|
الرؤية الجماليّة كقيمة للإنسان
داود السلمان
الحوار المتمدن-العدد: 7143 - 2022 / 1 / 22 - 17:11
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
إنّ الحضارة لا يمثلها الغرب أو الشرق، بل يمثلها الإنسان القادر على تذوق الجمال أينما يراه. هذه العبارة المنسوبة إلى أحد الكتّاب أنا أعدُها بمثابة قاعدة عامة، قاعدة يمكننا، على مبناها هذا، أن نؤسس إلى نظرية ذوقية، بمقتضاها نجعل من الإنسان أن يكون ذا ذوق فاعل أمام القضايا المتعلقة بالجمال الذوقي، بحيث ينظر الى نفسه على أنه ليس جمادًا لا يتحرّك، أو مادة جامدة، بل هو روحًا ازاء مكامن الجمال في كلّ ما هو جميل، وإنمّا ينظر إلى نفسه كروح وثّابة تلتصق بالجمال حين تراه، كما تلتصق ذرة الغبار الصغيرة في رداء مملوء بالماء. فالقوة الذوقية، على كلّ مستوياتها، بما فيها الأخلاقية منها، لأنّ الأخلاق صفة حميدة تكمن في الإنسان ولا يحملها أيُ مخلوق آخر، كما أن صفة الإنسانية هي أفضل صفة يحملها هذا الإنسان ويتصف بها، كذلك الصّفات الأخرى كالشجاعة والكرم، وهذه الصفات بمجموعها تمثل القيمة الحقيقية التي بها يكون الإنسان إنسانّا، وبالتالي يستطيع الإنسان أن يرتقي للقمة الى أن يصل المستوى الذي يطمح بالوصول اليه، وهو تذوّق الجمال الأسمى، المتمثل بكل ما جادت به الطبيعة، ألا وهو الجمال. الجمال قد يكون في المواقف أيضا، فموقف إنسانيًا كأنْ يتمثّل بتقديم مساعدة عينية لمسكين، أو لمحتاج أو لملهوف، لامرأة لشيخ كبير، أو لطفل، يُعد ذلك الموقف إنساني ذوقي بامتياز؛ فلولاه لم يكن ذلك الإنسان، الذي قدم الموقف، يحمل ذوق جمالي نابع من إحساس مرهف، يعيّ به ويدرك قيمة ذلك الموقف، الذي سيُسجل له بحروف من ذهب. وطالما تحقق ذلك الموقف على يدّ ذلك الإنسان، وبالتالي تحقق الشرط الذي بنينا عليه الفعل، أي فعل صاحب الوقف. للكاتب مصطفى صادق الرافعي، معنى آخر لجمال، غير المعنى الذي ذكرناه، فعنده الجمال: إنمّا هو معنى من المعاني الحبيبة يعلق بالنفس فيُحدث فكرًا متمكنًا تتطاوع له هذه النفس العاشقة حتى ينطبع في أعصابها فيستولي على الإنسان كله بجزء من عقله؛ ومن ثم يتقيد المحب بقيد لا فكاك له؛ إذ لا يجد ما ينتزعه من عقله أو ينتزع عقله منه إلا أن يموت أو يُجن، وهو من ذلك المعنى محتبس في قفل لو ضغطت عليه السموات والأرض لما تسنى ولا انكسر، وليس إلا الحبيبة وحدها هي فتحه وإغلاقه. ويقول مضيفًا: وبهذا يكون الجمال على مقدار ما يُحسن الإنسان أن يفهم منه، ثم على مقدار ما يُؤثر من هذا الفهم، ثم على مقدار ما يثبت من هذا التأثير، وتلك هي درجاته الثلاث: فجمال تستحسنه، وآخر تعشقه، وجمال تُجن به جنونًا. ويفصل الرافعي الجمال على ثلاث مستويات التالية: والأول تجود به الطبيعة في أشياء كثيرة، بل هو الأصل في الخلق، ولكنا لا نتنبه منه إلا لما نجد فيه روحًا على القلب ورقة للنفس وترفيهًا لهما؛ وهذا الجمال خاضع للإنسان، ومن ثم فلا سلطان له إلا بعض الميل والرغبة في النفس، ومنه كل مناظر الطبيعة. والثاني تعلو به الطبيعة عن هذه الطبقة وتُنزله منزلة أعلاقها وذخائرها النفيسة، وتتسلط به على بعض النظام الإنساني كما تتسلط بهذا النظام