|
هذا الهندي الموهوب هو الأجدر بقيادة الأمم المتحدة
عبدالله المدني
الحوار المتمدن-العدد: 1656 - 2006 / 8 / 28 - 09:02
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
مع قرب انتهاء ولاية الأمين العام الحالي للأمم المتحدة كوفي أنان في ديسمبر القادم تشتد المنافسة بين الطامحين لخلافته، و جلهم من آسيا التي لم تحظ بقيادة المنظمة الدولية سوى مرة يتيمة في الستينات حينما اختير الدبلوماسي البورمي يوثاند.
في قائمة المتنافسين أسماء رشحتها دولها رسميا مثل وزير خارجية كوريا الجنوبية " بان كي مون" و نائب رئيس وزراء تايلاند " سوراكيارت ساتيراتاي" و مساعد الأمين العام السابق السريلانكي " جايانثا دانابالا"، و أخرى متداولة بطريقة غير رسمية مثل ولي عهد الأردن السابق الأمير الحسن بن طلال و رئيس وزراء سنغافورة السابق " غوه تشوك تونغ" و مدير البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة التركي كمال درويش. غير أن أحدث القادمين إلى حلبة المنافسة هو الهندي " شاشي تارور" الذي طرحت نيودلهي اسمه مؤخرا و صار يتقدم على الآخرين. ففي تصويت تجريبي غير رسمي جرى في مجلس الأمن هذا الشهر، حل تارور ثانيا بفارق بسيط عن المرشح الكوري، رغم انه لم يمض على تداول اسمه سوى شهر، و لم يقم بما قام به الآخرون من اتصالات و حملات على مدى أكثر من عام.
و الحقيقة انه لو كانت المؤهلات العلمية و العملية و الشخصية هي وحدها المعيار الحاسم في اختيار من يشغل المنصب، و لم تكن العملية برمتها خاضعة لمساومات سرية بين القوى الدولية المؤثرة ، و متأثرة بمصالح و أجندات دولية وإقليمية متباينة، لكان تارور هو الأفضل بجدارة.
فهذه الشخصية الكاريزمية التي تطغى على صورتها مسحة من الهدؤ و البشاشة و السلام الذي هو من صلب أهداف المنظمة الدولية، و ينتمي إلى بلد يجسد بديمقراطيته و بتآلف قومياته وطوائفه وأديانه و ثقافاته صورة مصغرة لما تنشده هذه المنظمة للعالم، هو صنيعة الأمم المتحدة. ذلك انه بمجرد حصوله على الدكتوراه من كلية فليتشر للقانون و الدبلوماسية التابعة لجامعتي توفتس وهارفارد الأمريكيتين في عام 1978 التحق بالمنظمة ليتدرج في مناصبها منذ ذلك الحين دون انقطاع. فمن رئاسته لمكتب الأمم المتحدة في سنغافورة و إدارته الناجحة لعملية إغاثة لاجئي القوارب الفيتناميين في نهاية السبعينات إلى قيادته لمفوضية اللاجئين الدولية في جنيف حتى عام 1989 حينما انتقل إلى نيويورك ليتولى من هناك الإشراف على عملية السلام في يوغسلافيا السابقة. ومن منصب المساعد التنفيذي للامين العام ما بين عامي 1997 و 1998 إلى منصب مدير الاتصالات و المشاريع الخاصة بمكتب الأمين العام ما بين 1998 و 2001 ، فإلى منصب الأمين العام المساعد لشئون الاتصالات و المعلومات منذ يونيو 2002 والذي وضع تحت إمرته 428 موظفا في نيويورك و أكثر من 300 آخرين حول العالم. هذه الرحلة الطويلة في أروقة المنظمة وفروعها على مدى 28 عاما، أكسبته خبرة يفتقدها منافسوه، بل جعلته الأقدر فهما للتحديات التي تواجهها الأمم المتحدة في القرن الحالي و لمتطلبات إصلاحها، و الأكثر قربا من سياساتها و أهدافها و برامجها، على خلاف المرشحين الآخرين الذين انصبت اهتماماتهم على سياسات بلادهم و علاقاتها الخارجية.
