وانغمرت في الفتن والحروب ، وسُفكت دماءها أينما حلّت فوق الأرض .
من بين جميع الحيوانات كان هناك ابنا آوى ، يُقال لأحدهما " كليلة " وللآخر " دمنة " . وكانا ذوي دهاء وأدب . وهما خير شاهدين على تلك الخصومات ، والفتن ، والحروب ؛ فقد عُرِفَ كلاهما بتجواله المتواصل وتنقّله الدائم ، فتهيأ لهما الإلمام بتفاصيل كل حادثة ، والدراية بكل شاردة وواردة .
ترافق كليلة مع دمنة في التجوال بحثاً عن الطرائد ، وطلباً لأماكن الانتجاع ؛ فكانا يتنقّلان من ضيعة إلى ضيعة ، ومن مزرعة إلى مزرعة ، ومن أرض إلى أرض . حتى وجدا نفسيهما ، ذات يوم ، عند ضفاف الأهوار والمستنقعات ، التي تمتدّ إلى الشمال من البصرة مباشرة . وكانت تلك المستنقعات تغطّي مساحات على مدّ البصر ، وتغصّ بأسراب غفيرة من أصناف كثيرة من الطيور ، التي تعشّش في نباتاتها الكثيفة . وفي الأدغال الملتفّة من حول ضفافها ، وعاشت هنالك أيضاً جماعات لا تُعدّ ولا تُحصى من الحيوانات . كان هذا المكان مرتعاً خصباً ، ومعيناً لا ينضب . وهو بعد جنة من الجنان بجماله ولطافة أجوائه . وتوطّن ّعزم كليلة ودمنة على الإقامة فيه وعدم مفارقته .
اتخذ كليلة ودمنة مسكناً لهما بعيداً عن شواطئ الماء ، حيث تتزاحم وتصطخب الحيوانات الأخرى ، وحيث يتردّد الصيّادون الخطرون من بني الإنسان عادة . شقّا لهما بيتاً يأويان إليه في أعماق تربة رخوة ، في أجمة تغصّ بالدغل والأشجار الظليلة ، الكثيفة الأغصان . في تلك البقعة حيث تزدحم بأسراب كبيرة من الطيور كان من السهولة بمكان أن يتواريا عن جميع الأنظار. تمتّع كلاهما بصيد وفير في كل الأيام . وفي النهار كانا يجوبان الشواطئ ، ويتنزّهان على امتدادها ، ويلتقيان بالكثير من الحيوانات ، ويستمتعان بقصصها ، وأخبارها .
ذات مساء من مساءات الشتاء ، أوى كلاهما إلى الوكر ، بعد أن اصطادا ألذّ وأشهى الطيور وشبعا من لحومها . ناما مبكّرين ، وفي نومهما كانا متيقظين ومنتبهين . كانت السماء مدلهمة الغيوم ، والتف في أركانها ظلام حالك . لم يكد الهزيع الأول من الليل يمضي ، حتى تناهى لسمعيهما أصوات نعيب راحت تمزّق صمت البطاح ، وحدث اضطراب في الأشجار القريبة منهما ، وأصوات ارتطام بالأرض توحي بتساقط أجسام ، تظل تتقافز على الأرض . وما لبث النعيب أن أمسى ضجّة رهيبة في جوف الليل . فأدرك كليلة ودمنة أن الأمر ينذر بالشر المستطير ، فخرجا من مخبئهما مسرعين لاستطلاع ما يجري من حولهما ، ليجدا أن أعداداً هائلة من البوم كانت تنقض على الغربان التي وَكَنَت في الأشجار القريبة منهما . شاهدا في ذلك الليل أفظع مأساة ، حيث " وقعت البوم على الغربان ، فأكثرن فيهنّ القتل والجراح " ؛ حتى تناثرت الغربان يميناً وشمالاً ، وسقط عدد لا يحصى منها مثخناً بجراحه . كانت معركة رهيبة تقشعر لها الأبدان . واجهت فيها الغربان الهول من نقمة البوم في ليلة عصيبة لم يُشهد لها مثيلاً .
