أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - شحاذون














المزيد.....

شحاذون


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 7111 - 2021 / 12 / 19 - 11:40
المحور: الادب والفن
    


Facebook: @NaootOfficial

في إحدى مدن اسكتلندا القديمة، كنتُ أتجوّلُ حتى استوقفني تمثالٌ من البرونز لفارس مُدجّج بالسيوف والدروع. يضعُ فوق كتفيه شالا ذهبيًّا ويعتمر خوذةً فضيّة برّاقة. وجهه برونزيٌّ لامعٌ جامدُ الملامح عَبوسُها؛ كما يليقُ بمحارب من العصور الوسطى. ينتصبُ الفارس المصقولُ أمام بوابة خشبية مغلقة بلوحين متقاطعين من الخشب مثبتتين بمساميرَ وصواميلَ حديدية ضخمة وسلاسل. أنظرُ في عيني الفارس فلا أرى إلا خواءً يرنُّ صداه في عمق الأزمنة السحيقة؛ فتساءلتُ: تُرى كم قتيلا قتلَ هذا السيفُ وكم طعنةً ردّها درعُه؟ غيرُ المفهوم أن سلةً من الخوص تقبع تحت قدمي الفارس بها بعض العملات المعدنية من فئة الجنية الاسترليني ومضاعفاته! لماذا يهبُ الناسُ أموالهم لتمثال؟! ثم تذكّرتُ مقولة علي بن أبي طالب: "لا تستحِ من إعطاء القليل فإن الحرمانَ أقلُّ منه"، فقررتُ أن أجازفَ بثروتي وأضع بضعة جنيهات إنجليزية في السلة تيمنًّا بعصر الأبطال القدامى، وأنا أحسبُ أن المال يذهب إلى دار أيتام بريطانية أو مؤسسة خيرية. وفجأة يبتسمُ وجه الفارس الفولاذي، وينحني أمامي انحناءة جنتلمان يحيي سيدة من نبيلات القرون الوسطى، ثم تمتد يده ببطء تلتقطُ يدي، ويطبعُ عليها قبلة. شحاذ؟!!!! نعم شحّاذ. فالأوروبيون يُبدعون في طرائق الشحاذة فتفوقوا على مخرجي الأفلام. واحدهم يعزف على جيتار أو فيولين أو أكورديون. واحدهم يطلي جسده بالبرونز وبودرة الذهب ليصير تمثالا لا تدخله الحياةُ إلا بعدما تدفع. وللشرق في ذلك فنون أخرى. مثل ترويض الثعابين وابتلاع النار والنوم على المسامير، مثل الحواة والسحرة في الهند والمغرب وفي مصر كذلك. أساليبُ طريفة لاستخراج المال من جيبك مقرونة بالابتسامة على وجهك، فتتحوّل "الشحاذةُ" إلى طقس مرح، بدلا من طلب المال بالتوسّل والتسوّل والدموع.
ومفردة "شَحَذَ" في اللغة تعني: أحدَّ نصلَ السيف أو صقلَه، كذلك شحَذَ البصرَ فأحدّه وحدّق جيدًا، وشحذَ الناسَ أي ألحَّ عليهم بالسؤال والتسوّل. وقال أحدُ الشعراء الصعاليك في ذلك بيتًا شعريًّا طريفًا: "وإني لأستحي من الله أن أُُرى/ أجرجرُ حبلاً ليس فيه بعيرُ/ وأن أسألَ الخبَّ اللئيمَ بعيرَه/ وبُعران ربّي في البلاد كثيرُ".
وثمة شحاذةٌ من نوع آخر يعرفها الفلاسفة. كما عرفنا عن الإغريقي "ديوچين" الذي كان يحمل مصباحًا في رابعة النهار، وهو الأعمى، ليبحث عن الحقيقة. ثم ينامُ في صندوق قذر بملابس رثّة غير عابئ بالدنيا من حوله، متأملا الكون والحياة. ولما جاءه الإسكندر الأكبر عارضًا عليه أن يطلب أي شيء يريد فيحققه له في الحال، أجابه ديوجين بصلف وكبرياء: "فقط اِبعدْ، فإنكَ تحجبُ الشمسَ عني!"
وأما أشهرُ الشحاذين في الأدب العربي المعاصر فهو "عمر الحمزاوي" بطل "الشحّاذ" لنجيب محفوظ الذي تحلُّ ذكرى عيد ميلاده هذه الأيام. وأراها أجملَ رواياته، عطفًا على "الطريق" و"ثرثرة فوق النيل". محامٍ لامع ثريٌّ وناجح على صعيد الصحة والعمل والحياة والأسرة. كان شاعرًا في شبابه. أصدر ديوانًا ثم هجر الشعرَ بعدما انخرط في المحاماة، وفي الحياة. وفجأة، في منتصف العمر، يفقد الحماسَ لكل شيء وتخمُل قواه وتخمُدُ طاقتُه دون سبب مفهوم. يضيقُ بالعمل وبالناس وبالحياة وبنفسه. يبحث عن الرضا دون جدوى. ويظلُّ يطارد السعادةَ في شتى مكامنها ومظانّها المغلوطة: اللهو، الخمر، النساء، المخدرات، السفر. وفي الأخير راح يبحث عن الله. فيتردد في عمقه السحيق قولٌ يختتمُ الروايةَ: "إن كنتَ حقًّا تريدُني فلمَ هجرتني!؟ هي أحد أمراض البرجوازية والرفاه. لكنه المرضُ والعوَزُ الأشد وجعًا من عوز المال والصحة. يهرب من الدنيا ليجد ذاته فلا يجدها. ويغرق في الأحلام والفانتازيا. ويزعجه أن الدنيا لا تتركه حتى في أحلامه. فيقول لأصدقائه وأهله إذا زاروه في الحلم: "زولوا لأرى النجوم".
وثمة ُ"عمَر" آخر أعرفه. غزيرُ الشَّعرِ أسودُه. مثل الشحّاذ البطل. لكنه طفلٌ. لا يبحث عن الحقيقة ولا يطاردُ السعادة. بل يفتّشُ عن نفسه وسط الكثرة. يرجو الوحدةَ شأن المتوّحدين. ينأى عن العالم والضجيج ويبني عالمه الخاص من قشور البرتقال والقناني الفارغة وأغطية القوارير. يغمسُ الريشةَ في اللون ويرسمُ سماءً ونجومًا وشمسًا وقمرًا. في مقدمة اللوحة تنينٌ ضخمٌ يلفظُ ألسنةً من لهب حارق. وفي الركن السفليّ إنسانٌ ضئيلٌ خائفٌ يرتجف. لا حول له، ولا قوة. حرٌّ يعيشُ بقانونه الخاص الذي لا يتفقُ مع قوانين البشر. يجمع معًا ما لا يجتمع، ويبني عالمًا جميلا لا كراهية فيه ولا بغضاء! هذا "عمر" ابني المتوحد الجميل، الذي علّمني أن الحبَّ هو قانون الحياة الأسمى والأرقى. “الدينُ لله، والوطنُ لمن يحبون الوطن.”
***



