|
ظل آخر للمدينة43
محمود شقير
الحوار المتمدن-العدد: 7087 - 2021 / 11 / 25 - 14:44
المحور:
الادب والفن
لشبابيك القدس القديمة وظائف كفاحية تبدت أيام الانتفاضة الأولى على هذا النحو أو ذاك. كانت الشبابيك العالية المطلة على الأزقة والحارات، تتحول إلى مواقع لسكب الزيت المغلي ولإسقاط أصص الورد المليئة بالتراب، على جنود الاحتلال الذين يتعقبون شباب الانتفاضة. نساء البيوت هن اللواتي كن يسكبن الزيت على الجنود، ويسقطن أصص الورد على رؤوسهم، ويراقبن في الوقت نفسه تحركاتهم عبر الشبابيك، يرشدن الشباب الذين يشتبكون مع الجنود في كر وفر، إلى أين يتجهون للنجاة من الاعتقال. إبان الانتفاضة الأولى، شهدت القدس انفتاحاً في العلاقات الاجتماعية. ودخلت النساء ساحة النضال الشعبي جنباً إلى جنب الرجال، وبدأت تتخلق قيم جديدة مبنية على احترام الكائن الإنساني سواء أكان رجلاً أم امرأة، وتراجعت إلى حد ما عناصر الشك والريبة في النساء، والخوف مما يمكن أن يتعرضن له أو يعرضن أنفسهن له من ممارسات، في حالة خروجهن إلى مواقع النضال أو إلى اجتماعات اللجان الشعبية، وما يترتب على ذلك من اختلاط بينهن وبين الرجال. غير أن ذلك لم يستمر إلا لبعض الوقت. تراجعت الانتفاضة بسبب إجراءات بيروقراطية وأخطاء، وتراجعت معها القيم الجديدة التي كانت على وشك أن تتجذر في وجدان الناس. وعاد المزاج المحافظ للانتعاش من جديد، وتفاقم القمع الإسرائيلي، وتصاعدت إجراءات تهويد القدس وإحكام السيطرة على المكان. من يرصد شبابيك القدس من الخارج يجد تعبيراً ما، عن حالة الصراع على المكان. تبدو الشبابيك حائلة الألوان، يأكلها الصدأ وبعضها مخلع الأباجورات، لا يأبه بها أهلها ولا يحيطونها بالعناية اللازمة. ويترافق مظهرها الكئيب مع مظهر الحيطان الحجرية التي تبدو كالحة هي الأخرى، ينمو العشب في الشقوق البارزة بين حجارتها، وتتجمع البيوت على أنفسها كما لو أنها تحمي أنفسها من ضربة قاصمة ستأتي بعد حين. وتظهر في فضاء الأسواق في البلدة القديمة بوابات متطامنة تنفتح على سراديب معتمة تفضي إلى أدراج، تقود بدورها إلى شقق سكنية قديمة تقاوم عسف الزمان، وتؤوي ساكنيها من المقدسيين الذين يتشبثون بالبقاء في مدينتهم، رغم كل إجراءات المحتلين الإسرائيليين التي تتهددهم باقتلاع. هنا تبدو المفارقة. فالمقدسيون ليسوا معنيين بالمشهد من خارجه. ولذلك يتركون للصدأ أن يأكل شبابيكهم وأباجوراتها. يتركون هذه الأباجورات عرضة للانخلاع ولضياع اللون تحت عسف الشمس والريح والمطر. إنهم معنيون بالمشهد من داخله، أي بالحيز الذي يتسع لهم ولأبنائهم. في القدس القديمة الآن ضائقة سكنية مريعة، زادتها حدة نية سلطات الاحتلال سحب هويات المقدسيين الذين يقيمون خارج القدس، ما يعني حرمانهم من العودة إليها. هذه النية المبيتة دفعت الآلاف من أهل المدينة الذين كانوا يقيمون في رام الله وبعض مدن أخرى في الضفة الغربية، إلى العودة إلى القدس للإقامة فيها. وبالطبع، فليس من السهل الحصول على ترخيص، لإضافة غرف أو لإقامة بناء جديد. والأسر تتكاثر والأولاد بحاجة إلى مساكن وإلى حيز أكبر مما هو متوفر. والمقدسيون يتفننون، تفنن المضطر، في تكييف الحيز المتاح لهم، وإعادة تقطيعه من الداخل، لخلق فرص استيعاب جديدة، ولضمان الاستمرار في الإقامة في المدينة. ولذلك، ليس غريباً أن يستثمر المقدسيون كل حيز متاح لهم لتحويله إلى غرف للسكن، ولا تلبث أن تظهر في الحيطان القديمة شبابيك مرتجلة، يجري استنباطها لكي تهب مخزناً مكرساً لاستيعاب الأثاث القديم، أو قبواً مهجوراً