وفي الصباح ، بان المشهد فريداً ومروّعاً ، كانت الأرض مفروشة بجثث الغربان ، ودمائها التي صبغت كل مكان ، وريشها الذي غطّى الأرجاء . حضرت جميع الحيوانات والطيور ، زرافات ووحدانا ، وألقت نظرات ذهول على أرض المعركة ، ورأت بألم ممضّ ، ما لحق بالغربان من كارثة مميتة .
ظلّت الأجمات ، والأدغال تتحدّث عن هذا الشجار الدامي ، وتردّد أصداءه طوال ذلك الشتاء . وعلى الرغم من مضي شهور عليه ، إلّا أن جميع الطيور والحيوانات لم تنسَ ما جرى ، وظلّت تلك القصة المريرة لهجاً على كل لسان .
في صباح أحد الأيام الدفيئة ، وكان هذا بعد مضي وقت طويل على حادث الغربان الأليم ، شرع كليلة ودمنة بالتجوال عند أطراف المستنقعات ، إذ صادفهما عدد من بنات آوى ، فأوقع ذلك سروراً وانبساطاً في نفسيهما ، فقد كان ذلك الموسم هو موسم التزاوج والملذات عندها . سرعان ما تعارفا وتصاحبا معهن ؛ ثم انطلق الجمع يمرح ، ويلعب لاهياً ، حتى انقضى النهار بطوله ، فلجأن جميعاً إلى أطلال وخرائب أثرية قديمة الدهر ، كانت تجثم على ساحل الماء مباشرة ، وقلّما تجرّأ أحد على الولوج إليها آنذاك ، لغموض المكان ، وخوفاً من المفاجئات التي يمكن أن تحدث فيها . اقتحمت بنات آوى تلك الخرائب ، من غير أن تعلم حقيقتها ، واتخذت مواضع لها ، وأخذت تتمتّع بقسط من الراحة .
لم ينتبه كليلة ولا دمنة ، ولا حتى بنات آوى الأخريات ، إلى من كان يكمن متوارياً في أعماق الأطلال وزواياها ، فقد كانت تلك الأطلال ممتلئة بالليل والصمت . لم يراود النوم كليلة أو دمنة ، كانا يثقبان الليل بنظراتهما ، وهما يصغيان إلى الصمت بتوجس لا ينقطع . لم يلبث أن أخذ عدد من البوم كان مختبئاً في أعشاش ، غير ظاهرة للعيان ، ينبثق من أعشاشه الخفية ، وكانت أصوات انطلاقاتها مفزعة . وسرعان ما تبعها أعداد هائلة أخرى ، أثارت عجب ودهشة كليلة ودمنة ، وقد شقّت أسرابها بحر الليل سريعاً . خرجت تبحث عن غذائها لساعات قبل أن تعود إلى أوكانها .
عند الهزيع الأخير من الليل ، قبيل الفجر ، في برودة السماء وسكونها الشامل الخدر ، انفجر على حين غرّة صراخ ونعيب مدوّي من كل جهة في تلك الأطلال . قفزت بنات آوى من محل نومها مرعوبة ، وهي لا تعي ما الذي كان يجري . حتى إذا ما راقبت الأمر من حولها فترة وجيزة ، أدرك كل منهم أن ثمة معركة حامية الوطيس ، بين أسراب من الغربان والبوم ، كانت تدور رحاها .
عند الخيط الأول للفجر ، شنّت الغربان هجومها الانتقامي ، وفتكت بأسراب البوم فتكاً ذريعاً . كان الأمر مفاجئاً للجميع ، حتى أن معشر البوم لم يلحق أن يتهيأ للدفاع عن نفسه ، فأخذ يتساقط كأوراق الشجر من الأعالي . وكانت صغارها تروم الهروب ، لكنها تجد دروب السماء موصدة أمامها بآلاف الغربان الثائرة ، وسرعان ما تسقطها الغربان أرضاً وتفترسها .
