|
الحورية على شكل حشرة
منير المجيد
(Monir Almajid)
الحوار المتمدن-العدد: 7093 - 2021 / 12 / 1 - 12:29
المحور:
الادب والفن
الحشرات المائية التي تقضي طور اليرقة تُسمّى «حوريات»، ولا أجد لها إسماً أجمل يُناسب «ذُبابة مايو»، التي ستكون حديث اليوم. الذين يُمارسون صيد الأسماك يعرفون، بالتأكيد، طريقة الصيد بالذبابة، وهي صنع شكلٍ يُماثل شكل ذبابتنا. هي من أقدم الحشرات على الإطلاق (Palaeoptera)، وأسماؤها مُتعدّدة: ذبابة اليوم، يعسوبة مايو، حورية الماء، Ephemeroptera، أو الإسم الأشهر Mayfly. لها أكثر من 630 نوع و 42 فصيلة، الجامع المُشترك بينها أنها تعيش في البيئات النظيفة والمياه العذبة، وعمرها، في طور البلوغ، يتراوح بين ساعات وأيام قليلة.
نهر Tisza، الواقع في شرق هنغاريا، يجذب إليه آلاف الزّوار كل سنة في شهر حزيران، لمراقبة صعود ذبابة من عمق النهر ومماتها بعد حياة قصيرة. الظاهرة تُدعى بـ «إزهار نهر تيزا». في شهر حزيران تكون مياه النهر النظيفة حوالي عشرين درجة، وكي تكتمل باقي الشروط، فإن التوقيت يتمّ في يوم لا تُحرّك الريح فيه ساكناً ولا تمطر في ذات الوقت. علاوة على شكلها الجميل، وحجمها الذي هو أكبر الأنواع ويبلغ 13 سم، فإن هذا النوع هو الذي جعل الهنغاريين يقيمون لها التماثيل البرونزية، ويبنون جسوراً على شكل أجنحتها، لا بل يقيمون مهرجاناً لها في هذا الشهر.
لمدّة ثلاث سنوات تعيش اليرقة في قاع النهر، وتتغذّى على الأعشاب وما تحمله المياه من العوالق، تمرّ خلالها بأكثر من عشرين طور نمو، في مثال باهر على إبداعات الطبيعة الهندسية، قبل أن تصل مرحلة البلوغ. بعدها تصعد الى السطح وتقلع إلى مكان قريب وتنتظر. في الطور الأخير، وهي على سطح الماء، ترمي عنها «زي الغطس» الذي كان مضاداً للماء، إستعداداً للتحليق. في توقيت عجيب لم يستطع العلماء سبر أسراره حتى اليوم، تتواصل هذه الحشرات لدوزنة وقتها. الذكور هي التي تظهر أولاً ثم تلحق بها الإناث بعد نحو نصف ساعة. ولهذا ترتيب عجيب: الأسماك والضفادع والطيور تنتظر هذا اليوم، حيث بوفيه الطبيعة المليئة بالبروتيات في الإنتظار، فتأكلها حتّى تُتخم، لأن الذبابة هشّة ولا تتمكنّ من الدفاع عن نفسها. وهكذا يكون للإناث فرص أكبر في النجاة. ما نجا من الذكور ينتظر، وحال ظهور الإناث تبدأ حفلة العربدة الإباحية، باجتماع ملايين الحشرات، بعضهم يحلو له ممارستها في الهواء، وآخرون لا يستطيعون ضبط هرموناتهم الجنسية، فينقضّون على الإناث حالما يرمين زي الغطس. لهؤلاء المخلوقات هدف واحد أخير، هو السعي إلى إستمرار النوع في الساعات القليلة الباقية، لذا لا أفواه وجهاز هضمي لها لأنه لا وقت للأكل. تقوم بعض الذكور، وقد أعماها الشبق، بتلقيح أي شي يطفو على سطح الماء، قد تكون حشرات اخرى، أو حتى ورقة شجر صغيرة، وأحياناً يحاول الذكور لواطة ذكور آخرين. حينها تبدأ مرحلة الجهاد الثانية للذكور، فبعد أن أعيتهم عملية تلقيح الإناث وأوراق الشجر، تطير الإناث على إرتفاع مترين أو ثلاثة عن سطح الماء، لتدع للذكور التضحية بأنفسهم، مرّة اخرى، للأسماك والضفادع. وبعد أن يؤكل معظم الذكور، وما تبقى يُصبح جثّة هامدة تترنّح على موجات النهر الصغيرة، تبدأ الإناث في وضع بيوضها التي قد تصل إلى ثلاثة آلاف بيضة، وهي تهبط وكأنها طائرة صغيرة تغير على هدف ما وتضع بيوضها على دفعات لتتوزع على عدة مناطق وتهبط إلى العمق، ثم تفقس عن يرقات الطور الأول، وهكذا تنتظر ثلاث سنوات لتُعيد أسطورة حياتها وموتها. ولأن هذه الحشرة لا تُؤذي ولا تنقل الأمراض والأوبئة، وبسبب شاعرية قصر حياتها في طور البلوغ، مثل أزهار الكرز، فقد دفعت بالكتّاب، والشعراء على وجه الخصوص، لكتابة قصائد ودواوين عنها. أختار لكم قصيدة للراهب والشاعر الڤييتنامي Thich Nhat Hanh (ولد عام 1926)، قمتُ بترجمتها، لأنني لم أجد لها ترجمة عربية، مُتعدّياً على كار المُترجمين:
لا تقل إني سأرحل غداً لأنني، حتى اليوم، ما زلت أصل.
