|
قراءة القرآن
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7145 - 2022 / 1 / 25 - 16:35
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
في خضم هذه الأحداث المفجعة التي تهز منطقتنا الموبوءة بالفقر والتعاسة والعنف وسيطرة الفكر الغيبي، يمكن للمرء أن يواسي نفسه أحيانا في مواجهة اليأس والإحباط اليومي وتحت تأثير الكارثة التي يتنفس نتائجها في كل دقيقة وسط دوي الرصاص وغبار الخرائب ورائحة الدم والأشلاء والحرائق بأن "المسلم هو من قرأ القرآن، والملحد هو من فهم هذا القرآن". للأسف الشديد هذه المقدمة، رغم منطقيتها الظاهرة أوليا، وإمكانية صحتها في معناها العام، حيث ترسم صورة كاريكاتورية مبسطة للإنسان المسلم الذي وضع عقله بين قوسين في حالة توقف مؤقت أو دائم رافضا التفاعل مع العصر الذي يعيش فيه، هذه المقولة غير صحيحة وتعاني في جوهرها من خطأ أساسي لا يمكن تجاهله لإعتبارات فكرية أو أيديولوجية. هذا الخلل الأساسي في تركيب هذه الفكرة يرجع بطبيعة الحال إلى طبيعة الكلمات ذاتها وما يمكن أن توحي به بدلا من معناها الدقيق. فاللغة إذا ما تزال تشكل حاجزا يعتم الرؤية ويمنع الوضوح الفكري والوصول إلى الإحاطة بالكثير من المفاهيم الفلسفية البسيطة، مما دفع الكثير من التيارات الفلسفية المعاصرة إلى إختزال الفلسفة في "تحليل اللغة" كما هو الحال مع فريجة، برتراند رسل وفتجنشتاين والمدارس التحليلية الأنجلوساكسونية، حيث قاموا بنقد اللغة "العادية" لانها غير قادرة على التعبير بدقة عن النظريات الفلسفية والعلمية، فهي لغة كسيحة مشوهة مليئة بالاخطاء والملابسات، وهذا ما دفعهم الى البحث عن لغة علمية دقيقة وجديدة سماها برتراند رسل “اللغة المثالية” معتمدا على الرياضيات والمنطق. فـكلمة "القراءة" مثلا، لها معان متعددة ومختلفة، ففي الأدبيات الإسلامية مثلا لها علاقة مباشرة بالقرآن وهي مصدر الفعل قرأ، وقرأت الشيء أي جمعته وضممت بعضه إلى بعض، كما يقول ابن الأثير: "كل شيء جمعته فقد قرأته"، وسمي القرآن قرآنا لأنه جمع القصص القديمة والأوامر والنواهي الإلهية والوعد والوعيد والآيات والسور بعضها إلى بعض، وتعريف أبي حيان الأندلسي للقراءة: "علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ". فالقراءة هي علم يحدد كيفية النطق بألفاظ القرآن وكيفية كتابة ألفاظه ومواضع اتفاق نقلة القرآن ومواضع اختلافهم. من هذا المنطلق تكون الجملة "المسلم هو من يقرأ القرآن والملحد من يفهم هذا القرآن" لها جزء من الصحة، حيث القراءة هي مجرد نطق الكلمات أو كتابتها بطريقة معينة دون البحث أو الإهتمام بالمعنى الذي تشير إليه وهو ما يمكن تسميته بالجانب الآلي من القراءة. ولكن المشكلة أننا اليوم نعيش في عصر مختلف واللغة لم تعد ما كانت عليه منذ أربعة عشر قرنا ولم نكتب هذه الجملة من داخل الأدبيات الإسلامية ولا بلغة قريش، إنما من منطلق مغاير ويرمي إلى نقد هذا الفكر ذاته، واستعملنا كلمة القراءة بمعناها العام والعادي البسيط الذي يفهمه كل من تعلم القراءة والكتابة في أية مدرسة حكومية، والذي يتمثل في القدرة على التعرف على الحروف والكلمات، والنطق بها صحيحة، ثم فهم معانيها ومدلولاتها بواسطة العملية العقلية المعقدة التي تشمل الإدراك والتذكر والاستنتاج والتخيل والربط بين الكلمات والجمل، ثم التحليل والمناقشة؛ وهي "القراءة الناقدة" التي تحتاج إلى إمعان النظر وفهم الكلمات والجمل المقروءة. فقراءة القرآن أو أي نص آخر تبدو مستحيلة عقليا بدون إدراك معنى الكلمات ومدلولاتها. الإشكالية إذا في الجزء الثاني من المعادلة اللغوية أي في عملية "الفهم" ذاتها والإلمام بالنص كلية ثم اتخاذ موقف منه وتقبل هذا المعنى كليا أو جزئيا أو رفض مضمونه رفضا قاطعا وإعتباره كاذبا ولا علاقة له بالصحة. عملية "الفهم" إذا هي مصدر التناقض الظاهر بين المؤمن وبين غير المؤمن فيما يخص النصوص الدينية عموما والقرآن بصفة خاصة، هذا ما يبدو لنا لأول وهلة على الأقل. وعملية "الفهم" هذه تتعلق مباشرة بموضوع العقل وحدود إمكانياته وخارطته الداخلية وآلية تكوينه وتطوره على مدى الحياة الفردية والجماعية. فالعقل ليس عضوا من أعضاء الجسد الإنساني كالقلب أو الكبد أو الرئة أو البنكرياس له وظيفة بيولوجية محددة وثابتة ـ وإن كانت في علاقة عضوية مباشرة ومتبادلة مع بقية الأعضاء والجسد ككل ـ العقل هو الإنسان بكامله