لقد أُخذ البوم على حين غرّة ، فقُتِلَ من قُتِل ، وجُرِح أعداد كبيرة منها ، سقطت ترفس على الأرض ، ولم يُكتَب النجاة إلّا لنفر ضئيل ولّى هارباً لا يلوي عل شيء . وفي عجاج المعركة ونقعها سارعت بنات آوى للاختفاء في شق عميق من الأرض ، وهي ترتجف من هول الرعب .
في صبيحة اليوم التالي ، تسنّى لجميع الطيور مشاهدة أثار القتال الضاري عن كثب . كانت الدماء تغطي الأرض ، ومزع اللحم متناثرة في كل مكان ، بينما الريش غمر الأرض كالمطر . كانت مأساة حقيقية ، استطاعت فيها الغربان أن تثأر لنفسها ثأراً ألقى الروع في نفس أكثر الحيوانات شراسة وافتراساً .
♦♦♦♦
أحدثت الحروب ، التي خطّط لها ونفّذها كلّاً من البوم والغربان ضدّ بعضهما البعض ، ردود أفعال بليغة الأثر ، في دواخل الطيور والحيوانات جميعاً ؛ وجعلت عالم البراري ، يتوشّح بالغم والكدر . حتى أن تغاريد الطيور الساحرة أصبحت مُشابة برنّة حزن . وأورثت تلك المعارك الكثير من الأقاويل والإشاعات العارية عن الصحة ؛ وكانت أغلبها محض دسائس مغرضة كانت تدفع بها بعض الحيوانات الخبيثة . العجيب في الأمر أن تلك الأقاويل كانت تجد لها مرتعاً ، وقبولاً حسناً في نفوس الكثير من الطيور والحيوانات ؛ ولا عجب في ذلك ، فهذه الكائنات بلا عقول ، وهي تعمل وتسلك وفق غرائزها ، وما يمليه عليها الآخرون . وكان أخطر تلك الأقاويل ما نال شخصية الرجل الكريم " عبد الله بن المقفّع " ؛ حيث أن ضرباً من الكراهية والحقد ، والكذب الصريح ، صار يُرمى به ذلك الشخص الجليل من دون مسوّغ . شاع الأمر أولاً بين الثعالب ، ثم تلقفه معشر الذئاب ، قبل أن ترمي به إلى بقية المخلوقات الأخرى .
أشيع بين الجميع أن علّة الحروب والمعارك الدموية التي تشهدها البراري يكمن في شخص " ابن المقفّع " ، فهذا الرجل هو من جعل الغربان والبوم على عداء دائم ، وهو من مهّد لسكنها إلى جوار بعضها البعض في ذلك المكان . أظهرت تلك المخلوقات ، في نهاية الأمر ، قدراً من التواء الذهن وانحرافه بحيث سارعت إلى ازدراء سيدها من غير سبب حقيقي يُركن إليه .
ومن الغريب في الأمر أن كليلة ودمنة كانتا ضحية سهلة لمثل هذه التخرصات ، وتلقفتاها على عواهنها كما لو أنها حقائق مسلّم بها . كان الأمر أشبه بدس السم .
ذات يوم ، قصد كليلة ثعلباً هرماً يُدعى " تابو " ، وكان عجوزاً لئيماً ، ذا دهاء ومكر ، وملمّاً بالكثير من الحكايات والقصص . وقف كليلة حياله وسأله :
« سيدي الثعلب ، ما سرّ العداوة بين الغربان والبوم ؟ » .
« السبب قديم العهد يا بني ، وليس وليد البارحة » .
« كيف ذلك ؟ » .