أنظرْ متعمّقاً: أصل في كل ثانية لأكون برعماً على غصن ربيعي، لأكون طائراً ضعيفاً بأجنحة لا تزال هشة، أتعلّم الغناء في عشي الجديد، لأكون يرقة في قلب زهرة، لأكون جوهرة تختبئ في حجر.
ما زلت أصل لأضحك وأبكي، من أجل الخوف والأمل. إيقاع قلبي هو ولادة وموت كل ما هو حيّ.
أنا ذبابة مايو التي تتحول على سطح النهر، وأنا الطائر الذي أصل في الوقت المناسب عند حلول الربيع لآكل ذبابة مايو.
أنا الضفدع الذي يسبح بسعادة في البركة الصافية، وأنا أيضًا ثعبان العشب الذي يقترب في صمت لأتغذّى على الضفدع.
أنا الطفل في أوغندا، جلدٌ وعظمٌ، ساقاي رفيعتان كعوديّ خيزران، وأنا تاجر أسلحة أبيع أسلحة فتاكة لأوغندا.
أنا فتاة تبلغ من العمر أثني عشر عاماً، لاجئة على متن قارب صغير، التي ألقت بنفسها في المحيط بعد أن ***** من قبل قرصان، وأنا القرصان، الذي لم يعد قلبي قادر على الرؤية والوقوع في الحب.
أنا عضو في المكتب السياسي، ولدي الكثير من القوة، وأنا الرجل الذي يجب أن يدفع "دين الدم" إلى شعبي، الذي يموت ببطء في معسكر العمل القسري.
فرحتي مثل الربيع، دافئة تعمل على تفتّح الأزهار في كل مناحي الحياة. ألمي مثل نهر من الدموع، يملأ المحيطات الأربعة.
من فضلك سمّني بأسمائي الحقيقية، حتى أتمكن من سماع كل صرخاتي وضحكاتي في نفس الوقت، كي أرى أن فرحتي وألمي مُتماثلين.
من فضلك سمّني بأسمائي الحقيقية، كي أتمكن من الاستيقاظ، كي يبقى الباب المُودّي إلى قلبي مفتوحاً، باب الرحمة.
#منير_المجيد (هاشتاغ)
Monir_Almajid#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رأي سابق في المقتلة السورية
-
الزطّ (الغجر)
-
الشيطان والحمار
-
الزيزان
-
النمل
-
العتائق ونشأة الحياة
-
فوتبول
-
لونا وروبيرت
-
الحمار
-
ورد جوري دمشق
-
المتّة
-
صابون
-
الخنزير
-
سپاگيتي
-
ليس «هاپي اندينغ»
-
ثقافة التواليت اليابانية
-
ماكس، الكلب
-
نهر التمساح
-
صفصاف مازدا
-
جلد عميرة
المزيد.....
-
شاهد.. -موسى كليم الله- يتألق في مهرجان فجر السينمائي الـ43
...
-
اكتشاف جديد تحت لوحة الرسام الإيطالي تيتسيان!
-
ميل غيبسون صانع الأفلام المثير للجدل يعود بـ-مخاطر الطيران-
...
-
80 ساعة من السرد المتواصل.. مهرجان الحكاية بمراكش يدخل موسوع
...
-
بعد إثارته الجدل في حفل الغرامي.. كاني ويست يكشف عن إصابته ب
...
-
مهندس تونسي يهجر التدريس الأكاديمي لإحياء صناعة البلاط الأند
...
-
كواليس -مدهشة- لأداء عبلة كامل ومحمد هنيدي بفيلم الرسوم المت
...
-
إحياء المعالم الأثرية في الموصل يعيد للمدينة -هويتها-
-
هاريسون فورد سعيد بالجزء الـ5 من فيلم -إنديانا جونز- رغم ضعف
...
-
كرنفال البندقية.. تقليد ساحر يجمع بين التاريخ والفن والغموض
...
المزيد.....
-
مختارات من الشعر العربي المعاصر كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
نظرات نقدية في تجربة السيد حافظ الإبداعية 111
/ مصطفى رمضاني
-
جحيم المعتقلات في العراق كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
رضاب سام
/ سجاد حسن عواد
-
اللغة الشعرية في رواية كابتشينو ل السيد حافظ - 110
/ وردة عطابي - إشراق عماري
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
المزيد.....
|