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- “إحنا- … ضدّ التحرّش!
- كيف تنمو الموهبة؟
- -النظارةُ البيضاء- … تفضحُ دنيا النفاق
- هل أنت عُكازٌ … أم مِرآة؟
- ڤان ليو … قنّاصُ الجميلات
- مجدي يعقوب… له خفقةٌ في كلِّ قلب
- ماذا قالت -مايا آنجلو- في السبعين؟
- لعنَ اللهُ من أيقظها!
- الرجلُ الشريرُ الذي أفسدَ الكوكب
- مكافحةُ الغلاء … بالاستغناءِ وعدم الهدر
- مبادرة لمكافحة الإدمان والبلطجة
- المبادرة الرئاسية لمكافحة الإدمان والبلطجة
- أبصرتْ العمياءُ فجأةً … ولم تجد كتابًا!
- توم الخزين … يا توم
- ريش ... دميانة نصار
- لماذا تكرهون هذا الرجل؟
- حتى لا يظلَّ التنويريون بين أنياب الظلاميين!
- المحتسبون … ولعبةُ الخروجِ من الكوكب
- هنا البحرين… على شرف الشِّعر واللؤلؤ
- أنا أتبرّعُ بأعضائي بعد الوفاة


المزيد.....




- عاجل | حماس: إقدام مجموعة من المجرمين على خطف وقتل أحد عناصر ...
- الشيخ عبد الله المبارك الصباح.. رجل ثقافة وفكر وعطاء
- 6 أفلام تتنافس على الإيرادات بين الكوميديا والمغامرة في عيد ...
- -في عز الضهر-.. مينا مسعود يكشف عن الإعلان الرسمي لأول أفلام ...
- واتساب يتيح للمستخدمين إضافة الموسيقى إلى الحالة
- “الكــوميديــا تعــود بقــوة مع عــامــر“ فيلم شباب البومب 2 ...
- طه دسوقي.. من خجول المسرح إلى نجم الشاشة
- -الغرفة الزهراء-.. زنزانة إسرائيلية ظاهرها العذاب وباطنها ال ...
- نوال الزغبي تتعثر على المسرح خلال حفلها في بيروت وتعلق: -كنت ...
- موكب الخيول والموسيقى يزيّن شوارع دكا في عيد الفطر


المزيد.....

- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري
- نحبّكِ يا نعيمة: (شهادات إنسانيّة وإبداعيّة بأقلام مَنْ عاصر ... / د. سناء الشعلان
- أدركها النسيان / سناء شعلان
- مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111 / مصطفى رمضاني
- جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- رضاب سام / سجاد حسن عواد
- اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110 / وردة عطابي - إشراق عماري
- تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين / محمد دوير


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - شحاذون