« يُقال أنه في السنوات الغابرة ، جاء صيّاد يصطاد في هذه الأنحاء ، وتربّص لطائر كركي قرب الماء ، ثم أرداه قتيلاً بسهم من سهامه . كان ذلك الكركي هو ملك الكراكي وسيدها الكبير . وبموته أصبحت أسراب الكراكي من دون قائد ؛ فاضطربت أمورها وتردّت أحوالها . ولأجل السيطرة على جموعها ، راح الكبار فيها يبحثون عن ملك لهم ، ولكنهم اختلفوا فيما بينهم وتصادموا ، حتى صار الأمر أخيراً إلى أن يقصدوا ملك البوم الحكيم ، الذي يجاورهم ، ويطلبون منه أن يصبح ملكاً عليهم . وذهبوا إليه يتفاوضون معه في هذا الأمر . ما أن سمعت الغربان ، التي كانت تسكن ، وتعشّش إلى القرب منهم ، بما يجري من حولها ، حتى نهشتها الغيرة ، فهبّ أحد حكمائها ، وكان ينطوي على قدر كبير من مهارة الإقناع ، وأسرع ليجتمع مع الكراكي ، ويوسّوس لها بأن ملك البوم شخص أجنبي وغريب عن الكراكي ، وإذا تسيّدها سوف لن يرحم بها أو يحكم حكماً عادلاً بينها ، ثم ختم أقواله بعبارة فيها الفصل والقطيعة عندما أخبرهم قائلاً " تصوّروا الأمر ، لو حدث لكم مكروه في وضح النهار ، ما الذي يمكن أن تفعلونه والبوم يغطّ في نومه ، وهو يعشو من الضوء لا يكاد يرى شيئاً ؟ .. وكانت رجاحة أقواله كافية لجعل الكراكي تحجم عن البوم . علمت البوم بما حصل ، ومنذ ذلك اليوم اضطرمت نيران العداوة والبغضاء بينهما » .
« ولكن الجميع يقولون أن النار التي أجّجت الحرب بينهما أشعلها " ابن المقفّع " أولاً » .
« بالتأكيد .. بالتأكيد ، إنه مسؤول عن كل ما يجري هنا ؛ مَنْ كتب ( كليلة ودمنة ) ؟ ، أنتما الاثنان ، أم أنا ، أم الجاموس الذي يطفو في عرض المستنقعات ؟ إنه هو " ابن المقفّع " ولا أحد غيره » .
عاد كليلة ليخبر دمنة بهذه الحكاية ، وفي الحال انتشر أمرها بين الجميع ، ليورث ذلك موجة من الكره والغل لشخص " ابن المقفّع " . وقد حدث هذا الموقف الصادم سريعاً ، وكأنه جيء به من مكان آخر . سرعان ما امتلأت تلك المخلوقات بالأحقاد والضغينة ، ولم يعد لديها ما يشغلها سوى أن تزداد حقداً وضغينة . وهكذا وجدوا أنفسهم ، بين ليلة وأخرى ، منزلقين إلى خلاف عميق مع خصمهم المفترض " ابن المقفّع " ، وجراء ذلك غضبوا عليه غضباً لا يُقاس . وكان في بعض الحيوانات والطيور من هو ذو حلم ومروءة ، جعل يتساءل بحكمة قائلاً :
« ما دَخْل ابن المقفّع فيما يحدث بينكم ؟ لو كان الرجل يروم الانتقام منكم لسلّط عليكم حيوانات الغابة المفترسة ، أو الطيور الكبيرة الجارحة ، أ ليس كذلك ؟ . لكنه كان حصيفاً ، مسالماً ، لم يشأ أن يؤلب بعضكم على بعض . إن الحماقة ، وقلة الحيلة والإدراك هي من أودت بكم إلى هذا الدرك الأسفل » .
ولكن الدفاع والحكمة شيء ، والنزق وقلة الحلم شيء آخر ، فقد سرت رياح الكراهية تهبّ من ركن إلى آخر ، تلك الرياح المشحونة بالغضب والتحامل . وتلبّست الجميع فكرة الانتقام . سرعان ما بدوا كارهين إياه . وكانت الذئاب هي من اندفع أولاً ليروّج لفكرة الانتقام قبل غيرها ، بحكم طباع الغدر التي جُبلت عليها . وقد حدث في حفلة خطوبة صاخبة ، أُقيمت بالقرب من وجر بعض الذئاب ، أن تناخت الذئاب لقتل " ابن المقفّع " ، وهي في ذروة هرجها ومرجها ، فتراقصت جميع الحيوانات ، التي دُعِيَت إلى الحفلة ، طرباً لهذه الفكرة الدموية ، والعجيب أن البهجة غمرتها لمجرد ذكر القتل !.