و تارور المولود في لندن في عام 1956 لأسرة من ولاية كيرالا و لأب عمل طويلا في الصحافة الهندية، هو أيضا ابن بار للأمم المتحدة، بدليل انه حينما سئل عن الأسباب الذي تجعل إنسانا موهوبا مثله يتنافس على المنصب الذي وصفه أول أمناء المنظمة النرويجي " تريفي لي" بأنه أكثر المناصب تعقيدا و استحالة على وجه الأرض، رد قائلا " إني مؤمن بهذه المنظمة وأهدافها و أهمية بقائها، و اشعر أنها قطعة مني و بالتالي اعتقد أني قادر على القيام بعمل جيد لصالحها".
و الحديث عن قدرات الاضطلاع بمهام المنصب الدولي الأعلى لو كان صدر عن آخرين لقيل انه حديث استهلاكي لأغراض انتخابية. لكنه في حالة تارور تدعمه عبقرية فذة و روح قتالية و قدرة نادرة على العمل المتواصل لأكثر من 18 ساعة في اليوم . فهذا الذي ترعرع متنقلا ما بين بومباي و كلكتا و دلهي حتى نال من كلية سانت ستيفن في الأخيرة ليسانس التاريخ بامتياز فكوفيء بمنحة لإكمال تعليمه العالي في أمريكا، حصل على الدكتوراه في سن الثانية والعشرين، أي في السن الذي يحصل فيها الآخرون على شهادة البكالويوس، ليصبح وقتها اصغر طالب في العالم ينال هذا الشرف. غير أن عبقريته سابقة على ذلك، بدليل انه بدأ يكتب القصص في سن السادسة و نشرت له الصحافة أولى محاولاته الجادة في سن الثالثة عشرة، و حصد العديد من ميداليات التميز الذهبية في مراحل التعليم الأولية المختلفة. و بالمثل، أفضت روح التحدي الكامنة فيه إلى قراءة 365 كتابا في عام واحد، أي بمعدل كتاب كل يوم، حينما كان في سن الثانية عشرة.
و هكذا فلا غرابة في صعود نجم تاروت لاحقا في ميادين الصحافة و الأدب و التأليف على المستوى العالمي، ليكون له عالمان منبعهما ضمير واحد مهموم بالإنسانية: الأول عالم الكتابة الذي خصصه حصريا لتناول شئون الهند و شجونها من خلال عدد لا يحصى من المقالات في كبريات الصحف العالمية، إضافة إلى أربعة مؤلفات سياسية و أربعة روايات، حصل بعضها على جوائز مثل جائزة الكومنولث لأفضل كتاب في عام 1991 و جائزة الاكسيلسيور في الأدب لعام 1998 . وآخر مؤلفاته صدر العام الماضي تحت عنوان Bookless in Baghdad الذي استوحاه كما يقول من تجواله في سوق الكتب القديمة في بغداد و تأثره من منظر عراقيين كثر من الطبقة المتوسطة و هم يبيعون مكتباتهم الشخصية على قارعة الطريق من اجل دراهم قليلة تعينهم على أعباء الحياة.
و يعلق الكاتب البريطاني " مايكل فيلد" على موهبة تارور الأدبية قائلا " انه ماهر في إيجاد مساحة بين الأبيض و الأسود، لكن دون أن ينزل بكل الأشياء إلى مستوى اللون الرمادي". أما النقاد الآخرون فوجدوا في روايته Riots الصادرة في 2001 تحفة فنية منسوجة بإتقان حول الأديان و الثقافات و العلاقات الإنسانية و مشاعر الحب و الكراهية واستحالة معرفة الحقيقة، على خلفية ما حدث بعد هدم المسجد البابري في أيوديا في عام 1992 . أما كتابه The Great Indian Novel الصادر في 1989 فوصف بأنه أفضل ما كتب عن تاريخ الهند المعاصر بصيغة رواية تجمع ما بين المتعة و المعلومة. و في أسباب حرصه على الكتابة رغم أعبائه الكثيرة، يجيب تارور مستعيرا مقولة جورج برنارد شو الخالدة " أنا اكتب لنفس الأسباب التي تجعل البقرة تدر حليبا"، مضيفا انه سوف يعاني و يتألم إذا لم يضع مشاعره و إرهاصاته على الورق مثلما تعاني البقرة التي لا تحلب.