لا قيمة له، شيئاً من نور وبصيصاً من حياة. إنه اعتناء لا مثيل له بالحيز الداخلي، أمام ضائقة السكن تلك. ثم إن أي اعتناء بالمشهد من خارجه، قد يكلف مالاً يمكن استثماره في زمن الضائقة الاقتصادية التي تعيشها القدس في ما هو أنفع وأجدى، وقد يستدعي هذا الاعتناء شبهة بناء جديد وما يعنيه ذلك من مخالفة لشروط البناء، ما يستدعي حضور الأجهزة المعنية التي قد تستصدر قراراً بهدم البناء، أو بفرض غرامة مالية باهظة على صاحبه. ويحدث في حالات أخرى أن يأتي مستوطنون ومعهم جنود مسلحون، لتنفيذ أوامر بإخلاء بيوت من ساكنيها المقدسيين، بحجة ملكيتهم، أي المستوطنين، لهذه البيوت، عن طريق الشراء المزور، أو بادعاء ملكيتهم لها منذ أيام الانتداب البريطاني على فلسطين. مع ذلك، ورغم الإجراءات الإسرائيلية المتشددة ضد من يجازف ويبني بيتاً دون ترخيص، أو يضيف غرفاً جديدة إلى بيته القديم، فإن الحاجة الملحة إلى سكن، تضطر المقدسيين إلى مخالفة الشروط المجحفة التي لا تسهل لهم فرص البناء، ويقومون ببناء بيوت جديدة ويضيفون غرفاً إلى غرفهم القديمة، ويحاولون ابتداع طرق في التمويه والتخفي، قد تنجح حيناً ولا تنجح في الكثير من الأحيان. تتعرض البيوت الجديدة والغرف المضافة إلى الغرف القديمة للهدم، تنهار الحيطان التي انبنت بالجهد والعرق، وتتكوم الشبابيك بما فيها من زجاج وألمنيوم وحديد فوق الركام. وتتواصل معاناة المدينة. وتتفاقم جراء ذلك ضغوط نفسية وأزمات، ومع اكتظاظ الحيز بالأفراد من أجيال مختلفة، تتضاءل الخصوصية إلى أبعد الحدود. ولعله من المناسب أن تجري قراءة العلاقة بين هذا الاكتظاظ في القدس القديمة، وانتشار المخدرات في أوساط نسبة غير قليلة من شبابها. لعله من المناسب قراءة القلق الذي يخيم على المدينة في ضوء ما تعانيه من حصار. ولهذا، قد تبدو شبابيكها حزينة لمن ينظر إليها ملياً، كما أفعل أنا كلما جلست في مقهى من مقاهيها أو تمشيت في أحد الأسواق. يتبع..
#محمود_شقير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ظل آخر للمدينة42
-
ظل آخر للمدينة41
-
ظل آخر للمدينة40
-
ظل آخر للمدينة39
-
ظل آخر للمدينة38
-
ظل آخر للمدينة37
-
ظل آخر للمدينة36
-
ظل آخر للمدينة35
-
ظل آخر للمدينة 34
-
ظل آخر للمدينة33
-
ظل آخر للمدينة32
-
ظل آخر للمدينة31
-
ظل آخر للمدينة30
-
ظل آخر للمدينة29
-
ظل آخر للمدينة28
-
ظل آخر للمدينة27
-
ظل آخر للمدينة26
-
ظل آخر للمدينة25
-
ظل آخر للمدينة24
-
عن المثقف الفلسطيني ورهانات الحداثة
المزيد.....
-
-البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو- في دور السينما مطلع 2025
-
مهرجان مراكش يكرم المخرج الكندي ديفيد كروننبرغ
-
أفلام تتناول المثلية الجنسية تطغى على النقاش في مهرجان مراكش
...
-
الروائي إبراهيم فرغلي: الذكاء الاصطناعي وسيلة محدودي الموهبة
...
-
المخرج الصربي أمير كوستوريتسا: أشعر أنني روسي
-
بوتين يعلق على فيلم -شعب المسيح في عصرنا-
-
من المسرح إلى -أم كلثوم-.. رحلة منى زكي بين المغامرة والتجدي
...
-
مهرجان العراق الدولي للأطفال.. رسالة أمل واستثمار في المستقب
...
-
بوراك أوزجيفيت في موسكو لتصوير مسلسل روسي
-
تبادل معارض للفن في فترة حكم السلالات الإمبراطورية بين روسيا
...
المزيد.....
-
تجربة الميج 21 الأولي لفاطمة ياسين
/ محمد دوير
-
مذكرات -آل پاتشينو- عن -العرّاب-
/ جلال نعيم
-
التجريب والتأسيس في مسرح السيد حافظ
/ عبد الكريم برشيد
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
المزيد.....
|