|
السيفيروت وعلم الأرقام
سعود سالم
كاتب وفنان تشكيلي
(Saoud Salem)
الحوار المتمدن-العدد: 7091 - 2021 / 11 / 29 - 19:09
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
أركيولوجيا العدم ١٠٦ - عالم السيفيروت
حسب تحليل المؤرخ الأمريكي ويل ديورانت Will Durant في موسوعته الضخمة "قصة الحضارة " فيما يتعلق بمنبع الصوفية اليهودية، فبعد ظهور الكتاب المقدس في القرن الأول بعد الميلاد؛ آمن المتصوفة بأن الله قد أودع بهذا الكتاب أسرارًا خفية لا يدركها العامة، وجاء في هذا الكتاب أن عملية الخلق قد تمت بوساطة عشرة سيفورات، أعداد أو أصول ومباديئ، هي: روح الله، وفيوض ثلاث منها: الهواء، والماء، والنار، وثلاثة أبعاد مكانية إلى اليسار، وثلاثة أبعاد إلى اليمين. وهذه الأصول هي التي حددت محتويات العالم، كما حددت الحروف الهجائية العبرية الثلاثة والعشرين، الصور والأشكال التي يستطيع بها العقل البشري فهم عملية الخلق. ومن ثم انتقلت هذه العقائد الخفية إلى الأندلس، والتي استمد منها ابن جبيرول نظريته الفلسفية القائمة على وجود كائنات وسطى بين الله والعالم في كتاب «ينبوع الحياة» التي ذكرناها من قبل. هذه الكائنات الوسطى هي السيفيروت، وهي بالضبط عشر سيفيروت، "عشرة سيفيروت من العدم، عشرة وليس تسعة، عشرة وليس أحد عشر" كما جاء في سفر التكوين الكابالي. المصطلح التقني الكابالي سيفيروت sefirot، والذي ظهر لأول مرة في النص المجهول لـ Sefer Yesira "كتاب الخلق" أو "التكوين" الذي يُنسب إلى إبراهيم جد اليهود، حيث يحدد الأرقام العشرة الأولية أو المثالية - من المعنى الحرفي لجذر SFR : العد، حيث استخدم المؤلف كلمة sefirōt بدلاً من misparim المصطلح المعتاد، للإشارة إلى أنها ليست أرقامًا عادية بل أرقامًا تشير إلى مبادئ ميتافيزيقية للخلق. في هذا الكتاب الذي يعتبر من النصوص الكبالية الأولى، في القرن الثاني عشر، تم استخدام السيفيروت بالمعنى الأوسع والأكثر دقة للمستويات العشرة للانبثاق من اللانهائي أو Ein-sof كما وضحنا سابقا. السيفيروت إذا يمكن إعتبارها سمات للإنبثاق، التي من خلالها يكشف اللانهائي عن نفسه وبشكل مستمر يخلق كلا من العالم المادي وسلسلة العوالم الميتافيزيقية العليا - Seder hishtalshelus. وقد تم إعطاء تكوينات وتفسيرات بديلة ومتعددة للسيفيروت من قبل مدارس مختلفة في التطور التاريخي للكابالا، مع كل منها يوضح الجوانب الروحية المختلفة والعلاقة بين اللانهائي والكون والكائنات. تشكل هذه الدرجات العشر العالم الإلهي، أو مظهر من مظاهر الصفات المفترضة للجوهر الإلهي، والتي ترتبط بها ارتباطًا وثيقًا. وفقًا للتسميات الأكثر شيوعًا، ولكن ليس حصريًا بأي حال من الأحوال، فإن العشرة سيفيروت في ترتيب تنازلي : التاج الأعلى - Keter Elyon، الحكمة - Hokma، التمييز - Bina، الجبروت أو القوة والصرامة - Gebura، النعمة - Hesed، الروعة والعظمة - Tif eret، النصر - Nesah، الجلالة - Hod، مؤسسة العالم - Yesod والمملكة - Malkut. هذه السيفيرا الأخيرة، العاشرة، هي مبدأ أنثوي تقبلي، والذي يتلقى انبثاق السفيروت الأعلى وينقله إلى العالم الذي يليه وتمثل الانسجام بين جميع مستويات السيفيروت وحضور الله في الكون. في عالم السيفيروت ، يتم الجمع بين السمات في جوانب مختلفة، غالبًا ما يتم تمثيل