أما عالم تارور الثاني فهو عالم الأمم المتحدة الذي يعطيه إحساسا بالتأثير في أحوال البشر في كل مكان. و في هذا السياق قال ذات مرة انه لم يأوي قط إلى فراشه لينام نوما هادئا مثلما حدث في سنوات عمله في سنغافورة حينما كان يخفف كل يوم من عذابات لاجئي القوارب الفيتنامية و يشعر انه حقق إنجازا. و في رأي تارور أن قضايا ملحة في العالم النامي مثل الفقر و المجاعة والكوارث الطبيعية و الايدز و استخدام الأطفال في الحروب الأهلية، همشت لصالح الانشغال الشديد بملفات سياسية إقليمية معينة و بما جعل مصداقية الأمم المتحدة ودورها موضع تساؤل و تشكيك في السنوات الأخيرة. ويضيف انه إذا ما خلف كوفي أنان فسوف يعطي الأولوية لملف التعليم في العالم الثالث باعتباره حجر الزاوية في أية تنمية، و تحديدا تعليم الإناث الذي يؤثر في الأسرة كلها.
بقي أن جهات كثيرة قد تضع العراقيل في طريق تارور بسبب هويته الهندية ليس إلا، خاصة أن العرف السائد في اختيار الأمين العام هو ألا يكون من دول كبرى أو إقليمية كبيرة. لكن الرجل يستطيع أن يجادل بأنه قضى معظم حياته خارج بلاده، و لم يشغل قط منصبا رسميا أو غير رسمي فيها أو يدخل معترك السياسة الهندية. و هنا يجدر بنا الإشارة إلى جوابه على سؤال حول ما سيفعله لبلاده لو فاز بالمنصب الاممي، إذ قال " لن أكون أمين الهند العام للأمم المتحدة و إنما أمينا عاما هنديا للأمم المتحدة". و الحقيقة أن ما دفع نيودلهي لترشيحه، ليس إعجابها بمواقف الرجل السياسية التي ثبت من كتاباته أنها لا تتطابق دائما مع السياسات الهندية و لا سيما فيما يتعلق بالشأن النووي، و إنما لأن فوزه سيكون مصدر فخر و اعتزاز للهند و تعويض مرحلي لها عن حلمها في مقعد دائم في مجلس الأمن.
د. عبدالله المدني باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية تاريخ المادة: 27 أغسطس 2006 البريد الالكتروني: [email protected]
#عبدالله_المدني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صواريخ حزب الله الإيرانية: فتش عن الدور الصيني
-
-جزار كمبوديا الأعرج- يرحل دون قصاص
-
طالبان قد تستفيد مما يجري في الشرق الأوسط
-
نهاية الإرث السياسي لآل باندرنيكا
-
باعاشير طليقا!
-
لماذا ننادي بعلمانية الدولة
-
هل -مرعي بن عمودي الكثيري- هو السبب؟
-
درس انتخابي من -كيرالا
-
بعض العرب إذ يحللون نووية إيران
-
سنغافورة كنموذج للمجتمع غير المسيس
-
كل الطرق تؤدي إلى آسيا
-
صناعة المعلوماتية ما بين الهند و الصين
-
الشباب الكوري يقود ثورة تكنولوجيا المعرفة
-
وزيرستان
-
عبدالرحمن في قبضة العدالة
-
رجل آسيا المريض يزداد عجزا
-
المساواة الجندرية كحل لمعضلة اليابان الديموغرافية
-
استباقا لازمة محتملة حول عرش الأقحوان
-
من يمول التطرف و العنف في بنغلاديش؟
-
خان عبدالولي خان
المزيد.....
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
قراءة ماركس لنمط الإنتاج الآسيوي وأشكال الملكية في الهند
/ زهير الخويلدي
-
مشاركة الأحزاب الشيوعية في الحكومة: طريقة لخروج الرأسمالية م
...
/ دلير زنكنة
-
عشتار الفصول:14000 قراءات في اللغة العربية والمسيحيون العرب
...
/ اسحق قومي
-
الديمقراطية الغربية من الداخل
/ دلير زنكنة
-
يسار 2023 .. مواجهة اليمين المتطرف والتضامن مع نضال الشعب ال
...
/ رشيد غويلب
-
من الأوروشيوعية إلى المشاركة في الحكومات البرجوازية
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
تنازلات الراسمالية الأميركية للعمال و الفقراء بسبب وجود الإت
...
/ دلير زنكنة
-
عَمَّا يسمى -المنصة العالمية المناهضة للإمبريالية- و تموضعها
...
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
الازمة المتعددة والتحديات التي تواجه اليسار *
/ رشيد غويلب
المزيد.....
|