على بعضه فيحب الإنسان ويسلو، ويمرض بالحب ثم يصنع بيده دواء مرضه ويشرب منه السلوان والعافية … إذ هو بإزاء الجمال الذي يتسلط من ناحية ويخضع من ناحية تقابلها. والثالث لا يجده من يجده إلا مرة واحدة كما أنه لا يموت إلا مرة واحدة، وهو من خوارق الطبيعة التي كل نظامها أن العقل لا يعرف لها نظامًا؛ وما هو إلا أن يصوب الإنسان رأسه فإذا هو عند جنون الحب، وإذا هو بجنونه فوق العقل والمعقول. ونحن قد نختلف بعض الشيء فيما طرحه الأديب الرافعي، وما أدلى به من رأي في الجمال ثم تصنيف الجمال الى ثلاث مستويات، لأننا لا نريد هذا المعنى الذي ذكره، وإنما أتينا بذكر رأيه حتى لا يتقوّل علينا القارئ الكريم، على أننا قد تغاضينا عن معانٍ أخرى من معاني الجمال. ثمُ هناك يظهر الجمال في الفن، بل أنَ جمال الفن هو من أرقى خصال الجمال، ذلك لما للفن من خصلة تعلو عن سواها كونها تهيج الحس الذوقي للسامع أو المشاهد. وهو ما تحث عنه شوبنهور، بحسب ما نقله لنا عباس العقاد، حيث يقول: "وأَقْوَم ما في رأي شوبنهور في معنى الجمال الفني هو قوله إن مهمة الفن هي فصل الشكل «القالب» عن المادة لا أن يحكي لنا الشكلُ والمادةُ معًا حكايةً صحيحة محكمة؛ لأن الفن موكل بالصور الباقية والنماذج الخالدة لا بالكائنات التي توجد في الحياة مرةً واحدةً، ثم تمضي لطيتها غير مكررة ولا مردودة، فإذا أراد المصوِّر أن يمثِّل إنسانًا لفت نظره فليس الذي يعنيه من ذلك الإنسان أنه فرد من أفراد نوعه مستقل بمادته وشكله وعمره، ولكن الذي يعنيه منه أنه «قالب» يصلح أن يكون نموذجًا عامًّا لأفرادٍ كثيرين أو للنوع كله، وهذا النموذج هو الذي يأخذه المصوِّر، ويفصله عن مادته ليمثِّله مستقلًا عنها إما في تمثالٍ أو صورةٍ أو قصيدةٍ من الشعر تُنسِيك الرجل الفاني بما تروي لك عنه من الأشكال الإنسانية الخليقة بالدوام ومعانيها التي تعبر عنها تلك الأشكال". وثمّة من يتمثل له الجمال في كتاب يشتريه ليطلع على ما في طياته من معان وجمال معرفي، جمال ذوقي يروم من خلاله الوصول الى مكامن الجمال الحقيقي الذي يشع من طيات تلك الصفحات وتلك الوريقات، بل ومن خلال ذلك المعنى المنحوت داخل رسم المفردات، وجمل والسطور والكلمات التي رسمها المؤلف كمعنى من معاني الجمال المتواري خلفها، ويريد القارئ أن يصل اليه عبر فكره ومخياله، يصل اليه من بزوق وعيه وقراءته ذلك الكتاب، وهذا برأيه قمّة من قمم الجمال التي يربو اليه كل مفكر وكلُّ أديب، بل وكل فيلسوف. وأمّا كانْت فذهب إلى أن التجربة الجمالية إنما تقوم بين عالم الإرادة الأخلاقية وبين عالم الطبيعة، وأن الإنسان بوصفه كائنا أخلاقيًا يحيا في مجال يتفق فيه ورغباته الروحية. وهذا المبحث ما يسميه كانت بـ "أحكام الذوق" ويلاحظ أنه، حتى لو كانت تلك الأحكام مبنية على مشاعرنا الذاتية، فإنه يرى أيضًا أن لديه صلاحية كونية تختلف مشاعرنا عن الجمال عن مشاعرنا حول المتعة أو الأخلاق في كونها غير أنانية، لأنه إذا أردنا أن نحصل على أشياء ممتعة ونسعى إلى تعزيز الخير الأخلاقي، فإن الجمال مطلوب لنفسه. ونستخرج من كلّ ما سبق، إنّ الخُلق، بالإضافة ‘لى ما نوهنا اليه، الخُلق ذوق وبالتالي فهو جمال، فالذوق