كوحدة وجودية تتفاعل مع بقية الوحدات الوجودية المتماثلة ومع العالم المحيط. العقل هو الإنسان بأعضائه ولحمه ودمه وأحاسيسه وذاكرته وخياله، العقل والجسد شيء واحد، وإن كنا لا نعني هنا الجسد البيولوجي المنفصل عن العالم كشيء مادي فقط، وإنما الجسد الذي يمثل العالم بكل نتوءاته وعواصفه وغيومه وذبذباته الكونية اللآمتناهيه. المؤمن الذي يقرأ القرآن، لا يقرأه فقط بعينيه أو بلسانه أو بعقله المنفصل عن جسده، ولكنه يقرأ النص بعقله وجسده ووضعه في العالم كـ "مؤمن" بقدسية النص وضرورة أن يهيء جسده وعقله وقلبه لإستقبال كلام الله. إن مصدر مثل هذه الجمل الإعلانية في إعتقادنا ناجم عن عدم تفهم عقلية الإنسان المؤمن والإستهانة بعقله واعتباره جاهلا أو كما قلنا في بداية الموضوع "وضع عقله بين قوسين في حالة توقف" وهو خطأ يجب تصحيحه، لأن المؤمن مثله مثل غيره أختار طريقا معينا في الحياة، وهذا الإختيار لا بد أن يأتي بعد تفكير وتدبير وتعقل. فهناك إذا ما يمكن تسميته بالمفارقة الغيبية، باعتبار الفكر الديني عموما فكرا غيبيا لارتباطه بفكرة الله والآخرة والثواب والعقاب وفكرة الخلق وكون الإنسان خليفة الله في الأرض وكون النصوص الدينية هي مصدر شرعية الفكر، وهذا الفكر الغيبي عادة ما يكون مرادفا للفكر اللاعقلي. ووضع العقلانية كنقيض للفكر الغيبي أدى ويؤدي إلى الكثير من الأخطاء في الحكم ويؤدي إلى التشويش النظري وعدم وضوح الرؤية. فالفكر الغيبي لا يمكن أن يكون إلا عقليا، فليس هناك مصدر آخر للفكر، كما أن العقلانية بدورها قد تقود إلى الفكر الغيبي بدلا من الفكر العلمي المستنير والمتقدم، كما هو الحال لدى العديد من الفلاسفة والعلماء ورجال ونساء البحوث العلمية المختلفة، والذين يؤمنون بالخرافات الدينية ويعبرون سياسيا عن فكر رجعي مظلم. فالمؤمن وغير المؤمن كلاهما يقرأ القرآن ويفهم ما يقرأه، الفرق الوحيد هو أن المؤمن يعتبر أن ما يقرأه هو كلام الله، أما غير المؤمن فيعتبره كلام محمد، وكلاهما توصل إلى هذه النتيجة بواسطة تفكيره وعقله، لأنه بكل بساطة لا توجد طريقة أخرى. وهذا ما يفسر بطبيعة الحال وجود ديانات ومذاهب مختلفة، فهناك من يؤمن بالله ولكنه في نفس الوقت يعتبر القرآن نصا محمديا وليس إلهيا، وهناك من يؤمن بالله ولكنه يعتقد أن الله يتعالى عن الكتابة واستعمال سعاة البريد لتوصيل كلامه إلى البشر .. إلخ. فالقضية إذا أعمق بكثير من القراءة والفهم وتتعلق بآلية العقل وكيفية تفاعله مع النظام الكوني الشامل ورؤيته لوضعه الخاص داخل هذه المنظومة المعقدة.
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
- أنا - لم تكتب هذا النص
-
الحجر الجيولوجي والحجر الأركيولوجي
-
عناقيد الهموم
-
الإنسان الإلكتروني
-
رطوبة الصمت
-
ثنائية العقل والجسد
-
الإنسان ومعجزة العقل
-
حكايةعن الجوع والحرية
-
عن الكابوس الليبي والندم
-
الحلم بليليث
-
عذاب القبر
-
سيجارة السابعة والنصف صباحا
-
الآخر ومنفى الأنا
-
الكابالا والفلسفة الحديثة
-
التصوف والعدم
-
اللغة كسلاح ملوث
-
الثورة .. والثورة
-
عار الكلمات العارية
-
أزمة العقل وضرورة الثورة
-
المادة والثورة
المزيد.....
-
عملية مشتركة.. -سرايا القدس- تعرض مشاهد من قصف مقر قيادة وحد
...
-
عاجل: نيابة أمن الدولة العليا تستدعي حسام بهجت مدير المبادرة
...
-
نصائح مجدي يعقوب لصحة القلب
-
ناجون من حادث غرق قارب سياحي مصري يتهمون السلطات بالتغطية عل
...
-
الطيران الإسرائيلي يستهدف رتلا لإدارة العمليات العسكرية في ا
...
-
الحلم السويدي بات أصعب.. ستوكهولم تفرض شروطا جديدة للحصول عل
...
-
سفير إيران في روسيا: تحالف طهران مع موسكو وبكين يشكل تحديا خ
...
-
الناتو يقرر نشر سفن وطائرات ومسيّرات في بحر البلطيق، ما الهد
...
-
وفاة راكب خلال رحلة على متن طائرة فرنسية والسلطات الأميركية
...
-
قناة إسرائيلية تتحدث عن تفاصيل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة
...
المزيد.....
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
/ أحمد التاوتي
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
/ محمود الصباغ
-
العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا
...
/ محمد احمد الغريب عبدربه
-
تداولية المسؤولية الأخلاقية
/ زهير الخويلدي
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
المزيد.....
|