ارتباطهم وتسلسلهم في مخطط بياني، يُطلق عليه رمزًا "شجرة السيفيروت". يمكن التمييز بشكل عام بين السيفيروت الثلاثة التي تقع في المرحلة العليا، ذات الطبيعة الفكرية البحتة، والسبعة الأدنى، المسماة سيفروت الصرح أو البناء، والتي تلعب دور الأسباب الثانوية؛ بين السيفيروت التي تقع على الجانب الأيمن من الشجرة، والتي تكون طبيعتها مفيدة وخيرة تمامًا، و السيفيروت على اليسار، والتي تمثل الحكم الصارم ؛ والجبروت والجلالة وهي مبدأ التوازن الذي يعيد الانسجام بين هاتين المجموعتين الأخيرتين. من القضايا الرئيسية التي أثيرت حول عقيدة السيفروت - والتي تعكس التأثيرات الغنوصية الأصلية - تتعلق بإدخال مبدأ أنثوي، ملكوت، مع الشكينة la Shekina التي تعبر عن حضور الله، في العالم الإلهي، وكذلك فكرة "الدينونة أو القيامة"، والتي تعني أن جذر الشر يرتفع أيضًا إلى مستوى الألوهية. ترى الكابالا أن الروح البشرية تعكس الإله "خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكرًا وأنثى خلقهما"، وعلى نطاق أوسع، كل المخلوقات على أنها انعكاسات مصدر كينونتهم وهو النور اللانهائي. لذلك يصف السيفيروت أيضًا الحياة الروحية، ويفكك العمليات النفسية للإنسان، ويشكل النموذج المفاهيمي في الكابالا لفهم كل شيء في العالم. هذه العلاقة بين روح الإنسان وطبيعة الإلهي يعطي الكابالا واحدة من الاستعارات المركزية أو المباديء الأساسية في وصف الألوهية، وهي فكرة النور أو الضياء ـ أور. ومع ذلك، تؤكد الكابالا مرارًا وتكرارًا على ضرورة تجنب كل التفسيرات المادية أو التشبيهية. بطبيعة الحال، إنبثاق السيفيروت عملية تتطلب عملية التزيمتزوم أو الإنفباض والإنكماش للنور اللامتناهي التي تحدثنا عنها سابقا. مع نظرية التزيمتزوم tzimtzum حسب الكابالي آشلاغ، يفقد العالم كماله البدائي، ليظهر في نسخته الثانية : في شكل العوالم الخمسة. ونظرًا لكون هذه العوالم غير كاملة، فإن الإجراءات الإصلاحية والترميمية التي يمكن أن يقوم بها الإنسان لها مكان في غاية الأهمية في هذا النظام، ويمكن إعتبار السعي لتحسين العالم والعمل على إيصاله للكمال، المعنى الحقيقي والنهائي لعملية الخلق. وفقًا لأشلاغ، فإن هذا الإصلاح tikkoun، هو ما يتحدث عنه Ets Hayyim، عندما يقول أن سبب إنشاء العوالم هو " إظهار كمال أفعاله وأسمائه وصفاته ". والأفعال actions هي، حسب قوله، "الإصلاحات التي تحدث في العوالم …". سوف نلاحظ التناقض الغريب في هذه النظرية : من خلال التسبب في فقدان العالم لكماله بواسطة عملية الخلق، فإن نظام tzimtzum يجعل من الممكن عملية جبر الضرر وترقيع هذا العالم لتسمح للكمال بالظهور ثانية ! لماذا الانعطاف وهذه اللفة؟ وما الهدف من العودة إلى الوضع الأولي حيث كان العالم مثاليًا ؟ لكن ما هي عملية التزمزم بالضبط بالنسبة لآشلاغ ؟ يقول بأنه قبل وبعد tzimtsum، هناك إرادتان تعملان بل وتشكلان صميم العالم : إرادة العطاء donner وإرادة الإستلام والتلقي recevoir. كما يعيّن أشلاغ إرادة العطاء تحت أسم " مشروع الخلق . ولكن لكي تحقق هذه الإرادة غاياتها، هناك حاجة إلى كائن ما ليستلم ويستقبل ما يريد أن يعطيه. الآن ، بالنسبة لآشلاغ Ashlag، فإنه من البديهي بأنه لا توجد قيود ولا إجبار أو إرغام من أي نوع في العوالم العليا، وبالتالي فإن إرادة العطاء تعني بالضرورة وجود إرادة الاستلام. بلغة الكابالا سنقول إن إرادة العطاء هي " النور-or بينما إرادة الاستلام هي " الوعاء - keli الذي يستقبل هذا النور. يُظهر آشلاغ من خلال تحليل دقيق المراحل التي تنبثق فيها إرادة الاستلام من إرادة العطاء، وتؤدي إلى تكوين إرادة تلقي مستقلة أثناء هيكلة وتكوين العوالم قبل وبعد عملية الإنكماش. هناك 5 مراحل تتوافق مع الـ 5 "كائنات أو تشخصات (partsoufim) المذكورين في الكابالا اللوريانية. الكائن الخامس يحمل اسم Malkhout - الملكوت أو الملكية، التي تتميز بإرادة كاملة ومستقلة للتلقي " إرادة التلقي من أجل التلقي". إن الإهتمام بهذا التيار الديني الغريب، يرجع بالدرجة الأولى لرغبتنا في هذه السلسلة من المحاولات للتنقيب عن الجذور العميقة والآثار التي تتعلق من قريب أو من بعيد بفكرة العدم ومفهوم العدمية من الناحية الفلسفية. ورأينا أن هناك أنواع من الباطنية أو التصوف العرفاني تحرص على البقاء في نطاق توحيد الله وتنزيهه عن الاندماج بالمخلوقات، فالإله بهذا المعنى يتجاوز الإنسان والكون والتاريخ ويبقى يسبح في السماء كمتعال لايمكن تعريفه هو أقرب إلى العدم من الوجود، ويحاول المتصوف من خلال المجاهدة والزهد والصلاة وعشقه للإله أن يتقرب منه للمعرفة والمشاهدة. لكن هناك نوعا آخر للتصوف ينتهي به الحال إلى “وحدة الوجود” و”الحلولية”، حيث يؤمن المتصوف بالواحدية الكونية وبأن الإله يحل في الطبيعة والإنسان والتاريخ ويتوحد معها، رغم أن هذا التوحد يظل رمزيا وليس ماديا، وبدلا من المجاهدة والزهد يهتم المتصوف هنا بالفلسفة وبالمعرفة الباطنية التي يحاول فيها تفسير اندماجه بالإله وتألّهه، فهذا التصوف أقرب للعلم من الدين لأنه يسعى لفهم الإنسان وتأليهه بدلا من تكريس عبوديته لله. ونجد أثر هذا المذهب الحلولي الغنوصي في بعض أشكال التصوف الفلسفي داخل أديان عدة بما فيها الإسلام، لكنه في الكبالا يبلغ أقصى درجات التطرف حتى يصبح ضربا من محاولات التدخل في الإرادة الإلهية، أملا في أن يتمكن المتصوف من التحكم في الكون من خلال الاندماج بالإله وفهم آلية عمل الكون وسر الخليقة، أو على الأقل تصحيح الكون بعملية التيكون. ويرى بعض المناهضين للتصوف، أن هذا الفكر "الغنوصي المتطرف" حسب قولهم، هو الذي مهّد لحركات الإلحاد في عصر النهضة المستمرة حتى اليوم، والتي زعمت أن اكتشاف قوانين نيوتن وغيرها من السنن الكونية الفيزيائية يبرر تأليه الإنسان وعدم احتياجه للإله. ويستدلون بما يؤكده الفليسوف باروخ إسبينوزا الذي تأثر بالصوفية الحلولية واعتبر أن حلول الإله في المادة يسمح للطبيعة بأن تصبح شبيهة بالإله، وأن الصوفي صاحب العرفان يصبح قادراً على التحكم في الإله والطبيعة والكون.
يتبع
#سعود_سالم (هاشتاغ)
Saoud_Salem#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هيا بنا نهاجر
-
الحلم المصادر
-
ليلة ممطرة
-
اللامتناهي : الله أم العالم ؟
-
المرأة الأولى
-
أحزان العنكبوت الأزرق
-
ثورة إبليس
-
حكاية للأطفال
-
سارق النار
-
التمرد والأسطورة
-
تمرد البروليتاريا الإلهية
-
لا تنظري للوراء
-
تجاوز جدلية السيد والعبد
-
ليليث والصياد
-
بطن الحوت
-
سيزيفوس
-
الصمت
-
صاحب السلم
-
اللعنة على العالم
-
الفيض الإلهي
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|