أرادت الذئاب تهيئة الأذهان ، وتطويع نفوس الجميع لفكرة الانتقام ، فبادرت إلى اقتراح الخروج بتظاهرة ينتظم فيها الجميع ، وتساهم فيها أطياف من الحيوانات والطيور . وفي الغد بدأت تعدّ العدّة لهذه الغاية ؛ وراحت تجوب القرى، والدساكر ، والنجوع ، وهي تثير القلاقل واللغط ، وتؤلب الجميع ضد شخص " ابن المقفّع " . وما لبث أن انساق كل حيوان وراء تلك الأقاويل ؛ ولأول مرّة أظهرت البرّية قوتها وتماسكها ، وقد جعل الجميع إيذاء " ابن المقفّع " نصب أعينهم . لم يكن عدد المعارضين لهذه الفكرة ، للأسف الشديد ، سوى نفر طفيف لا يُذكر ، وكان هؤلاء قد أثنوا على " ابن المقفّع " ثناءً عاطراً ، ولكن حتى هذا الثناء كان عرضة للتحريف ! .
بعد أيام قليلة ، انطلقت تلك التظاهرات الحاشدة . طافت في كل الأرجاء القريبة من أوكارهم ، واستمع الجميع إلى الخطب الحماسية ، والشعارات التحريضية ؛ بصورة أوغرت الصدور ، وأترعتها برغبة الانتقام . كانت الذئاب تُرَجّح أن يتعاطف الجميع معها ، وهذا ما حدث حقّاً ، حين أخذت البريّة ، برمّتها تردّد الهتافات الصاخبة . لقد بلغت ردود أفعال من وقف جانباً يتفرّج على هذه التظاهرة ، أن راح يسرف في ذم " ابن المقفّع " ، ويقول :
« لو كان لدى هذا المؤلف ذرّة مروءة لحضر إلى هنا وتفقّد البوم ، وشاهد بأم عينيه ما حلّ بجمعها من كارثة حقيقية » .
العجيب في تلك التظاهرة ، أن الخنازير البريّة تقدّمت الجموع ، وهي تهزّ بمؤخراتها السمينة على وقع الأهازيج ؛ فكان موكبها الظريف قد استثار طيور الإوز ، التي راحت تحلّق فوقها ، وهي تزعق مبتهجة .
وبذل المراسلون مجهوداً لا يُوصف بإرسال تقاريرهم إلى كل الأرجاء ، عن طريق قرع الطبول من مكان لآخر ، كما يفعل الزنوج في الغابات الأفريقية .
في ذلك اليوم ، انكمش كتاب ( كليلة ودمنة ) ألماً ، ولو كان " ابن المقفّع " قد رأى ما يحصل لندم أشدّ الندم على ما خطّت أنامله .
حالما نزل الغسق ، انفضّت التظاهرة ، وأوى كل حيوان إلى وكره . وما أن سكنت قليلاً والتقطت أنفاسها ، حتى بدأ يتراقص أمام عيونها ما هو أسوأ شيء في البراري ؛ إذ عاد الجميع إلى حيوانيتهم المتأصّلة ، وهم يحلمون بأن تغرق أسنانهم في لحم ساخن ، طري . فشرعوا بالبحث عن غذائهم ، تقود بهم غريزة الافتراس .
وكان " ابن المقفّع " ، آنئذٍ ، يقيم في ضيعة لطيفة ، من ضياع مدينة البصرة ، كثيرة النبات والأشجار ، معتكفاً على نفسه ، ومنصرفاً إلى كتاباته ، حينما طلّ عليه خادمه الأمين ، ليخبره بما تناهى لسمعه في شأن الحيوانات والطيور ؛ ولم يتخلّف عن إخباره بتحاملها على شخصه البريء بالقول :
« إنها يا سيدي قد عزمت على النيل منك وقتلك ، وهي ترى أنك سبب كل نازلة تلمّ بها » .
اهتزّ " ابن المقفّع " ضاحكاً من طرافة هذه الأخبار ، وردّ على خادمه يقول :
« بتنا لا نسمع من الكلام غير ما يضحكنا ويثير سخريتنا ، هذه المخلوقات هي طيوري وحيواناتي الجميلة ، دعْها تأتي وتفترسني متى ما طاب لها ذلك » .