هو صفة من صفات حامل الخُلق والذوق، وعليه فأنّ علماء الأخلاق ومنهم ديفيد هيوم يؤكدون على الأخلاق أكثر من سواها، ويحثون جميع البشر على التحلي بها، كونها صفة ممتازة لدى المتحلي بالأخلاق، ويُعدوه هو الإنسان السويّ الذي يستحق أن ينطبق عليه مفهوم "الإنسان"؛ فالأخلاق بحسب ايمانويل كانت هي أفضل من الدين، فكم من إنسان يحمل بين جنبيه بذرة الدين، لكنّه لا يرتقي إلى مصاف صاحب الخُلق الرفيع، إلّا إذا كان ذلك المتديّن يحمل أيضًا صفة الأخلاق، فأنه سيرتقي بصفة الأخلاق أكثر من ارتقائه بصفة الدّين؛ لأن الدين له محاسن كما أنّ له مساوئ، وسيأتي ذلك في محله من هذا الكتاب. وقد يسئل سائل: هل أنّ "الأخلاق" عوامل مُكتسبة (يكتسبها الإنسان من بيئته المحيطة به، أو أنه يورثها من أسرته، أم هي كالنبتة، طالما أنّ النبتة تكتسب كلّ الصفات عن طريق الوراثة؟. والجواب: ثمّة من يعتقد أنّ الأخلاق هي صفة مكتسبة حيث يكتسبها الإنسان من والديه ومن أسرته عن طريق التقليد والتلقين والإرشاد. وآخر من يرى: إنّ الأخلاق تنشأ مع الإنسان وتنمو كما تنمو النبتة وتترعرع، ثم تكبر وتزدهر وتحمل ثمارًا ناضجة، كذلك الأخلاق في الإنسان تبدأ تدريجيًا بالنمو، حتى تصل الى مرحلة النضوج. أمّا نحن فنحن نرى أن الأخلاق تتخللها عوامل نفسية، وأخرى بيئيّة وثالثة تربوية، ورابعة معرفية. وكل هذه العوامل إذا احاطت بالشخص، إحاطة تامة، سوف تجعل منه إنسانا خلوقا ينال سمعة جيدة في المجتمع الذي يعيش فيه، وسيكتسب رضى الناس جميعًا. ونعني بـ"النفسية"، إنّ الشخص الذي يعيش مطمئن النفس في أسرة تتوافر فيها شروط الأسرة الناجحة، فهو سيتأثر بتلك الأسرة ويكتسب سجاياها، بشرط أن لا يصاحب أصدقاء سوء. وأمًا البيئة فلها مردودها الإيجابي والسلبي معّا، فإذا كانت الأجواء العامة لتلك البيئة إيجابية فسيكتسب الشخص تلك الصفات، وأمّا إذا كانت تلك الأجواء بائسة وفيها جوانب بيئية ملوثة وخانقة، وغير الصالحة للعيش الكريم، فستعكس صورة تلك الحال على نفسية الشخص الذي عاش وتربى في احضانها. وعليه، تحثّ كثير من الدراسات، المتعلقة بالبيئية، على الاهتمام بتنظيف البيئة وعلى عدم تلوثها، وتحذر الناس من السكن بقرب الاماكن الملوثة، لأنّ تلك الأماكن ستسبب أمراض نفسية وعضوية خطيرة معًا على الإنسان.
#داود_السلمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
متى يُهزم الإنسان؟
-
متى صار الإنسان متفلسفًا؟
-
وتريّات منسيّة!
-
مفهوم الدين لدى جوستاف لوُبون(2)
-
مفهوم الدين لدى جوستاف لوبون(1)
-
كيفَّ أُعبّر عن صلواتي
-
اللاجدوى وعبثية الحياة: الغور في فراغ أجوف
-
أناشيد الليل
-
بوح!
-
عطرك يليق بسمعة بساتيني
-
الى عمر الخيام
-
محطات مؤجلة
-
حفلة شبه تنكرية
-
احتساء الشعر و رمزية الجمال في (احتسي الشعر) لوليد حسين
-
الصين وامريكا مَن سيهزم مَن؟
-
قراءة اولية في فكر الدكتور خزعل الماجدي1/ 6
-
السعادة بين ابن خلدون و دوستويفسكي
-
قراءة اولية في فكر الدكتور خزعل الماجدي/ المقدمة
-
قراءة اولية في فكر جوستاف لوبون 4/ 4
-
قراءة اولية في فكر جوستاف لوبون 3/ 4
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|