ولم يكن الرجل قد حمل هذا الخبر محمل الجد ، ولا تنبّه واحترس من شيء . حتى جاء يوم أخذت فيه تلك الحيوانات تظهر في تلك الأرجاء ، وهي تحوم حول سكن " ابن المقفّع " ، من غير أن تدع أحداً يكتشفها أو يشكّ في أمر وجودها .
في إحدى الليالي المقمرة ، كان " ابن المقفّع " جالساً في حديقة الدار ، وإلى جنبه مصباح زيت متوهّج الضوء ، وهو منكبّاً على المطالعة في مخطوط كبير الحجم . كانت عمّته تقبع إلى القرب منه ، وأنامل كفّه تعبث بشعره الطويل ، المسترسل على جانبي وجهه . كان المصباح الصغير يبعث دخاناً خمري اللون ، ولاح خيط الدخان مثل عرق سوس يخط على لوحة الليل السوداء كلمات ورموز مبهمة تنذر بالشر المستطير . وفجأة ، ومن دون أدنى جلبة ، انطلق غصن شجرة صلب يشبه الرمح القصير تماماً ، من بين طيّات الظلام الذي يلفّ المكان ، في سرعة خاطفة ، لينبت في ظهر " ابن المقفّع " ويطيح به منكفئاً على كتابه ، وهو يطلق صرخة ألم مدوّية ، وراح الدم يشخب من ظهره . تحامل على نفسه ، ورفع جذعه إلى الأعلى ، وهو يستاف الهواء بصعوبة بالغة ، ثمّ التفت ببطء وألم إلى الخلف ، حتى استطاع أن يرى شيئاً يسيراً من قوام عدوّه المتخفي بين الأشجار ، ولكن نباهة " ابن المقفّع " وفطنته يسّرت له تشخيص العدو في الحال ؛ فجحظت عيناه ذهولاً ومرارة ، وهو يرى أجمل حيواناته قاطبة ، كليلة ودمنة .
#محمود_يعقوب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هاروكي موراكامي في مذكرات أسفاره . محمود يعقوب
-
أن تقرأ ( الأمريكي القبيح ) في العراق . قصة قصيرة
-
المزامير قصة قصيرة
-
الحذاء
-
كفى نواحاً يا هوراكي موراكامي
-
الخروج من سجلماسة
-
بشر الحافي في ثورته الروحية
-
اليقظات قصة طويلة
-
روعة اللمسة الأخيرة / قصة طويلة
-
تحت جسر الهولندي قصة طويلة
-
التاريخ السري للعقرب / قصة طويلة
-
يوميات معتقل سياسي
-
فورة الشكوك
-
الشجرة الرابعة
-
أكاليل حب إلى نقاهة الشاعر خلدون جاويد
-
عصفور الشطرة الكحلي
-
حامل شمعة الحب .. ( سمنون المحب )
-
بائع الصُوَر المقدسة : قصة
-
النوم مُبتَلاّ ً : قصة قصيرة
-
أسرار النجم الغجري
المزيد.....
-
الثقافة السورية توافق على تعيين لجنة تسيير أعمال نقابة الفنا
...
-
طيران الاحتلال الاسرائيلي يقصف دوار السينما في مدينة جنين با
...
-
الاحتلال يقصف محيط دوار السينما في جنين
-
فيلم وثائقي جديد يثير هوية المُلتقط الفعلي لصورة -فتاة الناب
...
-
افتتاح فعاليات مهرجان السنة الصينية الجديدة في موسكو ـ فيديو
...
-
ماكرون يعلن عن عملية تجديد تستغرق عدة سنوات لتحديث متحف اللو
...
-
محمد الأثري.. فارس اللغة
-
الممثلان التركيان خالد أرغنتش ورضا كوجا أوغلو يواجهان تهمة -
...
-
فنانو وكتاب سوريا يتوافدون على وطنهم.. الناطور ورضوان معا في
...
-
” إنقاذ غازي ” عرض مسلسل عثمان الحلقة 178 كاملة ومترجمة بالع
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|